مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

مصطلح الإيثار

       

الإيثار في اللغة : من مادة أثر: الهمزة والثاء والراء، له ثلاثة أصول : تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء الباقي.[1]

 وقد عرفه الجرجاني قائلا : ” الإيثار أن يقدم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة”[2]

الإيثار في القرآن الكريم :

 ورد الإيثار في القرآن الكريم بمفاهيم متنوعة أولها :

إيثار العباد لله عز وجل عما سواه، هذا المعنى الذي تجلى في أسمى صوره في قصة فرعون، إذ واجهه أتباع سيدنا موسى عليه السلام بقولهم : ” قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا”[3]

كما ورد الإيثار في القرآن الكريم بمعنى وجوب إيثار العباد الآخرة على الدنيا، إذ حذر القرآن الكريم عباد الرحمن وخوفهم من ذلك، فقال الله عز وجل في سورة النازعات : ” فأما من طغى  وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى”[4]، وقال في سورة الأعلى : “بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى”[5]

 فهذا إشعار للعباد بحقيقة الآخرة، بوجودها وهولها، مع التأكيد على أنها المآل الحتمي للخلق، فمن أراد السعادة الأبدية لابد له من إيثار الدائمة على الفانية، فجاء الخطاب القرآني ليحث العباد على جعل هذه الحقيقة مطلبا قارا في سعيهم الدنيوي، الذي لا يعدو على أن يكون مجرد جسر لعالم الخلود والديمومة، فأحرى بالعاقل أن يجعلها مناط نشدانه وقمة مطلبه، ليتوافق والتقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني، ومسار هذه النشأة في الدنيا ومآلها في الآخرة التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .

وفي مقابل إيثار العباد لله عز وجل، ورد الإيثار في القرآن الكريم بمعنى إيثار الله عز وجل للعبد عما سواه من الخلق، ومنه ما جاء في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: ” قالوا تاللهِ لَقد آثرَك اللّه علينا وإِن كنّا لَخاطئينَ “[6]

 ثم إيثار الآخر على النفس: ومن ذلك الآية الكريمة : ” والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”[7]، ” نزلت هذه الآية في الأنصار ” تبوءوا الدار ” أي سكنوا المدينة قبل المهاجرين…” يحبون من هاجر إليهم” من أهل مكة.” ولا يجدون في صدورهم حاجة ” مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة أو اختلال أحوال.”ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ” وقيل نزلت الآية في رجل منهم أهديت له رأس شاة فطاف على سبعة أبيات حتى انتهى إلى الأول . وقيل نزلت في رجل منهم نزل به ضيف فقرب منه الطعام وأطفأ السراج ليوهم ضيفه أنه يأكل، حتى يؤثر به الضيف على نفسه وعلى عياله، فأنزل الله الآية في شأنه.”[8]

تنوع ورود الإيثار في الخطاب القرآني وتدرج ليشمل معاني ترتبط تارة بعلاقة العبد بربه وهي أولوية عقدية، إذ وجب إيثار الخالق عز وجل على سائر المخلوقات والموجودات، وهو اعتراف ومعرفة للنعم التي أكرمنا بها الله جل وعلا. وتارة أخرى لتوضيح ما ينبغي للعبد العاقل أن يتمثله من نشدان للعالم الآخر لما يجسده من معالم الخلود والديمومة، إذ كل ماهو فان لا قيمة له، ثم في تنظيم جانب المعاملات الذي يحكم  علاقة الخلق بعضهم ببعض، وما لذلك من انعكاس على رفعة أخلاق المجتمع وسموها، فيتحقق بذلك الترشيد النبوي الموافق للإذن الرباني، خاصة وأن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت أول لبنة في بناء الصرح الإسلامي، ثم ترسيخ عرى الإيثار من خلال تخصيص المهاجرين بالفيء،  الذي حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون برضى وقناعة من الأنصار، ومن خلاله وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس أهم خصلة قد تشد أزر هذا المجتمع الجديد. فباجتماع هذه المفاهيم لمعنى الإيثار التي جاءت في القرآن نتبين أنها منظومة متكاملة حرصت على ضبط حدود علاقة العبد بربه، ثم بدنياه وآخرته، وكذلك ما يرسم ويعضد أواصر التعامل بين المسلمين .

الإيثار في الحديث النبوي الشريف .

جاءت السنة مؤكدة وموطنة للمفاهيم التي شرعها القرآن للإيثار، من ذلك ما روى الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ” من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى “[9] .وفيه يحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على إيثار الدار الآخرة على الأولى كما جاء في القرآن الكريم .

ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أراد أن يغزو فقال : يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم قوما ليس لهم مال و لا عشيرة فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة و ما لأحدنا من ظهر جمله إلا عقبة كعقبة أحدكم قال : فضممت إلي اثنين أو ثلاثة ما لي إلا عقبة أحدكم”[10] . وجاء عن ثابت بن عبيد الأنصاريّ ، قال : سمعت عبد الله بن مغفَّل الْمزنيَّ يقول : قَال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : “من كان لَه قمِيصانِ فليكس أَحدهما أَو لَيتصَدَّق بِأَحدهما”.[11]

 وهذا مما ذكرناه من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسييره للمجتمع الجديد، إذ طبعه منذ بداية نموه بأوصاف الإيثار والبذل، ليكتمل هذا النمو في أحسن صوره وأرقاها .

أقوال الصوفية في الإيثار :

حرص الصوفية رضوان الله عليهم على الالتزام بالكتاب والسنة، باذلين قصارى جهدهم في تمثل الأخلاق النبوية الشريفة، وجعل همتهم موجهة إلى امتثال مجمل الخصال ومن ضمنها الإيثار إذ  قال رويم : التصوف مبني على ثلاث خصال : التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.”[12]، ويقول أبو الحسين النوري: نعت الفقير السكون عند العدم و البذل و الإيثار عند الوجود”[13]

 وقد اختلفت التعريفات التي جاءت عن أهل الله للإيثار، كل حسب مقامه وحاله، فتكون التعربفات تتراوح بين مستويات مختلفة ـ شأنها في ذلك شأن الخطاب الصوفي ـ لتنتج في آخر الأمر نسقا اصطلاحيا متكاملا مبنى ومعنى.

فيعرفه الهجويري بقوله: “وحقيقة الإيثار أن تحافظ على حق الذين تجتمع بهم، وأن تفضل صالحهم على صالحك، وأن تتعب نفسك لدوام سرورهم، لأن الإيثار هو القيام بمعاونة الأغيار، مع استعمال ما أمر به الجبار رسوله المختار حيث قال: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” والإيثار على نوعين : إيثار في المحبة وإيثار في الصحبة. والإيثار في الصحبة يكون بشيء من التعب والجهد، وأما الإيثار في المحبة فبالروح  والراحة .”[14]

وقد جعل الشيخ عبد الله الهروي تعريفه للإيثار منسجما ومتوافقا مع المعاني التي ورد بها في القرآن الكريم،  مصنفا إياه إلى ثلاث درجات موضحا السبل التي تيسر الوصول إلى هذه الدرجات حيث قال : الإيثار تخصيص واختيار الأثرة، تحسن طوعا وتصح كرها وهو على ثلاث درجات :

الأولى : أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يحرم عليك ديناً ، ولا يقطع عليك طريقاً ، ولا يفسد عليك وقتاً . ويستطاع هذا بثلاثة أشياء : بتعظيم الحقوق ، ومقت الشح ، والرغبة في مكارم الأخلاق .

والدرجة الثانية : إيثار رضى الله تعالى على رضى غيره ، وإن عظمت فيه المحن ، وثقلت به المؤن ، وضعفت عنه الطول والبدن. ويستطاع هذا بثلاثة أشياء : بطيب العود ، وحسن الإسلام ، وقوة الصبر .

والدرجة الثالثة : إيثار الله تعالى ، فإن الخوض في الإيثار دعوى في الملك ، ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله ، ثم غيبتك عن الترك”[15].

خلص القاشاني في تعريفه للإيثار إلى نفس المعنى السالف الذكر مع زيادة في التفصيل فقال : ” وأصله في الأخلاق : إيثار الغير على نفسك بما يختص بك، وإن كان بك حاجة. 

وصورته في البدايات : إنفاق ما فضل من وقتك، وترك الذخيرة مقتا للشح طوعا.

وفي الأبواب : قطع التعلق وحجب حب المال عن النفس .

وفي المعاملات : اختيار رضا الله  على رضا الغير في البذل، وإن كان ذلك الغير نفسك.

ودرجته في الأصول : بذل المال والروح في سبيل الله، لئلا يعوقك شيء من السير إلى الله.

وفي الأودية : رفع الهمة عن التعلق بما دون الحق وصونه عما سواه .

وفي الأحوال : عدم الالتفات إلى ما سوى المحبوب بتوحيد الهم والوجهة .

وفي الولايات : الفناء عن الأفعال والصفات بإيثاره لِمن له الكل .

وفي الحقائق : الانفصال عن الكونين، وإفناء البقاء .

وفي النهايات : محق الآنية، وفقد  البقية، ونقص الرسوم بالكلية .[16]

إن أهم ما يميز تعريف القاشاني للإيثار أن جعله متدرجا يتواءم وحال الصوفي في مختلف مراحل سيره التربوي، إذ يبتدأ بإيثار الغير فيما للفرد به حاجة، على أن يغدو الإيثار في ما هو أسمى، تجاوزا للرسوم ومحقا للأنا في أجل معاني الفناء في محبة الخالق عز وجل وشهود كرمه ومَنٍّه، فيتبين أن  إيثاره في البدايات إيثار منه عليه في النهايات .

وعنه أيضا يقول الشيخ السري السقطي  :

” لن يكمل رجل: حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك : حتى يؤثر شهوته على دينه” [17] .فيكون بذلك إيثار الدين على الشهوة وتغليبه عليها محققا لكمال العبد، حيث إنه لا يبلغ هذه الخصلة إلا بعد أن يكون قد تسلح بطهارة النفس وعفتها عن الغرائز الدنية، وفي هذا يقول الشيخ عمر السهروردي : ” ما حمل الصوفي على الإيثار : إلا طهارة نفسه ، وشرف غريزته”[18] .

وقد ذكر الإمام القشيري بعضا من صفة الإيثار فقال : ” صاحب الإيثار ، يؤثر الشبعان على نفسه وهو جائع. ويقال: من ميز بين شخص وشخص فليس بصاحب إيثار حتى يؤثر الجميع دون تمييز… ويقال: من رأى لنفسه ملكاً فليس من أهل الإيثار. ويقال: العابد يؤثر بدنياه غيره ، والعارف يؤثر بالجنة غيره” [19] .

الهوامش:


[1] ـ مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، راجعه وعلق عليه أنس محمد الشامي، ط.2008، دار الحديث، ص.25 .

[2]  ـ التعريفات، علي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني، حققه وعلق عليه نصر الدين تونسي،ط.1، شركة القدس للتصدير، ص.74 .

[3]  ـ سورة طه، الآية 72

[4] ـ سورة النازعات، الآية 37 .

[5] –  سورة الأعلى، 16 – 17 .

[6]– سورة يوسف، الآية 91 .

[7]  ـ سورة الحشر، الآية 9

[8] ـ – لطائف الإشارات، الإمام القشيري، تقديم منيع عبد الحليم محمود، تحقيق سعيد قطيفة، المكتبة التتوفيقية، ج. 6 ص. .131

[9] – صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ابن بلبان الفارسي، خرج أحاديثه شعيب الأرنؤوط، ط.2، مؤسسة الرسالة، ج: 2 ص: 486 . رقم 709.

[10]  المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري،اعتنى به صالح اللحام، ط.1، دار ابن حزم، ج.2، ص.115، رقم 2451.

[11] ـ بغية الباحث عن زوائد مسند، نور الدين الهيثمي، تحقيق حسين أحمد صالح الباكري، ط.1،مركز خدمة السنة والسيرة النبوية، كتاب الزهد،  باب الإيثار،ج.2، ص.989، رقم 1104 .

[12]  ـ عوارف المعارف، عمر السهروردي، تحقيق وضبط احمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبة، ط.1، مكتبة الثقافة الدينية، ج. 1، ص. 272

[13] الجامع شعب الإيمان،  للبيهقي، ج.2، تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد، ط.1،  مكتبة الرشد،  ص.471، رقم 1200 ،

[14] ـ كشف المحجوب، الهجويري، ترجمة أحمد ماضي أبو العزائم، ضبط ونحقيق أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبة، ط.1، مكتبة الثقافة الدينية، ص219.

[15] – منازل السائرين،  عبد الله الهروي،  ص. 56ـ57.

[16]  اصطلاحات الصوفية ،عبد الرواق القاشاني، ضبطه وصححه وعلق عليه عاصم إبراهيم الكيلاني، ط.1، دار الكتب العلمية،  ص119ـ 120 .

[17] – طبقات الصوفية ، أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق نور الدين شريبة، ط.3، مكتبة الخانجي، ص55 .

[18] -– عوارف المعارف، عمر السهروردي، تحقيق وضبط أحمد عبد الرحيم السايح، توفيق علي وهبة، ط.1، مكتبة الثقافة الدينية، ج. 1، ص. 273.

[19] – لطائف الإشارات، الإمام القشيري، تقديم منيع عبد الحليم محمود، تحقيق سعيد قطيفة، المكتبة التوفيقية، ج. 6، ص. .132 .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق