وحدة الإحياءدراسات عامة

مصاعب الغرب في التأهل للحوار مع العالم الإسلامي

أولا: مركزية الثقافة في الإنسان

إن الحديث عن حوار تعارف الثقافات الحضارات هو موضوع الساعة اليوم خاصة بين العالم العربي والإسلامي، من جهة، والغرب المسيحي، من جهة ثانية. ولتشخيص إمكانية حدوث هذا الحوار التعارف ثم نجاحه أو فشله نحتاج إلى التعرف على الأدوات الرئيسية التي تعمل لصالح أو ضد مشروع الحوار التعارف المثمر بين الثقافات الحضارات.

1. فعلى مستوى معرفي (إبستيمولوجي)، ليس هناك أهم من الثقافة باعتبارها أول عنصر ذي أولوية مطلقة على غيره في مسألة طرح حوار تعارف الثقافـات الحضـارات للتحليل والنقاش. إذ أن الجنس البشري، مقارنة بسواه من أجناس الكائنات الأخرى، هو الجنس الوحيد الثقافي بالطبع. أي أن المنظومة الثقافة هي جوهر الجنس البشري وميزته الأساسية عن بقية الأجناس الحية الأخرى.

2. نودّ في هذا البحث أن نستبدل كلمة الثقافة بمصطلح الرموز الثقافية، وهي عندنا كل تلك العناصر التي ينفرد بها الجنس البشري بطريقة قاطعة عن بقية الأجناس الحية الأخرى وعالم آلات الذكاء الاصطناعي الحديثة. وفي تعريفنا، إنها منظومة اللغة والفكر والدين والمعرفة العلم والقوانين والأساطير والقيم والأعراف الثقافية…

تتجلى مركزية الرموز الثقافية في هوية الجنس البشري في كونها هي التي مكنته من السيادة الكاملة على بقية الأجناس الأخرى وربطت مصير الأرض ومن وما عليها بفعل الإنسان. فبدون الرموز الثقافية لا يمكن أن يتأهل الجنس البشري لمنصب السيادة والخلافة في هذا العالم. فبغياب الرموز الثقافية تنزع من الإنسان صفات السيادة والقيادة والتميز على غيره من الكائنات الأخرى؛ فيصبح بذلك أدنى من البعض منها أو مساويا لبعضها أو أفضل من البعض الآخر.

3. فبدون حضور منظومة الرموز الثقافية عند بني البشر، فإنه لا يمكن الحديث مطلقا عن إمكانية ظهور وجود لما يسمى بالحضارة الإنسانية ناهيك عن الحديث عن نموها وتطورها على مستويات رفيعة. وبعبارة أخرى، فالرموز الثقافية هي العوامل المؤسسة والحاسمة لظاهرة الحضارة بوجهيها المادي والرمزي. ومن ثم تأتي مشروعية استعمال كلمة “ثقافة” بدل “حضارة” في الحديث عن موضوع هذا البحث. فمصطلح “تعارف حوار الثقافات” يكون أولى وأكثر دقة من استعمال مصطلح “تعارف حوار الحضارات”.

وإذا كانت منظومة الرموز الثقافية هي مربط الفرس في نشوء وتجليات حركية الحضارات البشرية عبر العصور، فإنه ينتظر منها أيضا أن تلعب دورا حاسما لصالح أو ضد الحوار التعارف بين المجموعات والشعوب البشرية، كما يتجلى ذلك في آخر هذا البحث.

4. تقودنا هذه الملاحظات الأساسية حول المكانة البارزة للرموز الثقافية في مسيرة الجنس البشري عبر تاريخه الطويل إلى استفسار مشروع تطالب به كل من أخلاقيات البحث الأساسي Basic Research، وغيرة الباحث الأمين على الكشف على أكبر قدر ممكن من حقائق الأشياء.

إن مركزية منظومة الرموز الثقافية ودورها الرئيس والحاسم في حركية تاريخ الجنس البشري لا يسمحان للباحث الجاد ألاّ يسأل نفسه حول جوهر الرموز الثقافية، وألاّ يلح عليها لتكسب معرفة عميقة حول طبيعة الرموز الثقافية وتأثيراتها على سلوكات الأفراد وحركية المجتمعات. فكسب رهان رصيد معرفي مكين حول منظومة الرموز الثقافية أمر مشروع حقا. وكيف لا، والأمر لا يتعلق هنا بالأشياء الهامشية في مسيرة الجنس البشري، بل بأهم الأساسيات الرموز الثقافية التي أهلت الجنس البشري وحده لقيادة هذا العالم وإدارته.

نختار هنا تقديم المنظور القرآني في محاولتنا التعمق في الحفر في طبيعة الرموز الثقافية، إذ وجدنا أن الرصيد المعرفي الأنثروبولوجي السوسيولوجي الحديث غير مؤهل لتمكين الباحث من التعمق الشامل في كل ثنايا منظومة الرموز الثقافية. إنه باختصار، رصيد تجاهل بطريقة شبه كاملة معالم أساسة في الرموز الثقافية مما أضعف كثيرا من مصداقيته المعرفية والعلمية. سوف يتجلى قصور المنظور الأنثروبولوجي السوسيولوجي الحديث حول دراسة الثقافة أثناء عرضنا الآن للرؤية القرآنية للرموز الثقافية.

ثانيا: طبيعة الثقافة في الرؤية المعرفية الإسلامية

عند التساؤل عن الرؤية المعرفية الإسلامية للرموز الثقافية الثقافة فإن أفضل طريق لتحديد معالمها والفوز بكسب رهان جوهر طبيعتها هو الرجوع إلى القرآن الكريم المصدر الأول للإسلام في شتى المستويات.

ومن ثم فنحن نقدم هنا الرؤية المعرفية القرآنية لطبيعة الثقافة الرموز الثقافية. وإذا نجحت قراءتنا في فهم مضمون الآيات القرآنية التي لها علاقة بالرموز الثقافية فإننا نكون قد كسبنا الرؤية المعرفية الإسلامية الأصح عن طبيعة الثقافة. بذلك نكون قد سلحنا أنفسنا بأقوم مفهوم إسلامي للثقافة يشجع الباحث على ترشيحه للمقارنة وربما المنافسة مع مفهوم الثقافة كما وقع ويقع استعماله في العلوم الاجتماعية المعاصرة. ويجوز أن تساعد هذه العملية المعرفية على بناء مفهوم للثقافة ذي مصداقية أكبر بالنسبة للباحثين المهتمين بالشأن الثقافي من وجهة الرؤية المعرفية الإسلامية على الخصوص.

ثالثا: منهجية البحث

إن منهجيتنا في استكشاف الرموز الثقافية وطبيعتها في النص القرآني تتكون من ثلاث خطوات:

ـ هل هناك إشارات واضحة في القرآن تميز الإنسان عن غيره في خلافة الله؟

ـ لعثور على آيات قرآنية تتحدث بصراحة مطلقة عن تميز الجنس البشري عن بقية الأجناس الحية الأخرى.

ـ إلى أي شيء ترجع الآيات القرآنية تميز وتفوق الجنس البشري؟

1. يحفل النص القرآني بالآيات التي تعطي مكانة خاصة ومتميزة للإنسان من بين كل المخلوقات الأخرى؛ سواء كانت كائنات روحية كالملائكة أو حيوانات ودواب أخرى تعيش على هذه الأرض مثل الإنسان. وبعبارة أخرى فصورة الإنسان في القرآن هي صورة الكائن الفريد الذي يحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية بعد الله في هذا الكون. ومن ثم فلا منازع له على الإطلاق في تأهله لإدارة شؤون هذا العالم وأخذ مقاليد السيادة الخلافة فيه. ولندع آيات القرآن تشخص لنا بقوة تلك المكانة الفريدة التي يتمتع بها الجنس البشري وحده بين كل الكائنات الأخرى. ونقتصر هنا على إبراز ذلك عبر خمس حالات تحدث فيها القرآن بكل وضوح عن تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى. ففي الآية 30 من سورة البقرة يصف القرآن آدم الإنسان بأنه خليفة الله في الأرض: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة…” ولا يحتاج المرء هنا إلى شرح مدى أهمية هذا المنصب (خلافة الله في الأرض الذي وليّها الإنسان دون سواه من الملائكة والمخلوقات الأخرى على الأرض).

2. أما ميزات الإنسان المطلقة التي تتحدث عنها الآيات القرآنية الثلاث (31-32- 33) من نفس سورة البقرة فهي تتمثل في اصطفاء الله لآدم بالمعرفة والعلم أكثر من غيره بما فيهم الملائكة (وعلّم ءادم الاَسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا ءادم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنباهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والاَرض وأعلم ما تبدون وما تكتمون).

ونتيجة للميزتين السابقتين اللتين حرمت منهما الملائكة وبقية الكائنات وحصل عليهما الإنسان وحده جاء أمر الله للملائكة بالسجود لآدم دون غيره كعلامة تكريم وتمييز ثالثة لآدم (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) (البقرة: 34).

أما الآية 70 من سورة الإسراء فهي تستعمل فعلي “كرم” “وفضل” لإبراز سمتي تميز بني آدم عن غيرهم من مخلوقات الأرض “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”.

فهذه الآيات القرآنية توضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الإنسان كائن خاص متميز ومتوّفق على غيره من مخلوقات الأرض والملائكة. ومن ثم فالرؤية القرآنية للجنس البشري تمثل قطيعة معرفية إبستيمولوجية كاملة مع نظرية التطور عند داروين وأصحابه، إذ أن خلق آدم في الرؤية القرآنية يمثل حالة خاصة في الخلق هي في قطيعة مع كل من الملائكة وعوالم المخلوقات هنا على الأرض. إن خلق آدم تميز عن غيره بواسطة هبة المعرفة العلم التي أعطاها إياه الله دون سواه. فبهذه المقدرة المعرفية العالية جاءت مشروعية خلافة آدم لله بتكريمه وبتفضيله في الأرض وسجود الملائكة له.

3. تربط آيتان من القرآن سجود الملائكة لآدم بنفخ روح الله فيه فآية (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، نجدها مكررة مرتين في سورتي الحجر 15 وص 38.

إن التساؤل عن معنى كلمة “روحي” الواردة في السورتين تساؤل مشروع جدا؛ لأن الصيغة التركيبية لكلمات الآية تفيد بأن طلب سجود الملائكة لآدم تلا نفخ روح الله فيه، أي أن هناك علاقة قوية، إن لم تكن سببية بين عملية نفخ الروح الإلهية في آدم ودعوة الله الملائكة إلى السجود له. وكما هو معروف فإن كلمة الروح في القرآن أتت بمعان مختلفة وفي طليعتها بث الحياة في الكائنات. إن اطلاعي على عدد من كتب المفسرين لكلمة “روحي” في هذا الآية يشير أن معظمهم رأى أن لفظ “روحي” هنا يعني القدرة على بث الحياة في الكائنات. فتفسير الجلالين يقول: “وإضافة الروح إليه تشريف لآدم. والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه …”1. أما المفسر السوري المشهور اليوم عفيف عبد الفتاح طبارة فيقدم لنا هذا الشرح التفسيري لمعنى كلمة “روحي” في الآية: (ونفخت فيه من قدرتي أو بعبارة أخرى فإذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري فخروا له ساجدين)2.

ونختم بتفسير الشيخ متولي الشعراوي أشهر المفسرين المصريين في العصر الحديث فيصوغ معنى روح الله ونفخها في آدم كالتالي: (والنفخ من روح الله لا يعني أن النفخ قد تم بدفع الحياة عن طريق الهواء في فم آدم. ولكن الأمر تمثيل لانتشار الروح في جميع أجزاء الجسد وقد اختلف العلماء في تعريف الروح، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر لأن الحق سبحانه هو القائل: (يسئلونك عن الروح قل الروح من اَمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليل)3.

فواضح من مضمون هذه التفاسير أن معنى لفظ “روحي” اقتصر على مجرد معنى قدرة الله على بث الحياة في آدم التي لا يعرف البشر أسرارها ومن ثم دعا الشيخ الشعراوي إلى تحاشي الخوض فيها.

إن الاقتصار على هذا التفسير لمعنى كلمة “روحي” لا يسمح لآدم الإنسان بتبوء منصب خلافة الله في الأرض وسجود الملائكة له تكريما لخصوصية وتميز خلقه. فالله لم يبث الحياة في الإنسان فقط بل بثها أيضا، في كل الكائنات الحية. وبالتالي فمجرد بث الحياة في الإنسان لا تؤهله وحده إلى خلافة الله هنا على الأرض. فلا بد إذن من البحث عن معنى آخر للفظ “روحي” يفسر بقوة مكانة تميز الإنسان وتقوّقه على بقية المخلوقات في إدارة شؤون الأرض كخليفة لله.

رابعا: أهمية العلوم الاجتماعية

وهنا يأتي، في رأينا، دور العلوم الاجتماعية في مساعدة مفسري القرآن وهديهم إلى المعنى المناسب الذي ينبغي أن يعطى إلى كلمة “روحي” في آية (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين). فالكثير من المفسرين المحدثين يستعينون باكتشافات العلوم الحديثة في التفسير للعديد من الآيات القرآنية التي لها علاقة بخلق الإنسان وفهم عمل مخ وجسم الإنسان؛ أولها علاقة بالظواهر الطبيعية في الكون مثل الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والبراكين والزلازل، مما عزز من فكرة إعجاز القرآن؛ فازدادت المؤلفات وكثر انعقاد الندوات والمؤتمرات في هذا الميدان في العالم الإسلامي الحديث.

وإننا نتفق مع المفكر الإسلامي وعالم الجيولوجيا الكبير الدكتور زغلول النجار، الذي يؤكد على أن فهم الكثير من الآيات القرآنية لا يمكن أن يتم بدون الاعتماد على الاكتشافات العلمية ذات المصداقية العالية حول الإنسان والظواهر الطبيعية للكون.

والمفسرون المحدثون مطالبون هم أيضا، وبنفس الدرجة، بالإفادة من الرصيد المعرفي العلمي للعلوم الاجتماعية المعاصرة في ماله علاقة بفهم سلوك الأفراد والجماعات وحركية المجتمعات والمعالم الثقافية البشرية. فهذه العلوم تساعد بالتأكيد على القرب من معنى كلمة “روحي” في الآية المشار اليها أعلاه. فعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس تجمع على أن الإنسان يتميز ويتفوق على غيره من الكائنات الأخرى بما تسميه تلك العلوم بالثقافة Culture أو ما أطلقنا عليه نحن بالرموز الثقافية: اللغة، الفكر، المعرفة العلم، الدين، القيم والأعراف الثقافية. أي أن الجنس البشري ينفرد بتلك المنظومة من الرموز الثقافية وهي التي أهلته وحده في الماضي وتؤهله اليوم وفي المستقبل إلى لعب دور خليفة الله في الأرض. وبعبارة أخرى، فمعنى “نفخت فيه من روحي” تصبح تدل على أن النفخة الإلهية في آدم هي في المقام الأول نفخة رموزية ثقافية بالمعنى المعاصر الذي تعطيه العلوم الاجتماعية لمصطلح الثقافة. إذ بهذه الأخيرة يفسر علماء العلوم الاجتماعية تميّز الإنسان وسيادته في هذا العالم على بقية المخلوقات4. ومن ثم “ونفخت فيه من روحي” لا بد أن يعني أولا وبالذات نفخة الرموز الثقافية في آدم وحده التي أعطته، دون سواه، مقاليد الخلافة في الأرض وما تبعها من سجود الملائكة له. بهذه القراءة الثقافية لمعنى كلمة “روحي” في الآية يتضح مدى تحسن مصداقية تفسير معاني آيات القرآن لو استعان المفسرون بالرصيد العلمي الحديث لكل من علوم الطبيعية وعلوم الإنسان والمجتمع على حد السواء.

خامسا: الرؤية المعرفية القرآنية للثقافة

يتجلى مما سبق أن للقرآن رؤية معرفية إبستيمولوجية بخصوص الرموز الثقافية باعتبارها مَعلما مميزا للجنس البشري. فالنفخة الثقافية الإلهية في آدم دون غيره هي إذن نفخة ذات جذور وطبيعة ميتافيزيقية حسب الرؤية القرآنية. فمصدرها ليس عالم الأرض وإنما عالم السماء الذي حرم منها جميع كائنات الأرض ووهبها فقط للإنسان. فالقرآن يتحدث بصراحة كاملة عن الطبيعة الميتافيزيقية للنفخة الثقافية التي اختص بها الإنسان وحده فيقول: “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”؛ أي أن النفخة الثقافية في صميم آدم صادرة من الذات الإلهية نفسها. فلا مجال إذن للشك في الرؤية القرآنية في جوهر الطبيعة الماورائية (الميتافيزيقية) للرموز الثقافية التي يتميز بها الجنس البشري عن سواه من الأجناس الحية.

وفي المقابل، فإن جل أدبيات العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة حول مفهوم الثقافة تصمت صمتا شبه كامل عن الجوانب الميتافيزيقية للثقافية5. فهي تدرس وتحلل ثقافات المجتمعات بطريقة وصفية أو وضعية Positivist  دون أن تهتم بإثارة الأسئلة المعرفية الإبستيمولوجية عن طبيعة الثقافة باعتبارها مَعلما ينفرد به أفراد الجنس البشري ومجتمعاته. لقد نجحت تلك العلوم في إرساء رصيد علمي ضخم حول الثقافة من الدراسات المتعددة لعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع على الخصوص في القرن العشرين، وهو رصيد فكري يغلب عليه الوصف الوضعي للثقافة وعناصرها. فلا يكاد المرء يجد أي إشارة واضحة، كما هو الأمر في الرؤية المعرفية الإسلامية، إلى الطبيعة الميتافيزيقية للرموز الثقافية. أي أن هذه الأخيرة وقعت دراستها في علمي الأنثروبولوجيا والاجتماع الغربيين بالمنظور الوضعي أو غيره الذي ينفر من النظر في ملامح الأشياء التي لا تخضع إلى عالم الحس والكم. فلا مناص، من وجهة المنظور العلمي الموضوعي أن يكون لهذا الموقف المنكر حضور اللمسات الميتافيزيقية، رغم وجودها القوي، في صلب الرموز الثقافية انعكاسات جد سلبية على صدقية المفاهيم والنظريات الكثيرة التي تستعملها العلوم الاجتماعية المعاصرة في دراسة الثقافة وتجليات آثارها في سلوك الأفراد وحركية المجتمعات والحضارات. فالمأخذ الإبستيمولوجي على هذه العلوم مأخذ خطير، إذ أنه يتجاهل معلما جوهريا للرموز الثقافية. فكيف ينتظر كسب رهان الثقة في ما تتوصل اليه بحوث العلوم الاجتماعية التي تدرس الثقافة عارية، بسبب إبستيمولوجيتها، من معالمها الجوهرية والمتمثلة في لمساتها الميتافيزيقية؟ ومن هنا نرى أن لا تقتصر عودة العلوم الاجتماعية الغربية اليوم على الاهتمام بدراسة العوامل الدينية لفهم سلوكات الأفراد وحركية المجتمعات، بل ينبغي أيضا أن تصبح، مثلا، الرؤية المعرفية الإبستيمولوجيا للديانات مصدرا لفهم طبيعة الأشياء والتنظير حولها في هذه العلوم6 كما تحاول هذه الدراسة إبراز ذلك حول طبيعة الثقافة.

سادسا: مؤشرات الملامح الميتافيزيقية للرموز الثقافية

بالنظر المتعمق إلى جوهر طبيعة الرموز الثقافية عند الجنس البشري يتبين أنها تتسم بلمسات متعالية ميتافيزيقية تجعلها تختلف عن صفات مكونات الجسم البشري وعالم المادة. فهوية الإنسان هي إذن هوية ثنائية: منظومة الرموز الثقافية، من ناحية، والعناصر العضوية البيولوجية والفيزيولوجية، من ناحية أخرى. وتبقى الرموز الثقافية هي الطرف الأبرز والأكثر حسما في تحديد هوية الإنسان ومن ثم سلوكه7. ولشرح ما نعنيه باللمسات المتعالية الميتافيزيقية للرموز الثقافية، نقتصر هنا على ذكر خمسة منها نعتبرها رئيسة:

1. ليس للرموز الثقافية وزن وحجم كما هو الأمر في المكونات البيولوجية الفيزيولوجية للكائنات الحية وعالم المادة الجامدة. إن فقدان الرموز الثقافية لعاملي الوزن والحجم يبدو أنه هو الأساس في تأهل الرموز الثقافية للاتصاف بالأبعاد المتعالية، الأمر الذي يجعل عالمها مختلفا عن كل من العناصر البيولوجية الفيزيولوجية وعالم العناصر المادية.

2. تتمتع الرموز الثقافية بسهولة سرعة انتقالها عبر المكان والزمان بسبب ما ورد في النقطة السابقة (1). ينطبق هذا بصورة مجسمة كاملة على استعمال الفاكس اليوم. فما يرسل في لمح البصر بهذا الأخير من رسائل ووثائق كان يحتاج في الماضي القريب إلى أيام أو أسابيع أو شهور حتى يصل إلى المرسل اليه بسبب إرساله بالبريد الجوي أو البري أو البحري. فلماذا هذا الفرق المدهش بين الفاكس والبريد في سرعة وصول نفس الشيء المكتوب المرسل؟ لأن الإرسال بالفاكس يلغي بكل بساطة صفتي الحجم والوزن من الشيء المرسل.

يجوز أيضا تعميم قانون سهولة سرعة الانتقال على كافة الرموز الثقافية الخالية من عاملي الحجم والوزن كالكلمة المنطوقة المرسلة عبر صوت الإنسان أو عبر الهاتف أو عبر المذياع أو التلفزيون أو أجهزة الاتصال الأخرى الحديثة. وينطبق ذلك أيضا على كل من الكلمة المكتوبة والمرسلة إلكترونيا بواسطة الإنترنت وعلى سرعة انتقال الصورة الحية أو الجامدة اليوم في لمح البصر عبر آلاف الأميال. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى نزع عاملي الحجم والوزن منهما. فالكلمة المنطوقة والمرسلة مكتوبة على الأنترنت وصورة الفضائيات تفتقد كلها لعاملي الوزن والحجم.

3. لا تتأثر الرموز الثقافية بعملية النقصان عندما نعطي منها للآخرين كما هو الأمر في عناصر عالم المادة. فإعطاء الآخرين خمسين دينارا من رأس مالنا وقنطارا من قمحنا وعمارة من عماراتنا… كلها عمليات تنقص مما هو عندنا من ممتلكات مادية. أما إذا علّمنا (منحنا) الآخرين شيئا من معرفتنا وعلمنا وفكرنا وعقيدتنا وقيمنا الثقافية ولغتنا.. فإن ذلك لا ينقص شيئا من كل واحد من رموزنا الثقافية هذه.

4. للرموز الثقافية قدرة كبيرة على البقاء طويلا عبر الزمان في المجتمعات البشرية إذ قد يصل مدى بقائها درجة الخلود. فاللغة، وهي أم الرموز الثقافية، لها قدرة فائقة على تخليد ما يكتب بها بغض النظر عن محتوى المكتوب)8.

فالفكر البشري لا يكتب له الاستمرار والخلود الكاملين دون أن تحتضن مضمونه اللغات المكتوبة. فما كان لفكر كل من إخناتون وسقراط وأرسطو وابن رشد والغزالي وابن خلدون وروسو وديكارت وهيوم وغيرهم من المفكرين والعلماء… أن يتمتع بمدى حياة طويل من البقاء بدون تسجيله في حروف وكلمات اللغات البشرية المتنوعة التي تؤهله لكسب رهان حتى الخلود. أما على مستوى الحفاظ وتخليد التراث الجماعي للمجموعات البشرية، فإن للغات دورا بارزا بهذا الشأن. فاللغات المكتوبة على الخصوص تمكن المجموعات البشرية من تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي ككائنات حية، ورغم تغييرها للمكان وعيش أجيالها المتلاحقة في عصور غير عصورها. فمحافظة لغة الضاد محافظة كاملة على النص القرآني خير مثال على مقدرة اللغة التخليدية بالنسبة لحماية الذاكرة والتراث الجماعيين من واقع الفناء المتأثر كثيرا بعوامل الزمن والبيئة والوجود الجسمي العضوي البيولوجي لذات تلك المجموعات البشرية.

5. ولا تقتصر هذه الأبعاد المتعالية المتافيزيقية للغة المكتوبة فقط، بل إن الاستعمال الشفوي للغة يقترن هو الآخر بدلالات متعالية ميتافيزيقية. أفلا يلجأ البشر من كل العقائد والديانات إلى استعمال الكلمة المنطوقة في تأملاتهم الكونية وتضرعاتهم وابتهالاتهم إلى “آلهاتهم” أو إلى أي شيء آخر يعتقدون في أزليته أو قدسيته؟ فبانفرادهم بنوعية اللغة البشرية عن بقية الكائنات الحية الأخرى يستطيع أفراد الجنس البشري أن يحرروا أنفسهم من العراقيل المادية لهذا العالم ويقيموا علاقات وروابط مع العالم المتعالي الميتافيزيقي. فبهبة اللغة البشرية ينجح بنو البشر في فك حصار المشاغل الدنيوية والآنية. وهكذا يصبح لقاءهم بالبعد الميتافيزيقي في شتى مظاهره أمرا لا مفر منه، فهم يرونه في أحلامهم ويحفل به خيالهم ويلتقون به عن قرب في تجاربهم الدينية.

6. تملك الرموز الثقافية قوة هائلة تشحن الأفراد والمجموعات بطاقات كبيرة تمكن أصحابها من الانتصار على أكبر التحديات بكل أصنافها المتعددة. فعلى سبيل المثال، قد أثبتت قيم الحرية والعدالة والمساواة عبر التاريخ البشري الطويل على أنها رموز ثقافية قادرة على شحن الأفراد والمجموعات بطاقات هادرة جبارة تشبه إلى حد ما القوى الماورائية الصاعقة التي لا يستطيع اعتراض سبيلها أحد. وهذا ما يوحي به قول الشاعر العربي التونسي أبي القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة          فلابد أن يستجيب القدر

فمصدر إرادة الشعوب الحقّة يكمن في عالم الرموز الثقافية؛ أي عندما يجمع الناس أمرهم للدفاع عن الحرية والمساواة والعدل وغيرها من القيم البشرية وعن حقهم في الاستقلال واحترام الذات يصبح رد فعلهم كرد فعل القدر الذي لا يبقي ولا يذر. وهذا ما يفسر لجوء الناس إلى الحديث عن المعجزات في بعض الأحداث الفردية أو الجماعية التي تدخل سجل التاريخ بالرغم من عدم توفر المعطيات المادية لذلك. إنها، في نظرنا، أحداث متأثرة في العمق بالسمة الخامسة المتعالية للرموز الثقافية كما وصفناها هنا.

سابعا: حوار وصدام الثقافات

كما أشرنا من قبل، نفضل هنا استعمال كلمة “الثقافات” بدل “الحضارات” في تحليل مسألة الحوار أو الصدام بين الأمم والمجتمعات. إذ أن الثقافات هي المؤسسة للحضارات وتجلياتها بما فيها القدرة على الحوار والصدام مع “الآخر”، كما أكدنا في بداية البحث.

ما من شك أن قضية حوار صدام الثقافات هي اليوم موضوع الساعة. يساعد مفهومنا للرموز الثقافية على المساهمة في فهم وتفسير حيثيات هذا الموضوع. يسهل الاشتراك أو التشابه في منظومة الرموز الثقافية بين الأمم والمجتمعات والجماعات على التواصل والحوار بينها؛ فالاشتراك أو التشابه بين تلك التجمعات البشرية في الرموز الثقافية أعز وأهمّ شيء يملكه الجنس البشري يعزز بالتأكيد من الاستعداد والتحمس والقدرة على الحوار والتفاعل على المستويين الفردي والجماعي بين تلك التجمعات. واللغة، أم الرموز الثقافية جميعا، هي أهم عناصر المنظومة الثقافية لفتح أبواب الحوار والتواصل بين الأفراد والمجموعات البشرية. ومن ثم يمكن القول بأن حوار الثقافات بين العالم الإسلامي، من ناحية، والعالم الغربي، من ناحية أخرى، يتطلب في المقام الأول من الطرفين معرفة لغات بعضهم البعض. وهذا ما هو مفقود عند الطرف الغربي نخبويا وشعبيا، وينطبق هذا أكثر على المجتمع الأمريكي ليس في فقدانه لمعرفة لغات العالم الإسلامي فحسب بل أيضا في عدم معرفته للغات الأجنبية بصفة عامة… وعلى العكس من ذلك، فإن لنخب العالم العربي الإسلامي معرفة واسعة ومتمكنة بلغات المجتمعات الغربية المتقدمة وفي طليعتها اللغتان الإنجليزية والفرنسية. وبازدياد نسبة التمدرس منذ استقلال المجتمعات العربية الإسلامية، فإن انتشار تعلم إحدى تلك اللغتين أو هما معا وغيرهما من اللغات الغربية؛ كالألمانية والإسبانية والروسية… أصبح واقعا اجتماعيا شعبيا لأغلبية فئات تلك المجتمعات. إن هذا الواقع اللغوي الشعبي يهيئ بالضرورة المجتمعات العربية الإسلامية ويعزز عندها هاجس التفتح والحوار مع المجتمعات الغربية وخاصة الأكثر تقدما، أما المجتمعات الغربية المتقدمة فليس لها ما يحفزها على نطاق شعبي واسع على تعلم ولو لغة واحدة من لغة العالم العربي الإسلامي. فهذا الأخير عالم متخلف لا يجذب الغربيين لتعلم لغاته. ويقتصر الأمر في أغلب الأحيان على تعلم بعض لغات العالم العربي الإسلامي لعدد محدود جدا من الأفراد من العلماء والمستشرقين والدبلوماسيين ورجال الأعمال والاستخبارات، كما يتجلى ذلك في الاهتمام المتزايد عند إدارة بوش في تعلّم اللغة العربية من طرف العاملين بوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA.

وفي ضوء هذه المعطيات، فإنه لا يمكن الحديث عن المساواة في رغبة الطرفين الغربي والعربي الإسلامي في الحوار. فالهيمنة الغربية الحالية وتاريخ الغرب الاستعماري للشعوب العربية الإسلامية وجهل سواد المجتمعات الغربية لإحدى لغات العالم العربي الإسلامي الكبرى على الأقل يضعف كثيرا من استعداد وقدرة تلك المجتمعات على الحوار التلقائي والمتحمس والواعد مع المجتمعات العربية الإسلامية.

ومن ثم فالمجتمعات الغربية الحديثة هي أقل استعدادا ومقدرة لغويا وثقافيا على الدخول في حوار ثقافي واسع ومثمر مع المجتمعات العربية والإسلامية. وفي ظل ظروف الجهل المتفشي في العالم الغربي بلغات وثقافات العالم العربي والإسلامي، فإن الطرف الغربي هو الأكثر استعدادا وترشحا للدخول في صدام مع العالم العربي الإسلامي9. ومما يزيد الطين بلّة في صدام الثقافات هو أن هيمنة الغرب العالمية ومصالحه الكبيرة والمتنوعة في العالم العربي والإسلامي تشجع الغرب أكثر على الهجوم على العالم العربي والإسلامي بدلا من الحوار معه. إن السياسة الخارجية الأمريكية الصدامية لإدارة بوش الصغير مع العالم العربي والإسلامي اليوم خير مثال ميداني تتجلى فيه مشروعية تأهل أمريكا القوة الأعظم للصدام مع العالم العربي والإسلامي. وتأتي المنظومة الثقافية لإدارة بوش في المقام الأول باعتبارها عاملا حاسما في صدام هذه الإدارة ليس مع العالم العربي الإسلامي فحسب بل مع المجموعة الدولية قاطبة10.

كما أن الحديث عن علاقة العرب المسلمين بالغرب المسيحي يحتاج إلى الإشارة إلى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما. فمن جهة، لقد “غزى” العرب المسلمون ما يسمى اليوم إسبانيا والبرتغال حيث أقاموا حكمهم وهيمنتهم لقرون عديدة. وحاولوا التوسع أكثر في أوروبا. ولا شك أن المخيال الغربي/منظومته الثقافية أصبح منذ ذلك التاريخ متوجسا وخائفا وعدائيا للعرب المسلمين. إذ هم القوة الوحيدة في العالم التي هددتهم في عقر دارهم. إن مفهومنا للرموز الثقافية يرشح المخيال الغربي العدائي للعرب والمسلمين إلى استمراريته لقرون عديدة وربما إلى أجل غير مسمى.

ومن جهة ثانية، فقد هزم العرب المسلمون في الأندلس وطردوا منها شرّ طرد فسجلوا في مؤلفاتهم هيامهم بالأندلس ولوعتهم عليها وغضبهم على ما تعرضوا له على أيدي المنتصرين الأسبان المسيحيين؛ فولّد عندهم مخيال حاقد على الأسبان وعلى الغرب بصفة عامة نتيجة للحروب الصليبية والاستعمار الغربي لهم في العصور اللاحقة والحديثة.

ونخلص إلى القول إن المنظومة الثقافية السلبية إزاء “الآخر” عند مخيالي الطرفين الغرب والعرب المسلمين مرشحة بكل قوة لا لتستمر لقرون عديدة فقط بل إلى أجل غير مسمى. إذ الرموز الثقافية ذات مدى حياة طويل قد يصل إلى الأبدية، كما أكدنا في منظورنا في هذا البحث.

لا تسمح المعطيات المبيّنة أعلاه بالتفاؤل للحديث عن توفر الشروط اللازمة لحوار حقيقي متكافئ فعلا بين الغرب والعالم العربي الإسلامي إذ الطرف الغربي هو الأقل تأهلا اليوم للدخول في مثل ذلك الحوار كما شرحنا ذلك.

إذا كان العرب والمسلمون يتفوقون على الغربيين في رغبتهم للحوار معهم بسبب معرفتهم للغات الغربية كما بينا، فإن عامل الدين لا يمثل قطبا جذابا يشجع ويدفع الفريقين للحوار والتعارف. فموقف الأغلبية المسلمة في العالم العربي وبقية المسلمين غير العرب من الدين المسيحي في الغرب والشرق موقف فيه الكثير من النقد والتحفظ على العديد من الاعتقادات المسيحية التي تتعارض مع نصوص القرآن نفسه مثل مسألة صلب المسيح أو سبغ صفة الألوهية عليه. ولا يقتصر موقف المسلمين السلبي على الديانة المسيحية وحدها بل يتجاوزها ليشمل كل الديانات مثل اليهودية والبوذية والكونفوشية وغيرها. ويعود ذلك إلى اقتناع المسلمين الواسع بأن دينهم هو خاتم الرسالات السماوية، وبالتالي فهو أفضلها. ويفسر هذا في نظرهم ريادة ازدياد انتشار الإسلام شرقا وغربا رغم أحداث 11 سبتمبر 2001. وباختصار، يبدو أن العقيدة الإسلامية تعطي معتنقيها مناعة ضخمة تحفظهم من ترك إسلامهم وإتباع ديانات أخرى. وهكذا فالمسيحية، ديانة الأغلبية الساحقة في الغرب، ليست بالعنصر الجذاب أو المتعاطف معه عند أغلبية المسلمين. وبالتالي فهي ليست بالعامل المشجّع والمساعد للمسلم لكي ينشد الحوار ويسعى إلى التعارف مع الإنسان الغربي المسيحي.

أما بالنسبة لموقف أغلبية المسيحيين الغربيين من الإسلام فهو موقف سلبي على العموم قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ولابد أن تلك الأحداث قد زادت من عداوة المسيحيين في الغرب ضد الإسلام. لكن اقترن هذا الموقف أيضا في الغرب بازدياد رغبة قطاع واسع من الجماهير الغربية للاطلاع على الدين الإسلامي عبر قراءة الكتب والمجلات والصحف والإنترنت وعبر وسائل الإعلام السمعية والبصرية. ولا ندري إذا كانت هذه العوامل قد حسّنت صورة الإسلام في الغرب أو زادتها سوءا.

ولعل غزو قوات التحالف للعراق -البلد المسلم- بدون مساندة عالمية وبدون موافقة أغلبية شعوب قوات التحالف بقيادة الولايات الأمريكية قد عمل لصالح صورة الإسلام في الغرب. وتأتي جرائم الجنود الأمريكيين والبريطانيين في سجون العراق المحتل لتفضح بالصورة أمام العالم بأسره المستوى الهابط لقوى الاحتلال التي طالما ردّدت باطلا أنها جاءت لتحرير العراق ونشر حقوق الإنسان والديمقراطية فيه.

فاشمئزاز العالم وتبرمه مما وقع في سجن أبو غريب قرب بغداد على أيدي الجنود الأمريكيين يساعدان بطريقة غبر مباشرة على التعاطف مع الإسلام. إذ مقاومة الشعب العراقي المسلم في أغلبيته ضد الاحتلال الأمريكي وغيره من قوات التحالف تجد تعاطفا واسعا بين شعوب العالم التي عارضت منذ البداية العدوان الأمريكي البريطاني على العراق. فقامت من أجل ذلك بمظاهرات صاخبة ضد احتلال العراق.

يتجلى مما سبق أن عاملي اللغة والدين، وهما أهم عاملين في منظومة الرموز الثقافية، لا يساعدان كثيرا على تشجيع وتسهيل الحوار والتعارف بين الغربيين المسيحيين والمسلمين عربا وعجما. ويبقى أن الطرف العربي والمسلم هو الأكثر استعدادا للانخراط في عمليتي الحوار والتعارف مع الآخر (الغرب) بسبب معرفته المحترمة للغاته وتأثره الكبير بثقافته.

أما إذا نظرنا إلى عنصر المعرفة/العلم في منظومة الرموز الثقافية، فإننا نجده ربما الأكثر قدرة على جمع الشمل والتقارب بين الثقافتين الإسلامية والغربية. يمثل، من ناحية، عنصر المعرفة، العلم قيمة ثقافية اجتماعية مركزية في صلب المجتمع الغربي الحديث. بدأت هذه القيمة في الظهور منذ عصر النهضة في أوروبا. ثم اكتمل تجذرها الواسع في المجتمعات الأروبية وفي أمريكا الشمالية واليابان في القرن العشرين. إن قيادة تلك المجتمعات لمسيرة العلم اليوم شاهد على ذلك. ويعتبر، من ناحية أخرى، طلب المعرفة/العلم قيمة ثقافية مقدسة في الإسلام. فأمة الإسلام هي أمة الكتاب/القرآن الكريم الذي تبدأ أول آية من أول سورة فيه بخطاب الأمر للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مخاطبا له: “اقرأ باسم ربك“. فهذه الآية وغيرها كثير جدا في سور القرآن القصيرة والمتوسطة والطويلة تؤسس لثقافة حب المعرفة والعلم. إنها ثقافة تدعو المسلم للسعي إلى تحصيل المعرفة/العلم كامل حياته “أطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد” و”طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” و”أطلبوا العلم ولو في الصين”. إنها ثقافة تمنح التميّز للعلماء “قل هل لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. إنها ثقافة تلحّ على العلماء أن لا يعزلهم علمهم/معرفتهم على التوق إلى التعرف على الحقيقة الكبرى المتعالية “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء”.

فقطب العلم/المعرفة قيمة مركزية في الثقافتين الإسلامية والغربية. ومن ثم تعتبر مركزية قيمة المعرفة والعلم عاملا هاما للمساعدة على الحوار والتعارف بين هاتين الثقافتين. لكن لا ينبغي أن ننسى أنه توجد اختلافات غير هينة بين رؤيتي الثقافتين بالنسبة لأخلاقيات ethics وأهداف وفلسفات العلوم والمعارف.

وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن شعوب الثقافة الإسلامية اليوم تجد نفسها مدفوعة أكثر من شعوب الثقافة المسيحية الغربية للدخول في عمليتي الحوار والتعارف، وذلك بسبب معرفة الشعوب الإسلامية الواسعة للغات الغرب المتقدم، من جهة، وتحمسها ثقافيا، من جهة ثانية، للنهل من المعرفة/العلم الذي يتفوق فيه الغرب المسيحي عليها.

أما بالنسبة للغرب المسيحي المتقدم، فإن عناصر اللغة والمعرفة العلم والدين، أهم عناصر منظومة الرموز الثقافية التي ناقشناها، لا تعمل كلها لصالح الحوار والتعارف مع العالم الإسلامي. فالمجتمعات المسلمة متأخرة في دنيا المعارف والعلوم الحديثة ولا تعرف الأغلبية الساحقة من مواطني المجتمعات الغربية أي لغة من لغات العالم الإسلامي الكبرى. وكما أشرنا من قبل، فإن موقف سواد الشعوب الغربية من الإسلام يتسّم بعدم التعاطف وبالنفور والعداء.

كل ذلك يدعو إلى القول بأن الغرب والعالم الإسلامي طرفي الحوار والتعارف ليسا متساويين في دوافع الرغبة للدخول في الحوار والتعارف والمحافظة عليهما. فتحليلنا لدور اللغة والدين والمعرفة/العلم في تقارب الشعوب يؤكد أن الطرف العربي الإسلامي متفوق على نظيره الغربي المسيحي. وإن تغيير معادلة هذا الوضع لصالح المساواة بين الجانبين أو القرب منها على مستوى تلك الرموز الثقافية الثلاثة أمر غير وارد في المستقبل المنظور. فمن ناحية، تتصف الرموز الثقافية وآثارها على الناس بأمد حية طويل قد يصل إلى الخلود. ومن ناحية أخرى، فإن دراسات علم الاجتماع المعاصر أكدّت على أن تغيير الجوانب الثقافية في المجتمع هو عملية بطيئة مقارنة بالتغيير في الجوانب المادية في المجتمعات البشرية11.

الهوامش

1. جلال الدين بن أحمد بن محمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمان بن أبي السيوطي، ط.7، دار ابن كثير، بيروت، 1993، ص 457.

2. طبارة عفيف عبد الفتاح، تفسير جزء يس ج 23، دار الملايين، بيروت، ص 145 بدون تاريخ.

3. تفسير الشيخ متولي الشعراوي، المجلد 12، ص 76-94.

 4. Dortier J.F., L’homme cet étrange animal, Auxerre, Sciences Humaines Editions, 2004, pp.19-23.

5. وردت مفردات Supraorganic و Suprabiological وSuperorganic عند علماء الأنثروبولوجيا الغربيين لوصف الجانب الثقافي للإنسان دون أن يشير هؤلاء بوضوح في تحاليلهم لمفهوم الثقافة بأن لها لمسات متعالية transcendental كما بيّنا في هذا البحث. أنظر كتاب:

White, L.and al, The Concept of Culture, Edina, Alpha Editions, 1973, pp.32-39.

6. Ebaugh, H.R., Return of the Sacred: Reintegrating Religion in the Social Sciences, Jounal for the Scientific Study of Religion, Vol.41, n°.3, sept.2002, pp. 3 85-95.

L’homme….7 Dortier، م، س، ص20.

8. الذوادي، محمود، التخلف الآخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، الأطلسية للنشر، تونس، ص 34-35.

9. Huntington, S., The Clash of Civilizations: Remaking The World Order, New York, Touchstone, 1977.

10. الذوادي، محمود، في ثقافة إدارة بوش وخطرها على مسيرة العالم، القدس العربي، 22122003، ص8.

11. أنظر مفهوم الهوة الثقافية Culture Lag في كتاب:

Ogburn, W., Social Change with Respect to Culture and Original Nature, New York, Free Press, 1922, pp. 200-201.

Science

د. محمود الذوادي

 قسم علم الاجتماع، جامعة تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق