طارق العلمي
عملت بعض القراءات للمتن الصوفي بمنظورها التجريدي على صياغة قضايا متعددة، أحدثت تقاطعات موهومة في بنية التصوف، من قبيل أن الممارسة الصوفية تجربة داخلية منفصلة عن واقعها، تتوجه بتأثيرها داخل وجدان الصوفي بإرادة التعلق بعالم المثال، أو أن الصوفي يعيش مسلوب الإرادة مجبورا على الفعل، غير مؤثر في الواقع إلا بما تمليه عليه إرادة الشيخ، وقصد تقويم هذه الإدعاءات سوف نحاول توظيف مفاهيم ثلاث لبيان حقيقة العمل الصوفي وهي كالآتي: "الواقعية" و "التفاعل" و "التعاون".
أ- الواقعية: لاشك بأن البحث عن أوجه الاتصال بين الواقع والمثال في الخطاب الصوفي يمكن تلمسُهُ انطلاقا من رؤية الإنسان في المأثور الصوفي، باعتباره وحدة متكاملة ، تتعالق داخله مطالب الروح والجسد، فالشريعة في أحكامها وحِكمها جامعة لهذه الأبعاد، متناسقة مع الأصل الإنساني حينما كان نفخة روحية، وبعد تشكله الطيني، فكما أن هناك أحكاما ظاهرة تضبط سلوكيات المكلف، فكذلك هناك أحكام تتوجه إلى جوانيته، تستدعي العمل على تقويمها بما يحقق إنسانية الإنسان، فوجب الوصل بين الجانبين دون استغناء جانب عن آخر.
ولعل حالة الاستهلاك الواردة في الخطاب الصوفي، توحي بوجود انفصال عن الواقع المادي، ودخول الصوفي في كينونة عالم المثال، والحال أن أحوال الهيبة والاستغراق التي تستولي على شعور الصوفي ما هي إلا رؤية للوجود، ترتبط فيها المظاهر بموجِدها، وعناصر الأسباب بمسبباتها، فهي لا تنفك تستحضر الإرادة العليا في تصاريف الكون، وتحاكم الأفعال والسلوكيات بارتباطها بالقصد الإلهي، دون أن يدخل في صفو هذه العلاقة ما يكدر نقاوتها، إلا أنه ينبغي الإشارة إلا أن هذه الرؤية الشمولية للوجود ظلت عبر التاريخ تشكل ميزان التوازن في شخصية الفرد داخل المجتمع، وليس ذلك إلا للصوفي المتمكن الذي صار أنموذجا للإقتداء، فما دام السالك لم تتوطن قدمه في ميدان الإرشاد التربوي إجازة واستحقاقا فلا يكون في مرتبة المثال الشاهد التي تأخذ أفعاله وأحواله محلا للاهتداء، وذلك أن معاني الفناء والاستغراق وغيرها لا تدل على كمال الوصول، وإنما هي مراحل في معراج السلوك، ولذلك يقول البادسي: "ولابد للولي بعد نهايته من الرجوع إلى الخلق ضرورة على وجه الرحمة والإفادة"[1]
وأيضا فإن الممارسة الصوفية تعامل الظروف الزمانية والتاريخية على أنها موصولة على الدوام بأفق القدس، فكأنما الصوفي يرحل بقلبه إلى عوالم ما وراء المادة، ثم يعود إليه وقد حمل إليه الكثير من الآثار الروحية التي تتجلى في الواقع المعيش[2]، تقتضي التعامل مع الواقع وفق قيم الصبر عند القضاء، والرضا بالمقدور، والتسبب مع التوكل، متوجهين بقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعثمان بن مظعون: خرجنا من قدر الله إلى قدره[3]. وعليه فأساس الممارسة الإصلاحية لدى رجالات التصوف الانطلاق من إصلاح الباطن الذي يستمد سداده من التوفيق الإلهي، باعتبار أن الظواهر أسبابا ومسببات إنما هي أثر التصرف الإلهي، لذا ينبغي البدء من هذا الشعور الإيماني في التعامل مع الأشياء، ومواجهة التحديات، وهنا تتعالق الأبعاد المعنوية والأسباب المادية في تشكيل منطق الصلاح والإصلاح في الوعي الصوفي.
ب- التفاعل: شكلت ثنائية الكسب والتجرد جدلية عَسُرَ فهمها بالنسبة لدارسي التراث الصوفي، بسبب أن الأمر يجمع بين مجالين يبدوان في غاية التناقض، والحال أن جوهر التصوف قائم على الجمع بين المختلفات والتأليف بينها في سياق جدلية التحلية والتخلية من المنظور الصوفي، وعليه فإن الممارسة الصوفية تعمل على الجمع بين التسبب والتجرد، من منظور أن مباشرة الأسباب لا يوجب التعلق بها، مما يؤدي إلى نسيان مسببها، بل يتوجب على العبد التصرف في الأشياء باعتبارها أمانات ينبغي مراعاة حق موجدها، وليس للمكتسب نوع تأثير في الأشياء، وإنما الخلق والأمر لله تعالى، فلزم وفق ذلك أن يكون القلب متجردا من الحظوظ والمنازعة لحقوق الربوبية بسلب التأثير في الأشياء مع إزالة النسبة منها، كما أن القالب مباشر للأسباب قائم بحق الشرع فيها، "فلابد من الأسباب وجودا، ولابد من الغيبة عنها شهودا"[4].
والملاحظ في تراجم أهل الولاية أنهم كانوا يحلون بأوصاف حرفهم، كالدباغ والفخار والصياد والنجار...الخ، وأن تلك المظاهر التي تميز حياة الزهاد من حيث هي ابتعاد عن مترف الحياة الدنيا إنما هي اختزال لمفهوم الزهد في بعض مظاهره، رغم أن حقيقة الزهد من المنظور الصوفي حالة معنوية لا تشكل فيها تلك المظاهر إلا جزءا من كلية مفهوم الزهد، قد يكون الداعي إليها إزالة صفات العجب والكبر والاعتزاز بالنفس، مما يكون سببا في حجب السالك عن الرقي في مقامات القرب.
وعليه فمن أجل تشكيل الإنسان على أساس قيم الصلاح سَنَّ أهل الولاية من الوسائل المختلفة ما يناسب أحوال المريدين، "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، وذلك لهدم ما في الباطن من الحجب، حتى تشرق فيه أنوار الطاعات، فتنعكس على جوارحه، بل يتعدى تأثيرها إلى من حولَه، فالممارسة الصوفية تطلب الصلاح الذي ينبع من عمق الإنسان وهو الباطن، حتى يَصفُوَ القصد، فتكون الأفعال خالصة لا تمازجها الحظوظ والمطالب النفسية، فالاغتراب والاختلاء وغير ذلك من الوسائل ليست مقصودة بالذات، ولا مطلوبة على الدوام، وإنما هي مقدمة لصلاح أصل الفعل الإنساني، وكل ما يؤدي لهذا المقصد العظيم من الوسائل، فحكمه حكم مقصده، حيث إذا صلح الأصل سرى صلاحه ما يصدر عنه من الفروع، فالصوفي يتشوف إلى أن يدخل إلى الأسباب بربه لا بنفسه، فيكون واقفا مع مراد الله، فما دخلت إليه بنفسك وكلك إليه، وما أدخلك الله فيه تولى إعانتك عليه، والله تعالى: )وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق؛ واجعل لي من لدنك نصيرا( [الإسراء: 80][5].
ج- التعاون: لعل من أهم القضايا التي أثيرت حول التصوف ما ارتبط بعلاقة المريد بالشيخ، التي شكلت بؤرة الخلاف بين الصوفي والآخر، كما أتاحت للبعض مادة خصبة لإبراز أوجه هذه العلاقة من زوايا متعددة، اختلط فيها الجانب السياسي بالجانب النفسي والروحي...، إلا أن منطق الدراسة يقتضي أن تكون المقاربة من جنس الموضوع، وما دام أن مقصد هذا التعاقد والغاية منه هو إرادة التقرب، وتحصيل أمر تزكية الباطن امتثالا لمضمون خطاب الشرع، فلابد من البحث عن جوانب هذه العلاقة في سياق هذا المضمون والمقصد الشرعي، إضافة إلى ذلك أن الشرع الحكيم شدد على العلاقات البينية بين أفراد المجتمع، وحدد لها من الروابط الأخلاقية ما يجعلها مشدودة بأفق القيم، باعتبارها المحدد الرئيسي في بنية هذه العلاقة، والتي ينبني عليها باقي العلاقات التعاونية الأخرى.
فوجه العلاقة التي تشد المريد بالشيخ يمكن تلمسها في سياق النظرة الشمولية للخطاب الشرعي، التي ترفع من هذه الأواصر إلى مستواها الروحي الذي يتجلى في قيمة المحبة الخالصة من شوائب الحظوظ، فأساس هذا التعاقد مبني على أصل المحبة، ومعلوم بأن المحبة لا إكراه فيها، فلا يمكن معه تفسر علاقة الشيخ بالمريد على وجه التسلط والاستلاب، وإنما الأولى تُأخذ على مبدأ الاختيار، لأن المحبة فعل مبني على الاختيار، والاختيار لا يناسبه إلا مبدأ الترغيب، ولذلك نجد الممارسة الصوفية من أبرز ما تختص به هو توليد الرغبة من الداخل، أي أن السلوك التعبدي يدفعه الشوق لما يجده المتقرب من لذة القرب، ولا يمكن تبخيس هذه الأوجه القيمية في مقاربة الخطاب الصوفي على حساب توجهات أخرى سياسية كانت أو فكرانية.
هوامش
[1] - المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف: البادسي، تحقيق: سعيد عراب، ط. الثانية، 1414ﻫ/1993م، المطبعة الملكية- الرباط-، ص 27.
[2]- سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم: طه عبد الرحمن،المركز الثقافي العربي، ط. الأولى: 2012م، ص162.
[3] - أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم 5729. ومسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، رقم 2219.
[4] - لطائف المنن: ابن عطاء الله، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار المعارف –القاهرة- ط. الثانية، ص 52.
[5] - غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية: ابن عباد، وضع حواشيه، عبد الله سليم المختار، دار الكتب العلمية-بيروت- ط. الثانية، 1428/2007م، ص 9.