وحدة الإحياءدراسات عامة

مشكلة العلوم الإسلامية عند الإصلاحيين في العصر الحديث

إن الإحساس بأزمة التخلف الذي حاق بالمسلمين ومجتمعاتهم، واليقينَ الإيماني -الذي ما انفك تعقد القلوب عليه أطرافها- بأن الإسلام قادر على تحقيق الشهود الحضاري، كان قدرًا مشتركًا بين رواد الإصلاح ومشاريع التجديد في القرنين الماضيين، وهذا كان دافعَ التجديد ومحرِّكه. لكن إدراك جوهر الأزمة وأسبابها كان مُضْطرَب العقول والأنظار، فكلٌّ نظر إليه من زاويةٍ رآها مَكمنَ العلل، وعليها أقام رؤيته، وحولها دارت همومه وانشغالاته وكتاباته. وكان أبرز تلك الانشغالات وأهمَّها -من وجهة نظري- الانشغالات المعرفية بتجديد العلوم وبحث مشكلاتها والنهوض بعقلية العالم والمتعلم لاستئناف الدور الحضاري من بوابة الإصلاح المعرفي.

والانشغال المعرفي شكّل عصب المسيرة الإصلاحية التي اتسعت آفاقها وموجاتها فعمّت الشرقَ والغرب الإسلاميَّين، ولا عجب في ذلك، فالاهتمام بمسألة تدوين العلوم والتأليف فيها يُعدّ من “مبادئ نهضة الفكر البشري”، وقد وُجدت نصوص وصياغات مختلفة للعديد من الإصلاحيين في العصر الحديث تتناول انتقادات جزئية أو كلية لما آلت إليه العلوم الإسلامية، إما في ذاتها وبِنيتها أو في تآليفها وتعليمها، لكن تبقى محاولة العلامة الطاهر بن عاشور متميزة لجهة إفرادها بالتأليف والشمول ووضوح توجهها الإصلاحي، فهو قد شخّص مُشكِلة العلوم الإسلامية في الأعصر المتأخرة، ونَقَدَ أوجه الخلل وحال الجمود الذي آلت إليه، وبنى رؤيته الإصلاحية وحدد مسالك النهوض فيها لأجل مواكبة ما أسماه “العقل الجديد”.

وابن عاشور يعزو أسباب فساد العلوم إلى فساد المعلم، وفساد التأليف، وفساد النظام العام، فهو يعيب “جهل المعلم أو المؤلف أو واضع نظام التعليم بمراتب الأفكار ومقدار قبولها، وبمراتب العلوم بالنسبة إلى قابلية الأفكار”. وعليه، فهو يبحث في المشكلات البِنيوية للعلوم الإسلامية كما وقف عليها دارسًا ومدرِّسًا، متعلّمًا فعالِمًا فمعلِّما.

تقدم هذه الورقة قراءة تحليلية نقدية للمقاربة الإصلاحية لمشكلة التعليم والعلوم الإسلامية في العصر الحديث، فهي ستحاول رسم ملامح وعي الإصلاحيين بأوجه مشكلة العلوم بما يتضمن مشكلة التعليم والتآليف، وفي سبيل ذلك ستنقب في نصوص أبرز رجالات الإصلاح في مصر والشام والمغرب العربي الكبير، مع تَلَمّس أوجه الإصلاح المقترحة لمواجهة حالة التأخر التي حفّت بالعلوم وقعدت بها عن مقاصدها.

لكن لماذا هذه العودة إلى التاريخ وإن كان تاريخًا قريبًا؟ لأن الورقة تفترض أن تشخيص الإصلاحيين لمشكلة العلوم لا يزال راهنًا، فهو تشخيص لحاضرنا أيضًا؛ لأننا لم نفارق تلك الحال التي قاموا بنقدها وتشريحها، ذلك أن العلوم الإسلامية التي لا تزال تُدَرَّس في معاهدنا وجامعاتنا لم يطرأ عليها تغيرات جوهرية، فضلاً عن شدة اعتمادها على كتب وتقريرات المتأخرين، كما أن حالة التعليم لا تكاد تخالف ما كان عليه الحال زمن ابن عاشور نفسه كما يبدو من تشخيصه!

أولا: ضرورة الإصلاح التعليمي

شكّل إصلاح التعليم مطلبًا نهضويًّا أساسيًّا لدى عامة إصلاحيي القرن التاسع عشر، بناء على تشخيصهم لأزمة الانحطاط؛ إذ رأى كثير منهم أن الدواء أولاً “في تنوير الأفكار بالتعليم” بتعبير الكواكبي (توفي 1902م)[1]. وقد تنوع كلام الإصلاحيين في هذا الأمر ما بين حديث عن إصلاح إداري، وآخر دراسي، وثالث يتعلق بإصلاح ما لحق العلوم نفسها من خلل، ورابع يتعلق بإعادة تصنيف العلوم ودراسة علوم جديدة تم استبعادها أو هجرها أو القول بكفرها!

وهذا التوجه الإصلاحي العلمي والتعليمي نجده مبثوثًا في نصوص كثير من الإصلاحيين آنذاك على اختلاف أمكنتهم، وإن اختلف إدراكهم لشكل العلاقة بين التعليم والنهضة وعلة الانحطاط هل هي علة واحدة أم متعددة؟ ففي حين نجد أن “التفكير العلّيّ الأحادي ميز -إلى حد بعيد- كلاً من محمد عبده ورشيد رضا والمغربي والغلاييني وأرسلان، وهو التفكير الذي يُدير النهضة والتأخر على علة التعلم والتربية والتعليم المدعومين بالأخلاق[2]“، فإن آخرين -كالكواكبي مثلاً- قد رأوا في التعليم أحد سبل العلاج، وكان إدراكهم لمشكلة الانحطاط إدراكًا شموليًّا وليس أحاديّ العلة، وإن كان الملمح الطاغي على اشتغال الإصلاحيين السلفيين الشوام والمصريين وحتى المغاربة هو الإصلاح التعليمي الذي امتد -في بعض الأحيان ومع بعض الشخصيات- إلى إصلاح العلوم نفسها.

فمحمد عبده يقول: “إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام؛ فإن إصلاحه إصلاح للمسلمين وفساده فساد لهم[3].” وقد كان أحد أغراض مجلة “المنار” منذ مقالها الافتتاحي من العدد الأول عام 1898م “الحث على التربية والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، ومجاراة الأمم في الأعمال المفيدة وطَرْق أبواب الكسب والاقتصاد”. وكان رضا قد أوضح في درسيه اللذين ألقاهما في المسجد الأموي سنة 1908م “إمكان الجمع بين هداية الدين وبين جميع العلوم والفنون التي عليها مدار العمران في هذا العصر، إذا صلحت طريقة التربية الدينية والتعليم[4]“، فـ”التربية والتعليم هما الركنان اللذان يقوم عليهما بناء سعادة الأمة والعاملان الرافعان إلى قمة السيادة[5].”

وكان من وظائف الجمعية التي اقترح الكواكبي تشكيلها باسم “جمعية تعليم الموحدين” لمعالجة داء الأمة؛ أيقاظ فكر علماء الدين إلى أمور منها: “إصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها بحيث يبقى في عمر الطالب بقية يصرفها في تحصيل الفنون النافعة[6].”

أما ابن باديس فقد كان صريحًا كل الصراحة في القول: إن “صلاح التعليم أساس الإصلاح”؛ لأن التعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره[7].”

ويعيد المغربي إلى الأذهان أنه سأل الأفغاني مرة عن “أية الطرق نسلك للمِّ الشعث وانتشال أمتنا الإسلامية من هوة انحطاطها؟” فكان جوابه أنه لابد في الوصول إلى هذا الغرض من “حركة دينية” هي في الحقيقة “إصلاح ديني” شبيه بحركة لوثيروس الدينية؛ أي أنه “إصلاح علمي تعليمي محض[8].”

ومن المهم أن هذه الدعوات لم تكن دعوة رجل واحد فانتشرت، بل بعضها كان متزامنًا مع الآخر وليس وليدًا عنه، صحيح أن المغربي كان متأثرًا بأفكار الأفغاني، ورشيد رضا كان متأثرًا بعبده، لكن يبدو لي أن الجزائري والقاسمي في دمشق وابن باديس في الجزائر كانوا مستقلين بدعوتهم تلك، التي يبدو أنها كانت حسًّا عامًّا مشتركًا بين إصلاحيي تلك المرحلة على اختلاف أماكنهم؛ بفضل التيار الفكري الذي كان يتبلور من خلال الصحبة والمناقشات والمراسلات والرحلات، وقبل كل ذلك بفضل مبلغ الجمود وتردي حال العلوم الإسلامية الذي كان قاهرًا للجميع في المعاهد الدينية[9] وبين صفوف علماء ذلك الوقت الذين توحّد الإصلاحيون جميعًا على نقدهم ونقد أحوالهم. فضلاً عن أن تونس قد شهدت محاولات إصلاح تعليمي عديدة في زمن مبكر، خلال القرن التاسع عشر، في سنة 1842م أثناء حكم أحمد باي (1837-1855) وفيما بين سنتي (1870 و1878) على يدي خير الدين باشا الذي كان له دور حاسم في دفعها وإنجازها بإنشاء المدرسة الصادقية، وإصلاح التعليم الزيتوني[10]، الأمر الذي جعل محمد عبده يقول: “إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر[11].”

ثانيا: مشكلة التعليم

قديمًا “كان أساطين العلماء يهتمون بتحسين أساليب التعليم، فهذا القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي قد تكلم في كتاب الرحلة وفي كتاب العواصم على أسلوب التعليم عندهم، وانتقد واستحسن وبيّن طريقًا صالحًا، وكذلك ابن خلدون[12].”

لكن هذا الاهتمام بتحسين الطرائق تَعمّق لدى بعض المتأخرين؛ على توجهين: توجه إصلاحي وآخر تقليدي. فالإصلاحي كان مدفوعًا بفعل تراكم الانحطاط، وتَبَدل الأحوال، تحت وطأة البحث عن التقدم الذي أدرك أنه لا يُنال إلا من مدخل إصلاح العلوم والتعليم. أما التقليدي المنادي بإصلاح التعليم وطرائقه ونظامه وكتبه، فقد كان مدفوعًا بفعل سوء أحوال التعليم وقلة التحصيل بالمقايسة مع حال العلم لدى الأئمة السابقين.

وهذا التقسيم والتشخيص بَنَيتُه على كتابين نادرين كُتبا مطلع القرن العشرين، ولا أعرف أحدًا سبقهما إلى إفراد معالجة هذا الموضوع بكتاب مستقل[13]، والكتابان يعكسان ذينك التوجهين بأجلى صورة، وهما كتاب “التعليم والإرشاد” لمحمد بدر الدين النعساني (نُشر سنة 1906م)[14] وكتاب “أليس الصبح بقريب” للطاهر بن عاشور (أتمه سنة 1910 وطُبع للمرة الأولى 1967م)، فالنعساني كان “من المقتنعين بسوء الحالة العلمية ووجوب السعي وراء إصلاحها[15]“، ولذلك تكلم في التعليم لثلاثة أغراض: “بيان ما تمس حاجة المسلمين إلى الاشتغال به من العلوم وما لا تمس، وبيان حقيقة المؤلفات التي يشتغل بها طلاب العلوم الشرعية وذكر النافع منها من غيره، والإشارة إلى ما يجب الاشتغال به من الكتب الجيدة النافعة، والنظر في طرق التعليم وكيفيته في المدارس الإسلامية عامة، وبيان جيدها من رديئها، وذكر طرق التعليم النافعة التي كان يجري عليها التعليم في القرون الأولى ليُعمل بها في أيامنا هذه[16]“، فهو يكاد يُحيل أسباب “سوء الحالة العلمية” إلى “فساد طريقة المعلمين تأليفًا وتعليمًا”، وأنه داء قديم سبق إلى تشخيصه ابن خلدون قبل قرون[17]، وغرضه من ذلك بيان فساد كتب المتأخرين، بما يقتضي تركَها والعودة إلى كتب المتقدمين.

أما ابن عاشور، فيُحيل أسباب تأخر التعليم إلى “نوعين: نوع يرجع إلى الأسباب العامة التي قَضَت بتأخر المسلمين -على اختلاف أقاليمهم وعوائدهم ولغاتهم-، ونوع يرجع إلى تَغَيّر نظام الحياة الاجتماعية في أنحاء العالم تَغيُّرًا استدعى تَبدل الأفكار والأغراض والقيم العقلية، وهذا التغير قد استدعى تغير أساليب التعليم ومقادير العلوم المطلوبة وقيمة كفاءة المتعلمين لحاجات زمانهم”، وهذا كله أفضى إلى فساد المعلم، وفساد التآليف، وفساد النظام العام[18].

ولابد من القول: إن نقد نظام التعليم وما آلت إليه أحواله، شكّل حالةً عامةً عند ذوي الهمّ الإصلاحي -وإن لم يكونوا إصلاحيين بالمعنى الذي استقر للإصلاح-، بل إننا نلحظ أمرًا آخر يشكل هو، أيضًا، حالة عامةً موازية لتلك الحالة، وهو وجود معارضة لنوازع الإصلاح في ميدان التعليم، كانت تنهض، باستمرار، لمواجهة ومجابهة تلك المحاولات الإصلاحية، فمن ذلك أن محمد خليل المرادي (توفي 1206ﻫ/1792م) وصف عيوب التعليم في الأزهر في جملة أمور، كان منها عيوب إجرائية وتنظيمية، وعيوب منهاجية، فمن العيوب المنهاجية: “تحديد الموضوعات وضيق النظر في التدريس. فقد كان الهدف في التعليم تَلَقي بعض المعلومات المحدودة. أما تجاوز هذه المعلومات أو مجرد التساؤل عن صحتها فقد يثير شكوك ومقاومة العلماء، أو قد يصل إلى حد العقاب والطرد من المعهد أو فقدان مصدر العيش ناهيك عن التشهير[19].”

وما هذا التشخيص لمشكلة التعليم إلا مظاهر لحالة الجمود والتقليد التي سادت في الأعصر المتأخرة، فعمَد الإمام الشوكاني (ولد 1760م في اليمن) إلى تشريحها ونقدها حين نَبَذَ التقليد وبيّن حال المقلِّدة فقال: “فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد –والحال هذه- بشيء يخالف ما يعتقده المقلدة قاموا عليه قومة جاهلية. ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان. فإن قدروا على الإضرار به في بدنه وماله فعلوا ذلك، وهم -بفعلهم- مشكورون عند أبناء جنسهم من العامة والمقلدة؛ لأنهم قاموا بنصرة الدين بزعمهم وذبوا عن الأئمة المتبوعين وعن مذاهبهم التي اعتقدها أتباعهم، فيكون لهم بهذه الأفعال -التي هي عين الجهل والضلال- من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب[20].”

والغريب أن هذه الحال استمرت حتى رَأَينا ابن عاشور -بعد أكثر من قرن من الزمان- يقول: “أصبح المبتكر عُرضة للنكاية أو الاضطهاد، ناهيك بالمعترض على بعض المتقدمين، وقد حدث أن تلميذًا فيما مضى اعترض مسألة فقيل له: نصّ عليها الأشموني، فقال: وما هو الأشموني؟ فرُفع لمن له نظرٌ فضربه ضربًا شديدًا…[21]“، ثم يتعجب قائلاً: “والعجيب أن من يشعر منهم بخلل الأحوال وخطر التزام المسير على النهج المتبع فيدعوه نصحه إلى إيقاظهم، يجد قبل شيء طوائفَ تنسبه إلى سوء المقصد، وتناظره بأن هذا النهج قد أوصل أسلافنا إلى أعلى مرتقى من النجاح…[22].”

والحال لا يختلف كثيرًا عن هذا في الشام ومصر، حتى قال محمد بدر الدين النعساني سنة 1906م، بعد أن قرر كثرة عدد المطالبين بتغيير نظام التعليم الحاضر: “ولقد كنا من عشر سنوات وما أن يستطيع أحد من أي طبقة من طبقات الناس أن يهمس بشيء مما نرفع به أصواتنا اليوم، ومن شعر منه بشيء من ذلك رأت عيناه ما لا يرى[23]“، ثم يتعجب من قوم يقولون: إن باب الاجتهاد مقفل، “وإن شموا من أحد رائحة دعوى الاجتهاد ولو في مسألة واحدة من مسائل الدين حملوا عليه حملة منكرة، وربما أكفروه وزندقوه[24].”

إن هذا البحث ليس معنيًّا -هنا- بأساليب التعليم وطرائقه الشكلية والإجرائية، ونظامه، وإنما تَتَوجه عنايته إلى منهجية التعليم، والقيم التي تُسهم في صياغة عقلية المتلقي للعلوم، على النحو الذي شخّصه الإصلاحيون.

وقد أوضح الشيخ عبد القادر المغربي الأطوار الفكرية التي مرّ هو بها من خلال تَلَقيه للتعليم، ففي مرحلة أولى تَلَقى المغربي العلمَ على والده الذي تَرَبى على التعليم الأزهري، فكان الأساسُ في التعليم “الاستسلامَ إلى كل ما جاء في الكتب الموروثة… والتصديق بنصوصها من دون تردد ولا ارتياب”؛ بحيث لا يكون ثمة مجال للنظر والتدقيق وإعمال الفكر في التفريق بين النصوص الدينية.

ثم في مرحلة ثانية اتصل بالشيخ حسين الجسر (توفي 1909م) واقتبس منه “تعاليم فيها الغثُّ والسمين، وأن بينها ما هو غير صحيح ولا معقول ولا منطبق على القرآن والسنة النبوية الصحيحة”، فوجب تمحيص ذلك ووزنه بميزان القرآن والسنة وطبائع العمران التي أشار إليها ابن خلدون خاصة.

وأخيرًا -وبعد اتصاله بجمال الدين الأفغاني وإنعامه النظر في دراسة تعاليمه- انتقل إلى الدور الثالث حيث “نفهم النص الديني فهمًا صحيحًا نراعي فيه قوانين اللغة وقواعد بلاغتها، ونستوثق من مطابقة النص للكتاب والسنة، ثم نجرؤ على التصريح بما فهمناه؛ سواء أوافق رأي غيرنا أم لا”.

وبهذا فإن الإصلاح –عند المغربي- لم يُبنَ فقط على “تمييز النصوص والحرص على فهمهما فهمًا حرًّا”، وإنما بُني -أيضًا- على اطراح الباطل الدخيل عليها، و”الجهر بذلك كله من دون جَمْجمة في قول، أو تَقِيَّة من ذي صَوْل[25].”

وفي تونس، جاء في ترتيب سنة 1292ﻫ: “ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقتها العلماء جيلاً بعد آخر بالقبول، ولا أن يُكثر من تغليط المصنفين، فإن كثرة التغليط أمارة الاشتباه والتخليط، بل عليه أن يبذل الوسع في فهم مرادات الفضلاء، ولا يُلقي البحث إلا بعد التحري والإحاطة بأطراف الكلام والتدبر في فهم المراد”، وقد علّق عليه ابن عاشور بالقول: “… إن حظر النقد والبحث أمرٌ بإبقاء الفاسد على فساده، وهو شعبة من شعب الرضا بالموجود الذي هو من أكبر أسباب تأخرنا”، وإن كان قد يَحسنُ في التعليم كي لا يُشوّش المتعلمين المبتدئين، أما حَظْرُ تغليط المصنِّفين “فأدهى وأَمَرُّ؛ لأن المؤلفين إذا خالفوا القواعد كما يقع للضعفاء منهم في بعض العلوم يقتضي ألا نبحث معهم وأن نُقِرَّهم على ما قالوا، وهذا السبب الذي وسّع دائرة الخلاف عندنا؛ لأنّا مهما وجدنا غلطًا أثبتناه رأيًا ومذهبًا[26].”

ولذلك عدّ ابن عاشور من أسباب تأخر التعليم: سلب التعليم حرية النقد الصحيح في المرتبة العالية وما يَقرب منها، حتى أصبحت متابعة كل ما يُكتب فكرة سائدة في أهل العلم، “وهذا خلل بالمقصد من التعليم، وهو إيصال العقول إلى درجة الابتكار، ومعنى الابتكار أن يصير الفكر متهيِّئًا لأن يبتكر المسائل ويوسّع المعلومات كما ابتكرها الذين من قبله، فيتقدم العلم وأساليبه، ولا يكون ذلك إلا بإحداث قوة حاكمة في الفكر تمّيز الصحيح من العليل مما يُلقَى إليه، ولهذا الغرض انتخبت في عصور النهضة لكل أمة طريقة التعليم البحثي النظري، وهذه طريقة المتقدمين من المسلمين، فإنهم ما كانوا يتابعون رأيًا إلا بعد اتضاح دليله، وما كان تَعلمهم لعلوم أساتذتهم ومتابعتُهم لأقوالهم إلا ليجعلوها أصولاً يبنون عليه ما يُحدثونه، اقتصادًا في الوقت وتقليلاً للمسافة[27].”

ومن أسباب تأخر التعليم كذلك، الجمود على عبارات المصنِّفين، وقد سبق أن أشرتُ في مقدمة هذا البحث إلى بعض الوقائع التي تحكي طرفًا من إنفاق الأعمار في حلّ مشكلات ألفاظ الكتب وعباراتها. وقد عاب جمال الدين القاسمي على مَن سماهم “الحشْوية[28]” أنهم يَجمدون على العبارات في كتب الفقه، “يُذِيبون فيها أدمغتهم ليفهموها ويستنبطوا منها منطوقًا ومفهومًا، ويضيّعوا أوقاتهم بما لا يُفيد الأمةَ شيئًا مذكورًا. ولو صرفوا أوقاتهم لفهم القرآن والسنة لَأَتَوا منهما بالعجب العجاب، ونشلوا الأمة من تأخرها وجمودها[29]“، وهذه الحال نفسها التي عابها ابن عاشور على التعليم في الزيتونة من أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجري، حيث “كاد أن ينحصر التعليم في أسلوب الإلقاء دون تمرين شفاهي ولا كتابي، فيلقي المدرس المسائل العلمية ويجتهد في إفهامها للتلامذة وهم يسمعون، ثم يشتغل بألفاظ المؤلفين وما أُورِد عليهم من الإخلال في أداء المسألة بلفظ تام، وما أجيب به[30].”

ومن هنا عدّ ابن عاشور من أسباب تأخر التعليم، عدم إعطاء كل مرتبة من مراتب التعليم ما تحتاجه من الأسلوب اللائق بها والنافع فيها، ففي المرحلة الابتدائية يُطالَب التلميذ باستحضار المهم، ويُلقَى عليه ما له أثر عمليّ ويكَرَّر سؤاله فيه، ويُكَلَّف بتحريرات يُظهر فيها أثر معرفته. وفي المرتبة المتوسطة يصير التعليم راميًا إلى تقوية التفكير والجمع والتحليل، وفي المرتبة العالية يصير التعليم يرمي إلى الاستنتاج والنقد. وفي كل تلك المراتب لا تكون العناية إلا باللب من العلم لا بالألفاظ والقشور[31].

ومما يدخل في مشكلات التعليم وأسباب تأخره كذلك، الوقوفُ عند مؤلفات المتأخرين، وبذل الأوقات والأفهام في فهم عباراتها وألغازها، ولذلك عاب محمد عبده على المتعلمين أنهم أهملوا كتب السلف، “ولا يقرؤون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتبه المتأخرون، يتعلم أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها، ولا يستطيع البحثَ في أدلتها وتصحيح مقدماتها…[32]“، “فَدَرَست علومُ الأولين وبادت صناعتهم، بل فُقدت كتب السلف الأولين –رضي الله عنهم-، وأصبح الباحث عن كتاب المدوّنة لمالك رحمه الله تعالى، أو كتاب الأم للشافعي رحمه الله تعالى، أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية، كطالب المصحف في بيت الزنديق… هذا كله من أثر الجمود، وسوء الظن بالله، وتوهم أن أبواب فضل الله قد أُغلقت في وجوه المتأخرين[33].”

وكان هذا المطلب أحد المعالم الرئيسية التي بنى عليها النعساني كتابَه؛ إذ انتقد الكتب السائدة في تدريس العلوم الإسلامية كتابًا كتابًا، وأورد حجج بعض شيوخ الأزهر وغيرهم في التعويل على كتب المتأخرين، وراح يفندها، ثم قال: “فتَعَيَّن أن الرجوع إلى كتب المتقدمين في كل ما أُلِّف من العلوم خير من الاشتغال بكتب المتأخرين بما ذكرناه من البراهين على ذلك[34]“، وهو يُحيل هذا إلى مصادفة ظهور الطباعة لحالة “ضعف في العلم الديني، وتسلط العلماء الأغبياء على الحكام الجهلاء، فكان همّ المطابع المصرية طبع آثار هؤلاء الذين نشير إليهم وأشياخهم وبعض من يثقون بهم من علماء القرون الوسطى دون شيء من كتب المتقدمين لمخالفتها لأفكارهم[35].”

ومما يدخل في هذا المعنى قول ابن عاشور: “لو كان الناس أَحسنوا اختيار التآليف ونظروا في عوائق التحصيل فاستدركوا ناقصًا، وأصلحوا مختلاً لَمَا كان التلميذ يقرأ طول زمانه وهو عاجز عن التكلم بكلام مُعرَب، ولا كان يقرأ الأصول وهو يوم يختم المحلّيّ لا يُحسن ترجيح رأي بله استنباط حكمٍ[36].”

فجِمَاع مشكلات التعليم الديني بحسب الإصلاحيين ينحصر في حال الجمود وغياب حرية البحث والنقد بتعبير العصر، كما يتمثل في تعطيل ملكة العقل التي كانت من أهم ما ركز عليه هؤلاء جميعًا، وفي نقد تحوّل كتب المتأخرين إلى حجاب يحول بين العلماء وبين التواصل المباشر مع النصوص التأسيسية وكتب السلف على السواء، وأن صرف الجهود والأوقات إلى تحليل ألفاظ النصوص والوقوف على العبارات كان سببًا في شيوع حالة تأخر التعليم وفقدان العلماء “الحقيقيين”، وأخيرًا التيقظ إلى ضرورة الوعي بتفاوت نصوص التراث وأن فيها الغث والسمين؛ مما يقتضي ضرورة نَخْلِها وتنقيتها، واستعادة وانتخاب نُبَذ من التراث الإسلامي الأصيل لنشرها وقراءتها وقد نهض بهذا الواجب على الخصوص في الشام الشيخ طاهر الجزائري –وكان مرجعًا في هذا- ثم القاسمي الذي أفاد من الجزائري.

ثالثا: مشكلة التآليف

تعكس التآليف في العلوم حالةَ العلوم نفسها ومآلاتها ومستوى الوعي بها، “فما العلوم إلا معاني التآليف، وإنها لا ترجو تَقَدُّمًا ما دامت محبوسة في تآليفها القديمة التي وقفت بها عند القديم منذ ستمائة سنة[37]“، فلا يمكن الحديث عن إصلاح تعليمي مع التغافل عن حالة التآليف عامة، والتآليف المرجعية التي تشكل السقف المعرفي للقيّمين على العلوم تأليفًا وتدريسًا، ولهذا كان بحث مشكلة التآليف المتأخرة حاضرًا بقوة لدى عدد من الإصلاحيين، بل إن أكثر مَن توسع في بحث مشكلة التآليف –عَلِمناه– النعساني وابن عاشور، مع الاختلاف الواضح بينهما في المنـزع مما سبقت الإشارة إليه.

وأَوضحُ مَن رأيناه غاص في مشكلة التآليف هو الطاهر بن عاشور، فقد وصف سوء أحوالها فقال: “وقف بنا المسير وضاقت التآليف واختلطت العلوم، وأصبحنا نتابع ما وجدنا غير شاعرين: أَلِحُسن اتبعناه أم لقُبح نبذناه، وتَبَدَّلت العصور وتَقَدّمت العلوم وطارت الأمم ونحن قَعيدو علومنا وكتبنا، كلما أحسسنا بنبأة التقدم والرقي وتغيير الأحوال استمسكنا بقديمنا، وصفّدنا أبوابنا. فإنك لتنظر الرجل وهو ابن القرن الرابع عشر فتُحسّه في معارفه وعلمه وتفكيره من أهل القرن التاسع أو العاشر مما هو معلول؛ لوقوف تَقدم التآليف عند الحد الذي تركه الواقفون، فَرُزئ الناس فائدة الانتفاع بأخلاقهم وعوائدهم ومكتشفاتهم، وسُلبوا شرف النفس باعتيادهم التقليد والاستكانة لكلام الغير، واعتقادهم أن ما أتى به الأقدمون هو قصارى ما تصل إليه قُدَر البشر[38].”

وقريبٌ منه النعسانيُّ الذي عاب التآليف التي عليها مدار التعليم في العالم الإسلامي، وكلُّها من تآليف المتأخرين، حَمَلهم على وضعها حرصُهم على “استبقاء ذكرٍ لهم في دفاتر مؤلفي الإسلامي… وكلٌّ يَزعم أنه إنما حمله على ذلك قصور همم الناس عن التطلع إلى المطولات”، فحصل من جرّاء الاعتماد على المختصرات والشروح والحواشي أن “انحلّ بين أيدي المتعلمين نظامُ العلم، وذهب رَونقه، وأَظلم مشرقه، وتلاشى واضمحلّ حتى عَفَت آثاره ودَرَست معالمه[39]“، وغرضه من كل ذلك العودة إلى كتب المتقدمين.

ومن ذلك أيضًا أن محمد سعيد الباني لخص حالة التأليف -على هَدْي من شيخه طاهر الجزائري– فقال: “أنت ترى أن أكثر أسفار المتأخرين ومجاميعهم الضخمة خالية من دواعي التأليف؛ لأنه لا يسوغ لأحد –كما نقل ابن حزم[40]– أن يؤلف تأليفًا إلا في أحد أقسام مخصوصة ولا يمكن التأليف في غيرها، وهي إما أن يؤلف في شيء ما سُبق إليه يخترعه، أو في شيء ناقص يتممه، أو في شيء غامض يشرحه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه غيره فيصلحه أو شيء طويل يختصره بدون أن يخل بشيء من معانيه أو في شيء فيه حشو وتكرار وزوائد فينقحه ويهذبه ليقرب تناوله، وذلك صيانة للنفس من الإتيان بالعبث، وضنًّا بالوقت أن يضيع سدى”. ثم قال: “ترى بعض المؤلفين -مثلاً- يتناولون كتابًا قد شرحه مَنْ سَلَفهم شروحًا عديدة، فيُعيدون شرحه بنفس ألفاظ الشرّاح السالفين دون إدخال إصلاح أو تجديد أو اختراع في الأسلوب… فكم من مؤلفات ورسائل وشذرات مصنّفة في موضوع من الموضوعات لو خرَّجناها لوجدنا كل جملة أو نتفة مقتبسة من كتاب؛ لأن مؤلفيها لا يعرفون بديهيات العلم المؤلَّف به فضلاً عن عويصاته…[41].” وأفاد أن شيخه طاهر الجزائري قال له كلامًا “مغزاه: أنْ لا فائدة اليوم من التأليف إلا إذا أتى المؤلف باختراع جديد وأبدعَ بأسلوب جديد. فينبغي -مثلاً- لمن يحاول الكتابة في علم أصول الفقه أن تكون كتابته مطابقة لمقتضيات روح العصر[42].”

ونحو ذلك رأى جمال الدين القاسمي، فجعل من “علامة هذا العصر نَبذ كتابات مثل كتابات [يوسف النبهاني][43]، عاطلة عن المعرفة والثقافة[44].” وقد لمس ديفيد كومنـز هذه النـزعة المتطورة لدى الإصلاحيين السلفيين في الشام حين أدرك أن “النـزعة السلفية تضمنت أكثر من تغيير الطرائق؛ فقد سعت إلى إعادة تقييم كاملة للتراث الديني، وفضح زيف الكتب المعتمدة والعادات المُتَّبعة التي تفتقر إلى أساس واضح في الكتاب والسنة[45]“، ومن ثم يغدو ذا دلالة هنا إصدار القاسمي نسخة محررة من “إحياء علوم الدين” للغزالي، وهو الكتاب الذي سنجده أثيرًا لدى عدد من الإصلاحيين السلفيين، بما ينطوي عليه عنوانه من دلالة معبِّرة، وبما ينطوي عليه تحريره كذلك وتنقيته مما فيه من أحاديث وقصص زائفة، وتم هذا باقتراح من الشيخ محمد عبده للقاسمي[46].

وجِمَاعُ القول في سبب انحطاط التآليف اختلافُ الحالة -كما سماها ابن عاشور- “فإنه لمّا سُدّت منافذ التفكير في العلم والتوسعة فيه، مال العلماء إلى التفكير في عبارات السابقين، ثم لمّا عُنُوا بطريقة الاستحضار مالوا في تآليفهم إلى الاختصار، ثم لما شعروا بسماجة الإعادة للمسائل ابتكروا طريقة خَلْط التأليف الذي يُؤَلَّف في علمٍ بمسائل من علومٍ أخرى بأدنى مناسبة[47]“، وعليه فقد “أضرّت القناعة بالتآليف إضرارًا شديدًا وأفسدت أبوابًا كثيرة، أعني قناعة المتأخرين بما وصل إليهم من الأقدمين من غير أن يبنوا على أسوسهم، ثم هم بعدُ على قسمين، منهم من ينقل كل ما وصل إليه، ومنهم من يرتقي فيُزَيِّن تأليفه بالنقل عن العلماء المشاهير[48].”

وأصل ارتقاء التآليف وتَدَليها محكومٌ -في طبيعة الزمان- إلى حال الأمة، وأصل الشعور بالتآليف مبدأ من مبادئ الشعور بتخليد العلم لنصح الخلف، وهذا من مبادئ نهضة الفكر البشري، لا يجحده الإنسان ما لم يشعر أولاً بالحاجة إلى العلم وبسعته وبأنه يتكامل بتلاحق الأفكار، وبأن الأفكار لا تستوي في منشآتها، فإذا شعر بهذا كله، شعر بوجوب إثبات ما وصلت إليه آراؤه ليكون من ذلك أولٌ لثانٍ فثالث فصاعدًا[49].”

ويمكن تحديد مشكلات التآليف –وفق نظر ابن عاشور– بأمور:

منها: الخروجُ من جادة العلم إلى مناقشات اللفظ والتعقيدات، “ومن العجب أن صار المؤلف يصرف جهده إلى أن تكون عباراته مضبوطة جارية على الصواب، لكنها غير واضحة في مراده، فكأنه يقتنع بكونها مؤدية للمراد في ذاتها، بقطع النظر عن عُسر استفادةِ مُطالعها منها، ويُعبرون عن هذه الحالة بالطريقة العجمية، ونشأ للناس العكوفُ على تآليفهم والتنافس في فهم مرادها، وبذلك وقفت أفهام كثيرة عن التقدم في تحصيل مسائل العلوم”، واشتغل المؤلفون عن النقد، واعتَنَوا “باختزال حرف أو نقص كلمة كما فعل خليل وابن السبكي والمحلي والخونجي، حتى صار الكاتبون ينتقدون صاحب الاختصار في بعض التراكيب بأنه لو قال كذا لكان أخصرَ، فضعُفت الأفهام وتَهَيَّأت لشرح تلك المغلقات وإضاعة بقية الأوقات، والخصومة في معاني الكلمات… وبعد طول زمان صُرفت الأذهان عن الفائدة ونسي المؤلفون خطتهم، فأصبحت لا ترى التآليف إلا مناقشات وخصومات على الألفاظ والعبارات… فانحصرت دائرة التآليف في نقل ما قال المتقدمون، ترى تأليفًا يظهر بعد آخر، ولا تجد شيئًا جديدًا أو رأيًا أو تمحيصًا[50].”

ومنها: النقلُ المجرد في التآليف، فاضطُرّ المؤلفون إلى “متابعة مجرد النقول، والاصطلاح على أن يُسموها علمًا، ثم تَسَابق الناس إلى إظهار التافه من التآليف واقتنائه في المطالعة والتعليم[51]“، وقد سبق النعسانيُّ إلى العيب في كتب المتأخرين بالقول: إنهم “يعتمدون قولَ كلِّ مؤلِّف في أحكام الدين، وإن لم تكن الأحكام التي يذكرها في كتابه مما صحّ ثبوته عند الأئمة، ويقلِّدونه في كل أبحاثه وأنظاره، وإن لم يُعرَف له مستندٌ يستند إليه، وإذا اعترض عليهم في ذلك معترضٌ نَسبوه إلى الاستخفاف بالدين وعدُّوه من الملحدين. أليس من العجيب أن يكون قول كل أحدٍ تَقَدَّم عصره وظهرت له بيننا مؤلفات حجةً في الدين، بل هي الدين المنـزل والشريعة المتبَعَة بلا نظر في درجة مؤلفها وقوة مآخذه؟! أليس من العجيب أن يكون قولُ كل قائل إذا خالف ما ذهب إليه صاحب المذهب -صراحةً- روايةً في المذهب؟![52].”

ويُحيل ابن عاشور السبب في ذلك إلى اغترار المؤلفين بما “رأَوا في تآليف الأقدمين من النقل عن أساطين العلماء، فظنوا ذلك -وحده- زينةَ العلم، فإذا كان السكَّاكي ينقل عن الزمخشري وعبد القاهر فإنما يفعل ذلك في مواضع يريد بها البرهان على صحة معنىً أو بيان مذاقٍ، فما بالنا اليوم لا نسمع إلا قال فلان وقال فلان؟!”.

ثم يعقد موازنة بين تآليف المتأخرين والمتقدمين، فيقول: “كانت تآليف الأولين مفعمةً بالأنظار المبتكرة والمَنازع الاجتهادية في كل العلوم، ومن آثار ذلك التي لا تزال شاهدًا على مقدار إطلاق العنان للتآليف في شباب الإسلام ما نرى في الكتب من حكاية الأقوال، حتى إنك لتجد أقوالاً ما كان ينبغي أن يُتَسامح بعَدِّها بين الأقوال؛ لشدة ضعفها، ولكن احترام الأفكار هو الذي بعث المؤلفين على إثباتها وإحالتها إلى نقد المطالِعِين، حتى انقلب ذلك بالناس إلى اعتقاد أن كل قول مسطور فهو صحيح لا ينبغي الطعن فيه، ولا يُتَحرج من الأخذ به[53].”

ومنها: تخليط العلوم، وله صورٌ عدة، منه ما يكون تخليط مسائل العلوم بعضها ببعض، “كأن يكون يقرأ الكتابَ في مبادئ النحو –مثلاً– فلا يلبث أن يجد نفسه في نوادر ذلك العلم… ويرى نفسه في علم الكلام؛ لأن المتن قال في تعريف اللفظ: إنه الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية. فشرحه الشارح بأنه حركة في اللسان يخلقها الله عند حاجة المتكلم، فجاء المُحَشِّي يُريك أن الشارح لم تَزِلّ به قدمه، بل جرى على أصول الأشعري في الكسب، فجاءتك مسألة خلق الأفعال والخلاف بين الأشعرية والمعتزلة والجبرية، كل هذا والتلميذ… لم يَعرف بعدُ معنى الكلام، فكيف به إلى دقائق علم الكلام؟!

هذا كله يجب أن يُدحَض، فلا المنطق يُؤتَى به في مبادئ علم الأصول ولا فلسفة الأجرام في باب التشبيه، ولا الحواسّ الباطنة في الفصل والوصل من البلاغة، ولا التصوف في الفقه، ولا الخلاف في دلالة الكلام هل وضعية أو عقلية في تعريف الكلام من مبادئ النحو…[54].”

ومن تخليط العلوم ما يكون على مستوى التصور بالخلط بين الصلاح والعلم، فـ”إذا كان الرجل من الصالحين وألف تأليفًا أو أنشأ شعرًا أدخلوا صلاحه في آثاره فعصموه من الخطل، وأعطَوا شعره رتبة الاختيار”، ومن أمثلة ذلك ما “في كتاب أزهار الرياض، لمّا تَعرض إلى البحث عن كتب الفقهاء وذكر أبا الحسن الصغير شارح تهذيب المدونة وقوله في شرحه: (يؤخذ من هاته المسألة كذا)، وقول ابن عرفة في حقه: (لا أدري طريق الأخذ ما هو، هل هو الاستنباط أو القياس أو المفهوم، وكلٌّ من هاته الأقسام يفتقر إلى شرط، ولا شيء من ذلك)، فقال المِقَّري صاحب الكتاب بعد هذا: (تنبيه: لا يقعْ في ذهنك قصور الشيخ أبي الحسن في قوله: يؤخَذ من هذه المسألة، أنه خفي عنه كيفية الأخذ، فاعلم أنه كان إمام وقته، وما أُخذ عنه حتى ظهرت على يديه الكرامات الخارقة في شفاء أصحاب العلل المزمنة وغير ذلك). فعدل عن التنويه بشأن أبي الحسن من الجهة العلمية والجلالة في الفقه إلى كونه شفى أصحاب العلل، وهكذا كانوا يأخذون كلام الصالحين فيَقضون به على العلم، وربما نـزلوه منـزلة ما لا يقبل الطعن[55].”

ومن تخليط العلوم جَعْلُهم العلمَ علمَ اجتهادٍ وعلمَ كشفٍ، وقولهم: شتانَ من بين من يأخذ من طريق الاجتهاد ومن يأخذ من طريق الكشف!. “ظنًّا منهم أن الصالح منـزه عن الغلط، وأنه إذا تكلم تكلم عن شبه وحي، وهو ما عبروا عنه بالكشف، وتوهموه أنه الاطلاع على مراد الله أو قراءة اللوح المحفوظ كما يقول الجهال من العامة، مع أن هذا الكشف خواطرُ تَعرض لأهل الصلاح وليست معصومة من الخطأ، ولقد كانوا يعتقدون –وما زالوا – أن الأمر المشكِل إذا رُئيَ في النوم ما يُبيّنه فقد فُسِّر بوجه لا يقبل الخطأ؛ لأنهم يرون الأحلام كشفًا، ويثقون بأنفسهم وهم نائمون بما كانوا يشكون فيها وهم أيقاظ”، ومن أمثلة ذلك قول سعد الدين التفتازاني بعد أن قرر إشكالاً: “ومما أُلهمتُ بين النوم واليقظة”، وقول قطب الدين الشيرازي في ديباجة شرحه للمفتاح: “إنه قد أُلقي إليّ على سبيل الإنذار من حضرة الملك الجبار، بلسان الإلهام لا كوهم من الأوهام، حالَ نصب شبكة الغَيبة، وهي حال بين النوم واليقظة، ما أورثني التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار السرور[56].”

رابعا: إعادة تصنيف العلوم

نجد مسألة تصنيف العلوم في الحضارة العربية بدءًا من أواخر القرن الثاني الهجري على يد جابر بن حَيَّان (200ﻫ)، غير أنها لا تستقوي إلا في أواخر القرن الثالث، وتصبح على أَشُدِّها في القرن الرابع. وكان ذلك النوع من التصنيف جزءًا من مهمة المفكر، وأنه لا يجوز لمن أخذ بسهم من الدراسة الفلسفية أن يُهمل هذا الجانب؛ لأن مزاولتها تعني دُربة فكرية على رؤية الأصول والفروع، وإبرازًا للقدرة على التصدي الواضح لأنواع المقولات. فالدافع الأساس الذي كان يُحَرِّك مثل تلك التوجهات هو دافع معرفي، يرمي إلى إدراك أو إظهار التكامل بين معارف الأوائل والمعارف الدينية، وكان من أقوى التصنيفات جاذبيةً ذلك التقسيم الثلاثي الذي يُستَنتَج من موقف أرسطاطاليس، ومُفاده قسمة العلوم إلى علوم نظرية، وعلوم عملية، وعلوم منتِجة أو آلية[57]. ومن التصنيفات الدالة هنا تصنيف ابن عبد البر للعلوم عند “جميع أهل الديانات” على ثلاثة، علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالأعلى علم الدين، والأوسط علوم الدنيا كالطب والهندسة، والعلم الأسفل هو إحكام الصناعات وضروب الأعمال[58].

غير أن التراجع التاريخي الذي وقع للعلوم في الفضاء الإسلامي، وفقدان الإيمان بالتصور الكلي والتكاملي للعلوم الذي حَكَم تلك التصنيفات، أدى إلى ظهور فتاوى ومقولات تحرِّم الاشتغال ببعض العلوم مثل المنطق والفلسفة، وتُخرجها من دائرة “العلوم الصالحة”، كما أدى إلى إهمال علوم أخرى من “علوم الدنيا” لصالح “علوم الآخرة[59]“، وقد أشار ابن عاشور إلى نحوِ ذلك حين ذكر ثمار علوم الفلسفة والتاريخ والأدب وغيرها، ثم قال: “نظر كثير من الناس إلى هاته العلوم نظرَ المغترّ بالظواهر، فَخَالوها عديمة الجدوى فاطَّرحوها من التعليم واستبْقَوا البعض منها متابعةً للسلف حين رَأَوهم عُنُوا بها[60].”

ولذلك اندفع الإصلاحيون لإعادة النظر في مثل تلك التصورات، وأدركوا -بعمق- ضرورةَ الأخذ بعلوم العصر التي كانت –في رأيهم- السببَ في نهضة الغرب، من أجل إعادة الاعتبار لها واستعادة التمدن الإسلامي، في محاولة لإعادة التوازن بين الدين والدنيا على السواء. ومن هنا نجد الشيخ سالم بوحاجب –مثلاً- قرر أن “ما ينبغي صَرْف الهمة إليه من العلوم”، على قسمين: قسم ينفع في الحياة الدائمة، كعلم أصول الدين والفقه وأصوله والتفسير والحديث، وسائر ما يُحتاج إليه في تلك العلوم كفنون العربية والمقدارِ اللازم من المنطق والحساب والهندسة والميقات. وقسمٌ ينفع في الحياة الدنيا كعلم الحكمة الذي يعين على تنمية العمران، وعلم التاريخ والجغرافيا والطب والحساب والمساحة والهندسة والفلاحة وسائر الصناعات، ثم يُحيل حالة التأخر في العلوم الدنيوية إلى “اعتقاد كثيرٍ منا أن التقدم في العلوم الدنيوية ينشأ عنه تأخر في الدين. والحال أن الواقع بالعكس؛ فإن الدين إنما تقهقر عند تأخر المسلمين في تلك العلوم”، بل إن بوحاجب ربط تلك العلوم الدنيوية بالمقاصد؛ لأنها “ترجع إلى حفظ الأمور التي اتفقت الشرائع على وجوب المحافظة عليها، أعني الدين والبدن والعِرض والمال[61].”

وبالرغم من أن الكواكبي يتحدث عن “علوم دخيلة”، يكاد يُدين فيها الفلسفة والمنطق والكلام، فإنه يُفَرِّق بين نوعين من “العلوم الدخيلة”: نوع طرأ على الفكر الإسلامي حوالي القرن الثالث للهجرة، ونوع تلقاه المسلمون والشرقيون بعد ذلك بعشرة قرون، وهو من “علوم النهضة الأوربية الحديثة”، فأما “العلوم الدخيلة فيما مضى فقد كان أثرها مفسدة للعقيدة في بساطتها، ومدرجة إلى العجز والفتنة في الحياة العامة، وأما العلوم الدخيلة في عصره فقد كان أثرها الواضح قوةً لأصحابه وغَلَبة لهم على الجاهلين بها، وهداية إلى المصلحة والعمل والمعرفة بأسباب الحياة الواقعة[62].”

ولم تختلف مقولات الإصلاحيين بشأن الأخذ بالعلوم العصرية، وأهميتها في سياق البحث عن التقدم، وهو ما سنلحظه في إشارات متعددة لدى الكثيرين منهم، في مصر والمغرب وتونس والشام، بل إن النعساني نفسه لا يجادل في أهمية تلك العلوم؛ إذ يقول: فخير من صرف الأوقات الثمينة في تفهم اصطلاحات المنطق، تعلم العلوم الشرعية “أو العلوم المادية التي فَقَد الإسلام بفَقدها أهمَّ خصال الشرف والسؤدد[63].”

لكن الأهم هو نظرتهم إلى العلوم الدينية نفسها؛ لأننا سنلحظ لديهم نظرًا مهمًّا في إعادة ترتيب أولويات الاهتمام بها وإعادة تحديد النافع وغير النافع منها، مع وجود الاختلاف بينهم في ذلك.

وتَحسن هنا الإشارة إلى منحى الشيخ محمد عبده الذي كان مهمومًا بإصلاح التعليم في الأزهر، فطرح فكرة تقسيم العلوم إلى مقاصد ووسائل، وعلى أساس هذا فاضَلَ في مقدار الاهتمام بين العلوم بعضها ببعض، فأسهم في استصدار قانون الأزهر، الذي تضمنت المادة السابعة عشرة منه “تقسيم العلوم إلى وسائل ومقاصد، وأُضيف فيها علوم الأخلاق الدينية والحساب والجبر، وعُدّت هذه العلوم الثلاثة الجديدة من العلوم الإلزامية”، وفي المادة العشرين: “يخصص لعلوم المقاصد أوسع أوقات الدروس، ولا يُصرف في الوسائل من زمن الدراسة ما يساوي الزمن الذي يُصرف في المقاصد”، وقد بيّن عبده أنه “لا يزال معظم الزمن يُصرف في النحو –وهو من الوسائل- وأما المقاصد مثل تفسير القرآن والحديث فلا يُصرف فيها إلا الزمن القليل”. ومع ذلك فإن المادة الثالثة والعشرين تنص على أنه “لا يباح للطالب أن يشتغل بعلم من علوم المقاصد قبل أن يستحضر من وسائله ما يمكّنه من فهمه، وعلى كل طالب أن يَتلقى أصول مذهبه[64]” مع النص على منع قراءة الحواشي والتقارير منعًا باتًّا في السنوات الأربع في جميع العلوم.

وهذه الرؤية مأخوذة عن ابن خلدون الذي كان أول مَن وقفنا عليه قسّم العلوم إلى مقاصد ووسائل، ورأى أن التوسع في الوسائل مفسد للمقاصد[65].

لكن ما يعنيني أكثر هو ذلك الاختلاف في تحديد النافع وغير النافع من العلوم، وقد كان الشوكاني اليمني مبكرًا في الإشارة إلى ضرورة إعادة تصنيف العلوم النافعة حين انتقد حال المقلدة الذين جعلوا من دراسة علم الأصول للتبرك فقط أو لِفَهم مآخذ الأحكام في أحسن الأحوال، فقال: إن علوم الاجتهاد “عند هؤلاء المُقَلِّدة ليست من العلوم النافعة، بل العلوم النافعة عندهم هي التي يتعجلون دفعها بقبض جرايات التدريس وأجرة الفتاوى ومقررات القضاء[66]“، فهو يريد إعادة الاعتبار لعلم الأصول و”تحقيق الحق” منه؛ لأنه عماد الاجتهاد الفقهي، فهو “الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد من حيث لا يَشعرون[67].”

ومع وجود انتقادات للإصلاحيين على بعض العلوم الإسلامية، لكنهم لم يختلفوا في الجملة على كونها علومًا نافعةً، إلا ما وجدناه عند عبد الحميد الزهراوي الذي طرح فكرة صادمة فقال: “كلامي في الفقه الإسلامي حملني عليه سبب شريف؛ ذلك أنني كتبت إلى صديق لي فاضل مُشْرفٍ على مطالع أنوار المعارف: مكتوبًا مطولاً، عرضت له فيه خلاصة نبذة من أفكاري بأننا إخوان سعي في سبيل إصلاح يهتم له الشاعرون بالأحوال، وينكره الواقفون الذين تتجاذبهم الأهواء ويتجاذبون الأدواء، والمكتوب جاء فيه إنكار لكثير من العلوم التي يعتبرها المسلمون من العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، وأعتبرها أنا بالعكس؛ بما قام عندي من البرهان. فاختار أن يحاورني في قسم من أقسام المكتوب، فكتب إليّ جوابًا أفاض فيه من معارفه الغزيرة ما تروى به الصدور…[68].” وهو يعني على وجه التحديد علمي الفقه والتصوف مما سنأتي عليهما لاحقًا.

وإلا ما وجدناه لدى الكواكبي الذي رأى أن الفلسفة اليونانية هي تلك الأخلاط العقيمة التي قال عنها بلسان المحدِّث اليمني وهو يصف العالم المجتهد: ويُشترط فيه أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يُفسد ذهنَه بالمنطق والجدل التعليميين والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورية، وبأبحاث الكلام وعقائد الحكماء ونـزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسومين.

وخيرُ مَن يمثل الرؤية الإصلاحية للعلوم بشكل متكامل –في رأيي– هو الطاهر بن عاشور، الذي شخّص أسباب تأخر العلوم جملةً، ثم فرّع عليها أسباب تأخر كل علم على حِدة، وبدا ابن عاشور محكومًا -في الإطار العام- إلى يقينه بأن “لأسباب تأخر المسلمين عمومًا رابطةً وثيقةً بأسباب تأخر العلوم[69]“، ومن ثم تراه يُورد في مواضع ما يوحي بالربط بين مزاولة العلوم والفنون وبين التَّمَدُّن الإسلامي[70].

ثم على مستوى التحصيل الواجب تجاهها، يقرّر أن العلوم الشرعية المُحتَاج إليها ثلاثة أنواع: أحدها فرض عين يجب على كل واحدٍ من الأمة القيام به وبتركه يكون عاصيًا، وهو علم الحال، الذي يتقلب به العبد آناء الليل وأطراف النهار من الأقوال والأعمال والاعتقادات، والثاني: فرض كفاية وهو حفظ القرآن وما يتعلق بحال العموم، وهو الفقه بتمامه والتفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه وعلم القراءة وما تتوقف عليه هذه العلوم من الفنون العربية. والثالث مستحب وهو التبحر في الفقه وغيره من العلوم الشرعية ووسائلها[71].

أما من جهة ثمرة العلوم فهو يقسمها إلى قسمين: “أولهما: ما تنشأ عنه ثمرة هي من نوع موضوعات مسائله… كعلم النحو؛ فإن الثمرة التي تُجتَنى منه هي من نوع موضوعاته التي يُبحَث عن عوارضها الذاتية؛ أي أنها ثمرة لفظية محضة، وثانيهما: ما يبحث عن أشياء لا لذاتها، بل لاستنتاج نتائج عنها، مثل علم التاريخ الباحث عن أحوال الأمم وأسباب صعودها وهبوطها لا ليكون ذلك في ذهن مزاوله، بل لحصول غايتها وهو عقل التجربة وتجنب المضار والسعي للمنافع، ومثل الفلسفة الباحثة عن الدقائق الفكرية في كل عصر، فإن لها تأثيرًا في إنارة العقل وتدريبه على فتح أبواب الحقائق المصفودة والحكمَ الأعلى على عموم العلوم، وهاته النتيجة لا تُقرأ في الفلسفة، ولكنها يعتادها الذهن في ضمن ممارسته لمغلقات المعلومات. ومثل هذين… جميعُ العلوم البرهانية النظرية، نحو الهندسة النظرية وبراهين المنطق وأصول الفقه؛ أي فلسفة الاستنباط، تفيد هذا من إحدى جهتيها، وإن كانت تفيد غايات علومها من حيث إنها براهين على الإطلاق[72].”

فنحن هنا أمام رؤية كلية شاملة للعلوم، لا تستبعد منها علمًا من جهة نفعه حتى الفلسفة، التي تبدو شديدة الأهمية لديه، وكذلك علم الأصول الذي سماه فلسفة الاستنباط، مع تحديد مستويات التحصيل لجهة الأفراد، ولجهة مجموع الأمة، بما يحقق التمدن الإسلامي.

التصور المقابل لهذا، هو تصور النعساني الذي يُحدد رؤيته للعلوم بأنه “ليس كلُّ علم ينفع، وإنما النافع من العلم ما أمكن التوصل به إلى العمل، فأما ما لا يمكن التوصل به إلى العمل فهو وعَدَمُه سيّان[73]“، و”إنما جعلنا كتابنا هذا في بيان كتب العلم وإصلاح طرق التعليم، ومن جملة ذلك تمييز العلوم النافعة التي لها نتائج حسنة من التي لا خير فيها، فإنما الغرض لنا من هذا كله النظرُ في حالة طلبة العلوم الشرعية، وصرفُ وجوههم إلى ما فيه صلاحٌ لهم ولأمتهم في أمر دينهم ودنياهم، وصرفُهم عن الاشتغال بما لا يُفيدهم ولا يفيد أمتهم من العلوم، وبما هو قاطعٌ لهم عن الحصول على العلوم النافعة من الكتب السافلة الرديئة الساقطة[74].”

وعليه، فإنه رأى أن “علم الأصول ليس من العلوم الضرورية، وأنه لو رُفع من جمهور العلوم الدراسية لكان خيرًا من الاشتغال به وصرف الأوقات الطويلة فيه[75]“، وكذلك المنطق “فنحن نرى أن هذا الفن لا حاجة إليه بوجه من الوجوه، وأن الاشتغال به ضربٌ من العبث وإشغالٌ للنفس بتَعلم ما لا ثمرة لها فيه، وأن حكمَه أنه يجب وجوبًا عقليًّا تَرك الاشتغال به؛ حرصًا على صَرف العمر فيما لا خير فيه في دنيا ولا آخرة[76]“، أما علم التوحيد (يعني علم الكلام على حاله الذي آل إليه) فهو “من العلوم المُضِرَّة، ويجب تَركه والإعراض عنه كليةً، وهو يُضادّ ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن بعده[77]“؛ إذ الواجب “التمسك في الاعتقاد بظاهر كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما كان السلف الصالح[78]“، و”حقيقة الدين الإسلامي ضاعت بين قضايا عقول المتكلمين وكَشْف وإلهامات المتصوفين، فالكلام أفسد عقائد أهل العلم، والتصوف أفسد عقائد العامة[79].”

ولم يقف النعساني عند هذا من إعادة تحديد النافع من غيره، بل تجاوزه إلى إعادة تعريف علوم المقاصد والوسائل، فجعل “جميع أصناف العلوم الشرعية كلها آلات لعلم الفقه والتوحيد وليس غيرهما بينها من علوم المقاصد، فعلم التفسير والحديث رواية ودراية وكتب الرجال جرحًا وتعديلاً وعلم البلاغة والنحو والصرف والعَروض والقوافي والاشتقاق وسائر العلوم الأدبية إنما الغرض منها أن يُتَوصَّل بها إلى معرفة الكتاب والسنة، والغرض من الكتاب والسنة معرفة ما أوجبَ الله على عباده وكلّفهم به على لسان رسله عليهم السلام[80].”

لأجل هذا أشرتُ من قبل إلى أن النعساني لا يندرج ضمن التوجه الإصلاحي بالمعنى المعروف، فهو -إلى ما تَقَدَّم– يتلخص الهدف الرئيس من نقده لكتب العلوم بالعودة إلى كتب المتقدمين، ويبدو في تقرير مسائل العقيدة سلفيًّا بالمعنى الحرفي، ويطالب بالجمود على ألفاظ القرآن ومنع التأويل في مسائل الاعتقاد [81]، ويميل إلى حَجر الاجتهاد على الناس[82].

خامسا: مشكلة العلوم

إن ابن عاشور شديد الوضوح في رؤيته النقدية للعلوم الشرعية، والإطار الكلي الحاكم لها هو التراكم المعرفي، فهو يعلم عظمة المتقدمين وجلالتهم، ولكنه لا يعتقد فيهم العظمة أبدًا؛ “يقرؤون ما نقرأ، ويفهمون كما نفهم، وأنا من الجانب الذي أُجلُّهم به، وأنظر إليهم منه نظرَ المبهوت، ذلك لأنهم فننوا العلوم وقعّدوا القواعد… من ذلك الجانب نفسه أقول: إنهم غرسوا لنُنْمي وأسسوا لنَشيد، وابتدءوا لنـزيد، ولست مقتدرًا أن أقنع نفسي بأنهم كانوا في درجة واحدة من العلم، بل منهم العالم المنشئ لقواعد وأصول، ومنهم الذي ما اشتهر اسمه إلا بفضل عوارض[83].” لذلك هو ينتقد عبارة “ما ترك الأول للآخر” التي نشأ عنها النقل المجرد[84]، “أما القواعد العلمية التي أسسها لنا السلف، فإن الطالب يقرأها ويكتسبها لتخدم فكره لا لتستعبد أفكاره، ومتى استأسرت القواعد الأفكار بان خطأ النظر[85].”

وابن عاشور يوضح مدخل الخلل في العلوم فيقول: “إنما يَعرض لها من كيفية مباحثة أهلها، ومما يُدخلونه على مسائلها من التفريعات أو أساليب التقرير، ثم تتقرر تلك المباحثات بما يدونونه من التآليف ويرغب الطلبة في اتباعها ميلاً إلى سهولة الاشتغال بها، فيؤول الأمر تدريجًا إلى تشتيت المقاصد من مسائل العلوم، وحينئذ يَعرض للعلم الاختلاط ثم نقصان الفوائد[86]“، وهو في هذا متابِعٌ لشكاية ابن خلدون الذي قال بعد أن قسم العلوم إلى مقاصد ووسائل: “أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن يُنظَر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسَّع فيها الكلام ولا تُفَرَّع المسائل؛ لأن ذلك مُخرِج لها عن المقصود… كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه، أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد، وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة، فهي نوع من اللغو، وهي أيضًا مُضِرَّة بالمتعلمين على الإطلاق؛ لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها[87].”

وأصل مشكلة العلوم –عند ابن عاشور- سببان جوهريان هما: “وجود مسائل لا حاجة إليها يُطال بها التعليم وتُتَوهَّم في صورة العلم وما هي منه، وإهمال مسائلَ وعلوم مهمة”.

وأسبابٌ فرعية، منها: تَدَاخل العلوم ورَبْط بعضها ببعض، وحبُّ المشاركة في جميعها مما جَعَل التآليف خليطًا من المسائل التي يَتوقف بعضها على فهم بعض، وحُرمةُ الأقدمين وتنـزيهُ آرائهم عن الخطأ فانحصر العلم في نَقْل واحدٍ عن آخر، وكلُّ ذلك لابد أن يَسلب من النفوس النقدَ فتفيء إلى التقليد وتَعُدّ فهم كلام السلف نهاية العلم.

ومنها: انصباغ سائر المسلمين بالطرائق الصوفية التي بثّت في نفوسهم الرضا، وأصبحت غايةَ العلم؛ لأنهم احتقروا سائر العلوم إلا علوم المعرفة بالله الذي هو التصوف عندهم، الذي عوّد النفوسَ قبولَ ما لا يُفهم والاقتناع به، وإهمالُ مراقبة العلوم حتى لا يدخل فيها من ليس من أهلها، والتهاونُ بعدة علوم نافعة من العلوم العقلية العليا والشرعية كعلم أصول الفقه وعلم البلاغة والتاريخ والعمران وأسرار التكليف ومقاصد الشريعة، وتَنـزهُهم عن العلوم المنقولة عن اليونان، واعتبارهم الخوض في العلوم الأدبية كالشعر والكتابة وآداب المجالسة إضاعةً للزمان، فضلاً عن العلوم المستظرفة والفلسفية؛ أي نقد العلوم والبحث في أسرارها وعللها، وسوء التفاهم في الخلافيات والتسرع في نَبْز المخالفين.

فهذه جملة أسباب سماها ابن عاشور أسبابًا فرعيّة لتأخر العلوم، رأى أنها أهم، مع وجود غيرها مما غاب عنه[88].

1. علم الكلام

علم الكلام هو “ركن العلم الشديد” –بتعبير محمد عبده – فهو أحد العلوم الأساسية التي انشغل بها الإصلاحيون السلفيون؛ انطلاقًا من مطلبهم الرئيس في التأكيد على تنقية معتقدات المسلمين الذين أصابهم الانحطاط بفضل ما علق في أذهانهم وتصوراتهم وممارساتهم من زيادات قعدت بهم عن النهوض وثبّطت هممهم عن اللحاق بركب المدنية.

وفق هذه الروح الإصلاحية التي حاولت العودة بالدين إلى لحظة صفائه، على معنى التخلي عن كل التراكمات التاريخية والتقييدات التي فرضت حُجُبًا كثيفة غيّبت الدين النقي الذي تجب استعادته: انشغل الإصلاحيون بنقد علم الكلام التقليدي. ذلك أن المؤلفات المتأخرة والحديثة ظلت تتحرك في دائرة علم الكلام التقليدي، بعيدًا عن مشاكل الفكر الحديث وإفرازاته اللاهوتية والفلسفية، ويعتبر أحد الباحثين أن رسالة التوحيد لمحمد عبده هي “أبرز المؤلفات الكلامية الحديثة على الإطلاق[89].”

والملمح الأساسي الذي شكّل محدِّدًا رئيسيًّا في تلك الجهود الإصلاحية في مجال علم الكلام هو التركيز على العقل كمنطلق لإثبات العقائد، وأن العمدة فيها اليقين لا غير، حتى إن محمد عبده يقرر -بوضوح- فرادة القرآن بهذا المسلك دون سائر الكتب والأمم؛ إذ إنه “آخى بين الدين والعقل”.

فمحمد عبده يقرر -بوضوح- في بداية رسالته أنه “تَقَرَّر بين المسلمين كافة –إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه– أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله، وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحى به إليهم، وإرادته لاختصاصهم برسالته، وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة، وكالتصديق بالرسالة نفسها. كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل[90].”

إننا نلمس في رسالة عبده منـزعًا قرآنيًّا يتمثل في اعتماد طريقة القرآن في تقرير العقائد. وقد قرر عبده طريقة السلف في تقرير العقائد فقال في سياق سرد تأريخه لعلم الكلام: إنهم “اشتغلوا في أصول العقائد والأحكام بما هداهم إليه سير القرآن اشتغالاً يُحرَص فيه على النقل، ولا يُهمَل فيه اعتبار العقل، ولا يُغضّ فيه من نظر الفكر، ووُجد من أهل الإخلاص من انتدب نفسه للنظر في العلم والقيام بفريضة التعليم، ومن أشهرهم الحسن البصري[91].”

فمحمد عبده تميز بتشخيص تاريخ علم العقائد والتطورات التي حدثت له؛ بما يدل بوضوح للصيغة التي يطمح إليها في صياغة علم الكلام من جديد، فهو قد حدد وجه الخلل الذي أصابه في كل مرحلة مصوِّرًا ما حفّ به من اختلافات وتفرُّق، حتى إذا وصل إلى كتب المتأخرين قال: “هذا هو السبب في خلط مسائل الكلام بمذاهب الفلسفة في كتب المتأخرين، كما نراه في كتب البيضاوي والعَضُد وغيرهم، وجمع علومًا نظرية شتى وجعلها -جميعًا- علمًا واحدًا، والذهاب بمقدماته ومباحثه إلى ما هو أقرب إلى التقليد من النظر، فوقف العلم عن التقدم.

ثم جاءت فتن طلاب المُلك من الأجيال المختلفة، وتَغَلّب الجهال على الأمر، وفتكوا بما بقي من أثر العلم النظري النابع من عيون الدين الإسلامي، فانحرفت الطريق بسالكيها، ولم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تَحاورٌ في الألفاظ وتَناظر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور، ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجَهَلة من ساستهم…”.

وقد خلص بعد ذلك كله إلى القول: “هذا مجملٌ من تاريخ هذا العلم ينبئك كيف أُسِّس على قواعد من الكتاب المبين، وكيف عبثت به في نهاية أمره أيدي المفرقين حتى خرجوا به عن قصده، وبَعُدوا به عن حده. والذي علينا اعتقاده أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنـزغات شياطين أو شهوات سلاطين، والقرآن شاهد على كلٍّ بعمله، قاضٍ عليه في صوابه وخَطَله[92].”

فمحمد عبده وإن كان مدفوعًا –في الأصل والباعث– بهدف تعليمي[93]؛ إلا أنه شديد الوضوح في تلك الإشارات الموجزة من رسالته أن نقده نقد منهجي يتعلق بإعادة تأسيس علم الكلام على أسس جديدة، وتنقيته من تلك المشارب التي رأى أنها كدّرته عبر التاريخ وجعلت منه عامل فُرْقة بعد أن كان أساس توحيد لله وتوحيد بين الناس.

أما رشيد رضا فقد كان شديد الوضوح في الاستغناء عن تلك الكتب وتأكيد قصورها المنهجي، فقال: إن “المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن الدلائل التي تبنى على فرض خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبرَ من نفعها؛ لأنها تثير الشبهات، وتوقع كثيرًا من السامعين في الشك، وإنما الطريقة المثلى لذلك طريقة القرآن الحكيم، وهي عرض محاسن الخليقة وأسرارها على العقل وتذكيره بحكمة مبدعها البالغة وقدرته العظيمة وعلمه الواسع وتفرده بالخلق والتكوين والرحمة والإحسان[94].”

بل هو يزيد على ذلك أن فائدتها المعرفية والتعليمية منعدمة، فيقول: “إن الكتب المشهورة لم توضع لأجل تلقين المسلمين ما يجب عليهم اعتقاده، وإنما وُضعت لرد شبهات الفلاسفة والمبتدعة عن العقائد الإسلامية والاحتجاج على حقيتها، وقد انقرض أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين عُنِيَ المتكلمون بإقامة الحجة عليهم، وظهر بطلان مذاهبهم إلا قليلاً من مسائلها، وحدثت لفلاسفة هذا العصر ومقلدتهم شبهاتٌ جديدة تولدت من الفلسفة الجديدة، يجب أن يُعْنَى متكلمو هذا العصر بكشفها، ولا ينبغي أن يُذكر شيء منها لعامة المسلمين ولا لتلاميذ المدارس الابتدائية عند تلقينهم الدين، وإنما يُخَصّ بذلك طلاب العلوم العالية الذين يدرسون الفلسفة وعلم الكلام[95].” وإن كان رضا ربما تأثر بعبده في المقطع الأول، فإن أثر الغزالي واضح في المقطع الثاني.

والمطلب الذي يشير إليه رضا، قد نهض له الشيخ حسين الجسر[96] الذي تجاوب مع الظروف المستجدة التي أحاطت بظهور الفلسفات الحديثة المتمثلة بالنظرية النشوئية الداروينية، وتصدى لها في كتابيه: “الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيّة الشريعة المحمدية” سنة 1887م[97]، و”الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية[98]” الذي جاء تاليًا. وفيها يوضح كذلك أن ما انطوى عليه الإسلام من عقائد قد تبدو “لا عقلانية” -كالمعجزات مثلاً- هو جائز عقلاً انطلاقًا من النظريات العلمية الحديثة نفسها، وقد بدا الشيخ السوري على اطلاع جيد على كتب العلوم الحديثة التي تُرجمت في تلك الآونة. وهو يَعرض موضوعاته بطريقة “تناسب أفهام العوام على قدر الإمكان”، وهو بهذا يختلف عن رضا الذي تبع الغزالي في إلجام العوام عن تلك المباحث الدقيقة في معالجة الشبهات الفلسفية؛ وعذره في ذلك “شيوع فنون الفلسفة الجديدة وكتبها”، وأن علماء الأمة حرصوا دومًا على صون العقائد عن شبهات الفلسفات القديمة.

ومحاولة الجسر عَنَت أنه “في الإمكان تقديم قواعد هذه الشريعة وعقائدها بصورة مطابقة تمامًا للعقل السليم وللعلم الحديث… وهكذا نلاحظ أن قضية وجود الله التي هي أس علم التوحيد لا تجد سندًا لها في دليل الجواز والحدوث الذي نجده في كتب علم الكلام التقليدية أو في الدليل الميثافيزيقي الذي يدور على فكرة المرجِّح والعلِّيَّة فحسب، وإنما أيضًا في استدلالات ذات طابع كوسمولوجي وغائيّ مشتقة من النظام العجيب في العالم الطبيعي الجامد بجميع قطاعاته، وفي عالم النبات وغرائبه، وفي عالم الحيوانات المكرسكوبية خاصة وبدائعه[99]“، مع إقراره بأن الخوض في تلك المسائل ليس من مقاصد الشريعة، وإنما الهدف منه الدلالة على الخالق وحكمته.

إنه مشروع طَموح لهذا المفكر الشامي الأزهريّ؛ إذ يتصدى -بثقة- لأكبر الفلسفات العلمية وأخطرها على مسألة الإيمان، تصدّيًا اضمحلّت معه مظاهر الوجل التي أثارتها وانتفت معه الشبهات التي انبعثت منها، الأمر الذي جعل أحد الباحثين[100] يقارنه -على بُعْد الشُّقَّة- بمشروع الغزالي الذي جابه فيه خطر فلسفة اليونان كما بدا في قضايا الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية المحدثة المهرطقة، وقد كان لمحاولة الجسر أثرها وتأثيرها على معاصريه ولاحقيه؛ في الشام والعراق ومصر على الأقل، ممن تعانق لديهم العلم والفلسفة والدين في آن واحد، وهو ما نلحظه بوضوح لدى جمال الدين القاسمي في كتابه “دلائل التوحيد” الذي أتم تأليفه سنة 1908م واستُقبل استقبالاً حارًّا في أنحاء كثيرة من العالم العربي والإسلامي، وكان تدعيمًا لطريقة الجسر في تأسيس الاعتقاد على العقل الفلسفي والمنجزات العلمية، وقد عاد فيه إلى فكرة الأفغاني في الوظيفة الاجتماعية والعمرانية للدين، بل زاد عليها الكلام على وظيفة نفسية للدين، ولا يتحدث فيه عن العلاقة الوثيقة بين الدين والعلم فقط وأن العلم يزيد الإيمان، بل يتحدث عن علاقة وثيقة أيضًا بين التوحيد والمدنية. وكذلك الشأن مع محمود شكري الآلوسي في العراق، الذي لاحظ خطورة قضايا العلم الحديث في المسألة الدينية، فبدا له أن من الضروري ضبط الموضوع وتحديد القول فيه على شاكلة ما قام به ابن رشد في “فصل المقال”. ورغم أن الجسر كان أبعد نظرًا وأنفذ بصرًا، فإنهم جميعًا اقتحموا دائرة الخوف التي أقامها أتباع العلم الحديث سياجًا له[101].

ونحو ذلك نجد لدى الكواكبي بخصوص العلاقة بين الدين والعلم، ومحاولة عقلنة المعجزات وإثبات إلهية القرآن بأدلة علمية، حتى إنه ليذهب إلى الحديث عن “اكتشافات علمية” مطابقة للقرآن، وعن حلول موجودة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم، الأمر الذي مهّد لظهور خطاب “الإعجاز العلمي” لاحقًا في القرن العشرين. يقول الكواكبي: “الأمر كما تنبه إليه المحققون المتأخرون، أنه كلما اكتشف العلم حقيقة، وجدها الباحثون مسبوقة التلميح أو التصريح في القرآن. أودع الله ذلك فيه ليتجدد إعجازه ويتقوى الإيمان به أنه من عند الله؛ لأنه ليس من شأن مخلوق أن يقطع برأي لا يُبْطله الزمان[102].”

والكواكبي –كما سبق- ينحاز إلى الإيمان الفطري، الذي لم يُفسده المنطق والجدل التعليميان والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورية وأبحاث الكلام وعقائد الحكماء ونـزعات المعتزلة. ولئن كانت محاولة الكواكبي لا تخرج عن روح محاولات معاصريه، إلا أنها دونهم عمقًا ومنهجية، ولعل هذا دفع بالبعض أن يفهم آراء الكواكبي في العقائد على أنها “تقليدية وكلاسيكية[103]“، لكن الكواكبي مندرج في جو الأفكار الإصلاحية عامة التي كانت متداولة في هذا المجال من حيث استخدام الأساليب الحديثة في البرهنة على العقائد، وإدراك أن مزيدًا من العلم الطبيعي من شأنه أن يعمّق الإيمان، وأنه دليل على حكمة الخالق وصدق الرسالة الإسلامية، وفي إدراك الوظيفة النفسية للدين والوظيفة العمرانية أيضًا، بالرغم من مجاوزته الحد في الزعم بأن كل المكتشفات العلمية سبق للقرآن التصريح أو التلميح بها.

وإذا كانت الرؤى الإصلاحية السابقة تكاد تعيد تأسيس علم الكلام وفق مقاربة جديدة ترى الخلل في مسار العلم وما اعتراه من انحرافات، وفي تغيّر موضوعاته ووظيفته بناء على تطور المعرفة وتَغيّر الحاجات؛ أي أنها ترى الخلل في بنية العلم نفسها، فإن ابن عاشور اكتفى بتشخيص أسباب تأخر علم الكلام -في ذاته- في جملة أمور:

أولها: الخلاف في الاصطلاحات والصفات، وكثرة الخلاف اللفظي، مثل مسألة هل يضل السعيد أو لا؛ نظرًا لما عند الله ولما في الواقع؟ وهل تبقى رسالة الرسول بعد موته؟ وهل القرآن مخلوق أو لا؟ ومن الحق أن لا ينبني على هذا خلاف معنويّ.

ثانيها: الغلو في التنـزيه وقد ظنوا به تعظيم الله تعالى بما لم يصف به نفسه، كقولهم: بجواز إثابة العاصي وتعذيب المطيع وتكليف المحال.

ثالثها: قول ما لا يُعقَل، واعتقاده، وعندهم أن ذلك من محاسن الإيمان، وربما جعلوه من معنى قوله تعالى: ﴿الذين يومنون بالغيب﴾، كقولهم: إن السمع يتعلق حتى بالمبصرات، وأن الكلام بلا حرف، وأن رؤيتنا لله تعالى في الآخر بالعين لكن بلا جهة ولا كيف، وألزموا الناس بالتقليد في الدليل كما يقلدون في المدلول.

رابعها: التنابز وإلزام لوازم المذاهب، وذلك أوجب إباية الرجوع إلى الحق، فاتخذ المرتابون في العقائد عند الضعف عن تأييد مذاهبهم التكفيرَ سلاحًا، يدفعون بذلك الذين يخشَون قوة جدلهم.

خامسها: إدخال أشياء في التوحيد ليست منه، والغرض منه إكبارها في عيون العامة، ومن يلحق بهم، مثل مسألة الخلافة، والخروج على السلطان، واتباع واحد من الأئمة الأربعة لردع العامة عن الاستخفاف بمراعاتها مع ما ينشأ عن الاستخفاف من الفتن[104].

وفي السياق لابد من الإشارة إلى ملحوظة نقدية ونحن نتحدث عن إصلاح العلوم، وهي أن إصلاح عبده توجه -في أغلبه– إلى الإصلاح التعليمي من خلال إصلاح الأزهر على وجه الخصوص؛ لأن فيه إصلاحَ الأمة برأيه، لكن مشروعه لإصلاح الأزهر غَلَب عليه أنه إصلاح إداري وتنظيمي بتحويله إلى جامعة وتحديد مدة الدراسة ونظام الامتحان فيه، وتعديل نظام التدريس بإلغاء بعض الكتب القديمة العقيمة، وإدخال بعض العلوم الحديثة، وبإدخال إصلاح مادي عليه[105].

أما الإصلاح المعرفي المتوجه إلى العلوم نفسها فلا نكاد نجده عنده إلا في رسالة التوحيد، التي “تمثل أحد أهم الجهود البنائية الإيجابية التي بذلها محمد عبده في حياته التي حفلت بشتى النشاطات، إن لم نقل إنها أبرزها جميعًا. ذلك أن كتاباته الأخرى قد امتازت بالروح الجدلية الدفاعية أو التسويغية أو بالوقوف عند نقاط عملية فقهية جزئية كانت موضوع فتوى واجتهاد أو ببعض الاهتمام بتفسير القرآن أو بالخوض في بعض قضايا السياسة التي ما لبث أن لعنها[106].”

لكنه وللدقة شرّح أحوال المتعلمين بأصنافهم، وبيّن ما هم عليه من الجمود في تعاطيهم العلوم[107].

2. علم الفقه

مسألة الفقه من المسائل الدينية التي يُعتبر البحث فيها “من أنفع المباحث في الإصلاح الديني”؛ وهو “من العلوم المقصودة لذاتها”؛ أي من علوم المقاصد. وقد لخص الزهراوي مشكلة الفقه بالقول: “إن هذا العلم الذي حقيقته نظامٌ للأمة قد شوّهت وجهَه الأيام… ولم يبقَ منه مع الزمان إلا حروفُه في الكتب، وبقيةٌ في المحاكم الشرعية”، أما تَبَيُّن الشرع الحقيقي فـ”مُتوقف على اجتهادٍ وتَتَبع صحيح الآثار واستعمالِ سليم الفهم[108].”

كتب الزهراوي ذلك ضمن رسالته عن “الفقه والتصوف” سنة 1901م أثناء إقامته الجبرية في دمشق، وكان قد زار القاهرة والآستانة سنة 1890م ويبدو أن توجهه الإصلاحي قد تبلور فيها؛ إذ أسس في السنة التالية في بلده صحيفة “المنير”. وفي حدود سنة 1897م كتب مقالات دعا فيها إلى الإصلاح في صحيفة تركية عربية عمل فيها محرِّرًا، الأمر الذي اجتذب رشيد رضا وتوطدت بينهما صداقة[109]، ونعرف أنه كانت هناك مراسلات بينه وبين محمد عبده لاحقًا، وكان عبده يخاطبه فيها بـ”ولدنا الفاضل[110]“، فقد يكون حصل تأثر أو مشايعة في الأفكار؛ لأن الزهراوي حين كان في الآستانة عكف على زيارة المكتبات العمومية لقراءة الكتب ولاسيما المترجمة منها، فقرأ “روح القوانين” لمونتسكيو، كما قرأ لجان جاك روسو، ولعله اطلع على ما كتبه خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي[111]، بل إن عبده يشير إشارة عابرة إلى طبيعة الصلة بينه وبين الزهراوي فيقول: “تمنيت لو تمتعت بقربك كما قُدِّر لي المتاع بأدبك… وأما صلتنا فصلة آمال وأعمال وهي خير صلة وأوفقها عند الرجال[112].”

ويجب القول: إن الزهراوي لم ينفرد بذلك التشخيص؛ فإن روح ذلك النقد للفقه وحمَلَته كانت شائعة في تلك الفترة بين الإصلاحيين السلفيين الذين قاموا يدعون إلى الاجتهاد ويُعرّون أحوال جمود المُقلِّدة والمفتين، فهذا محمد عبده -مثلاً- بعد أن انتقد الفقهاء قال: “وقد جعلوا كتبهم هذه -على عِلّاتها- أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجب العمل بما فيها وإن عارض الكتاب والسنة، فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث، وانحصرت أنظارهم في كتب الفقه على ما فيها من الاختلاف في الآراء والركاكة”.

لكن الجديد عند الزهراوي -كما سنرى- أن رسالته تلك شديدة الإثارة، وجذريةُ النقد الموجه إلى الفقه والتصوف بوصفهما عِلْمين، وليس لأحوال المتفقهة فقط، ولا أعرف رسالة مفردة خُصصت لهذا الموضوع في مصر والشام في تلك الفترة على هذا النحو، فهو يحاول إبطال “منفعة الفقه” ليُخرجه من دائرة العلوم الدينية النافعة؛ أي يحاول هدم العلمين معًا!

في حين نرى محاولة عبده لإصلاح الفقه محاولة “تحريرية” وتنظيمية، فحين سأل رشيد رضا عبده حول الطريقة المفيدة في تهذيب فقه الحنفية، أجابه: “ينبغي لمن يؤلّف أن يحيط أولاً بمسائل الباب الذي يَكتب فيه، وأن يعتمد على كتب القرون المتوسطة كالزيلعي، لا هذه الكتب المختلة كالكنـز والتنوير، وأن يُرجع أحكام الباب ومسائله إلى قواعد كلية، ثم يسرد الأحكام بعدها في غاية الوضوح، وأن يراعي الترتيب الطبيعي بين المسائل، فيقدم ما ينبغي تقديمه ويؤخر ما ينبغي تأخيره، وأن لا يخلط مسائل باب بآخر، وإن كان بعض المسائل يشترك فيه بابان كالبيع والإجارة فلا بأس بذكره في كل باب، ولا بأس بالإشارة إلى أنه تقدم، وأن يذكر القول الراجح بدليله، ويذكر بعده القول المرجوح مع الإشارة إلى دليله، وأن يختصر في مسائل العبادات.

إذا رجعنا إلى كتب القرون المتوسطة كالزيلعي، نكون قد خطونا خطوة لإصلاح الكتب والفقه، وما دمنا مقيَّدين بعبارات هذه الكتب المتداولة، ولا نعرف الدين والعلم إلا منها، فلا نـزداد إلا جهلاً. هذا الشوكاني لما كسر قيود التقليد الأعمى حيث كان وهابيًّا معتدلاً، صار عالمًا فقيهًا. إن حالة الفقهاء هذه هي التي ضيَّعت الدين…[113].”

كما أن محمد عبده كان له موقف نقدي من الطريقة التقليدية لتَلَقي العلم، فقد استجازه أحد علماء الهند الإجازةَ المعروفة، فكشف له عن رأيه في هذه الشؤون فقال: “هذه كلها صور شُغل بها المسلمون عن الحقائق، ولا قيمة لها في خلاصهم مما هم فيه من شقاء الدنيا، ولا فائدة لها فيما يوعدون به من شقاء الآخرة على ما فرطوا في جنب الله. إنما شأني الذي كلفت به هو أن أعلّم وأقول وأبيّن وأكتب ما استطعت، ومَن تلقى عني شيئًا أو فَهِمه مما كتبته فله أن يرويه عني وأن يؤديه على ما فهمه، بعد دقة البحث والتحري، والأخذ بالاحتياط في فهم القول وتحرير الرواية. فإذا وصل إليك شيء مما أقول أو أكتب وفهمتَه كما أحب أن يُفهم، فإليك الأخذ به وروايته عني بعد التحقق من صحة النسبة، وأكون لك من الشاكرين[114].”

أما ابن عاشور فنَقْده متقدم أكثر من محاولة محمد عبده، فقد شخَّص أسباب تأخر علم الفقه في أمور:

أولها: التعصب للمذاهب والعكوف على كلام إمام المذهب واستنباط الحكم منه، والانتصار للمذاهب، وصار قصاراهم نقل الفروع وجمع الغرائب المخالفة للقياس ونَقل الخلاف، مع أن الغرض من التفقه هو رفع الخلاف.

وثانيها: إبطال النظر في الترجيح والتعليل، ورَمْي من يسلك ذلك بأنه يريد إحداث مذهب جديد، وولعهم بكثرة التفريع وعدم العناية بجمع النظائر والقواعد للفروع المتحدة.

وثالثها: إهمال النظر إلى مقاصد الشريعة من أحكامها، وهذا موجِب تَشعب الخلاف.

ورابعها: ضعف الفقهاء في علوم يؤثر الضعف فيها قصورًا عند الاستنباط، كضعفهم في الحديث واللغة، وأصول الفقه، وعلوم الاجتماع وحاجات الأمة..

وخامسها: الإعراض عن التآليف المفيدة المهذبة الواضحة العبارات والالتجاء إلى ما فيه كثرة الترددات من ضيق عبارة المختصرات.

وسادسها: الاختلاف في أصول الاستنباط فيجب توحيد الأصول ونبذ الخلاف منها.

وسابعها: صَرفهم جُلّ هممهم إلى فقه العبادات، فأكثروا فيه من التخريج مع أن طريق العبادات التوقيف، وتقصيرُهم في فقه المعاملات من النوازل والأقضية فتركوه محتاجًا إلى أصول وكليات تجعل للعارف به معرفة بأحوال الزمان، وتُودِعه شعورًا نبيلاً في إدراك قيمة الدعاوى واحترام الحقوق وكراهية الظلم[115]. وبهذا تكاد تكون انتقادات ابن عاشور انتقادات بنيوية ومنهجية سواء في عقلية الفقيه وتكوينه أم في مدونة الفقه بالصورة التي انتهت إليه.

بقي أن نستحضر هنا تشخيص مشكلة الفقه في رؤية النعساني الذي أوضح أن طبقةً بعد الأئمة المؤسسين، “أقاموا كلام الأئمة وأصحابهم مقام الأدلة الشرعية وصاروا يستنبطون من منطوقاتها ومفهوماتها أحكامًا يطبقونها على الحوادث… فانتشرت الأحكام وكثرت الفروع وطما بحر الاختلاف بين العلماء… ثم تدلى الأمر حتى انتهى إلى اعتماد الفقهاء على استظهارات ابن عابدين وأبحاث الشرنبلالي وفتاوى ابن نُجيم وآراء ابن كمال باشا ومفهومات عبارات قوم من المتأخرين جعلوا قولهم دينًا منـزلاً وشريعةً متَّبَعة، يبحثون في أقوالهم ويأخذون منها الأحكام كما كان ينظر المجتهد في نصوص القرآن والسنة وضاعت كتب الأئمة واندثرت… وانضم إلى هذا فساد التطبيق في بعض المحاكم الشرعية… وليس من دواء لهذا الداء غيرُ هَجر هذه الكتب المشوهة المشوشة والرجوع إلى كتب الأئمة والثقات[116]“، فمحاولته رمت إلى بيان رداءة كتب الفقه التي يدور عليها التعليم في أنحاء العالم الإسلامي من المذهبين الحنفي والشافعي اللذين يعرفهما جيدًا، فنقَد كل كتابٍ منها ذاكرًا ما فيه من خلل، مع الإشارة إلى سبب آخر هو سوء طرق التعليم. وبالرغم من أن تشخيص النعساني للمشكلة تشخيص دقيق، إلا أن مطلب العودة إلى كتب السابقين لا يبدو مطلبًا إصلاحيًّا، لكن المثير لديه، هو ما وصفه بالمشروع الجليل، والذي يتلخص في اقتراحه جمعَ كتابٍ في الفقه يضعه علماء المذاهب الأربعة، يُحيط بذكر الفروع الفقهية قاصدًا ما هو أسهل على الناس في العبادات وأضبَط لأمورهم في المعاملات، يتم فيه الاختيار من مذهب كل إمام من الأربعة ما هو أنسَب وأليَق بحالة الزمان وأسهَل على المتدينين، تُجمَع عليه كافة الممالك الإسلامية. لكنه يدرك أن مثل طلبه هذا لا يصادف قبولاً[117].

أما الزهراوي فالأمر معه مختلف كليًّا؛ فهو قد تجاوز الأطروحات المألوفة للإصلاحيين السلفيين التي اتفق معهم فيها، من قبيل الهجوم على التقليد، والدعوة إلى الاجتهاد، والتأكيد على تنقية الأحاديث النبوية من الموضوعات، تجاوز ذلك إلى اعتبار الفقه والتصوف عِلمين غير نافعين في الدين والدنيا بل فيهما إضرار!

أ. حقيقة الفقه وطبيعته

قدم الزهراوي شرحًا لما أسماه “حقيقة الفقه الإسلامي بما كان عليه، وما آل إليه”، وهدفه من ذلك إبطالُ “الزعم بأن كل ما كتبوه هو من عند الله”، وإبطال “أنهم استفادوا كل ما كتبوه: من الدين، ولا دَخْل لعقولهم فيه[118]“، وإثبات أن “ولوع الناس بالقديم ونسبة البركة والتقديس إلى الأقدم فالأقدم هي المسألة التي أضلت الأمة[119].” فالفقه ليس من علوم الدين “وإنما هو مجموع قوانين وضعها المتقدمون”.

بل إنه يذهب أبعد من ذلك حين يعيد البحث والتفكير في مسألتين:

الأولى: “تسمية هذا العلم بالفقه”. والثانية: فيما “يسمونه بالفروع”.

ففي الأولى: يتكلم على “اللفظ الذي انتحلوه اسمًا لعلمهم”، فيقول إن لفظ الفقه يعني الفهم ولا وجه لاختصاصهم به، فكل علمٍ محتاجٌ إليه، ثم إن هذا اللفظ الوارد في القرآن والسنة “ليس عبارة عما ذكروه من المسائل فقط، بل ليس المراد به في الآية والحديث ما ظنوه، بل المراد أمور هي أعلى من معرفة غسل السبيلين ومسح الخفين، وأمثال هاتين”.

ويستعين الزهراوي بالغزالي لتدعيم فكرته، فإن الغزالي يقول: “اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معانٍ غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول، وهي خمسة: الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة. فهذه أسامٍ محمودة، والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين لكنها نُقلت الآن إلى معانٍ مذمومة…

واللفظ الأول: الفقه فقد تصرفوا فيه بالتخصيص، لا بالنقل والتحويل؛ إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقًا فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال: هو الأفقه، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقًا على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدلك عليه قوله عز وجل: ﴿ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم﴾. وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسَّلَم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينـزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له”. وهذا النص أخذه الزهراوي من “إحياء علوم الدين[120]“، وقد سبقت منا الإشارة إلى أهمية هذا الكتاب لدى الإصلاحيين عامة، ونضيف هنا إشارة أخرى تتعلق باسم الكتاب ودلالته التي ينبغي استحضارها في المشروع الإصلاحي الذي يستلهم الغزالي هنا لإحياء العلوم الميتة!

وفي المسألة الثانية يذهب إلى أن علم الفروع هو “مجموع مسائل تزايَد عددها بتداول الأيام، بعضها مستند إلى الكتاب والسنة، وكثير منها مستند إلى الظن والتخمين والفرْض والتقدير، بعضها مما يجوز وقوعه، وبعضها مما لا يقع. وترى في كثيرها من التمحلات العجيبة والتخيّلات الغريبة، ومخالفة العقل والنقل ما تقف معه حائرًا مندهش الذهن، وتراهم أحيانًا لا يتحاشَون من ذكر أمور قبيحٍ ذكرها[121].”

ب. تفاصيل الفقه وأحكامه

وتفصيل ذلك أن الفقه منقسم إلى عبادات ومعاملات، فالعبادات قد أُمرنا أن نفعلها كما كان يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم وأصحابه- لكن “هل التعاليم مختلفة بقدر ما اختلف هؤلاء الفقهاء، أم أراد هؤلاء أن يوهموا الملأ بما وسعته صدورهم من العلوم فتوسعوا بالتفصيلات القولية والاصطلاحات المذهبية حتى كتبوا ألوفًا من الأوراق على الصلاة مثلاً؟[122]“، وهو يستدعي العديد من الأمثلة “على كل ما سموه فقهًا”.

أما المعاملات فيبدي عجبه مما “كتبوه في المناكحات التي عدوها في المعاملات، تلك المناكحات التي يتعجب الإنسان من الأبواب التي فُتحت فيها”. أما ما كتبوه في الحقوق وسموا مجموعه بالمعاملات فلا أنكر أنهم أجادوا في بعضه بحسب أزمنتهم وأمكنتهم، وإنما الذي أنكره هو أنه يكفي لزماننا ويغنينا عن غيره، وأنه لا يغني عنه غيره، وأنه لم يكن آلة بيد القضاة والمفتين ومن في حكمهم يعبثون فيه كما شاءوا، وأنه ليس من المضر تقديسه الذي جعلنا ينابذ بعضنا بعضًا من أجله، وتقديس المحاكم المنسوبة إليه التي كانت وما زالت بقاياها ميدانًا تتجلى فيه الغرائب[123].”

وأدلته على ذلك: أن أزمنتهم غير زماننا الذي تغيرت فيه التجارة وأبوابها وفروعها، وأن الرسول بتصريحه لمعاذ وعلي أن يعملا برأيهما إذا لم يجدا نصًّا كفانا مؤونة السلاسل التي ربط الناس بها أقوام كتبوا الكتب بأيديهم ثم قالوا: هذه من عند الله، وأن هذه الأمم التي ليس عندها هذه الكتب قد أغناها الله بفضل عقولها في تدبير التجارة والبيوع وعقد الشركات وإمضاء المعاهدات، وإدارة المنافع العامة، وترتيب العقوبات وجباية الأموال وتنظيم الجيوش… وأن هذه الأقوال المتضاربة المتعارضة ليس لأكثرها سبب إلا منافع القضاة ومن في حكمهم، وأن اعتناء كل طائفة بمذهب واحد على ما فيه من تعدد المرجحين قد فرّق كلمة المسلمين منذ زمن بعيد حتى أوصلهم إلى هذه الحالة[124]. ثم يُجمِل تاريخ الاختلاف في الأمة إلى شيع منذ القرن الأول، إلى مجيء “المذاهب على كثرتها وتعارضها مضاهية لأديان مختلفة حتى ألغى أكثرها الزمانُ الذي جاء فيه حكومات أخذت ما دوّنه قوم وأعرضت عن الآخرين، فالحكومات هي بالفعل حصرت الميدان وأغلقت الأبواب[125].”

أثارت مقالة الزهراوي ردودًا عنيفة، فقد وصف رشيد رضا مجموعة “الفقه والتصوف” –وهي في الأصل ثلاث رسائل- بأنها “أشد مما كنا نكتبه في موضوعها نقدًا على سعة الحرية هنا، وشدة الضغط هنالك، فهاجت عليه حَمَلة العمائم في دمشق، وأشد ما أنكروا عليه فيها: القول بالاجتهاد وبطلان التقليد، فهيّجوا عليه الحكومة فاعتقلته في الشام، ثم أُرسل إلى الأستانة[126].”

وقد أشار محمد عبده إلى تلك الواقعة مؤيِّدًا الزهراوي فقال في كتابه “الإسلام والنصرانية”: “ألم يُسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية، كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد، وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافه، ومقالاً بيَّن فيه رأيه في مذهب الصوفية، وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام، بل قد يكون مما رُزِئَ به، أو ما يقرب من هذا، وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه، هاج عليه حَمَلة العمائم وسَكَنة الأثواب والعباعب وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين ثم رُفع أمره إلى الوالي، فقبض عليه، فألقاه في السجن، فرفع شكواه إلى عاصمة الملك، وسأل السلطان أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلق عليه بين يدي عادل لا يجور، ومهيمن على الحق لا يحيف إلى آخر ما يقال في الشكوى، فأجيب طلبه لكن لم ينفعه ذلك كله، فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه، ولم يُعف عنه إلا بعد شهر، مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع أصول الدين، ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل والشارب[127].”

ويبدو أن جرائر نشر تلك الرسالة وما وقع لصاحبها من اضطهاد، غطّى قليلاً على مناقشة ما فيها، فقد لاحظنا كيف أن محمد عبده أيده في الجملة ولم يأت على مناقشة ما جاء في رسالته، ولا نعرف ألأنه مؤيد له، أم لأن الظرف غير مناسب لمناقشة ما جاء فيها؟ ولابد من الانتباه إلى أن كلام عبده يسكت عن نقد الزهراوي للفقه والأصول، ويكتفي بتأييد ما يتفق عليه الإصلاحيون جميعًا من الدعوة إلى الاجتهاد ونقد التصوف، وإن كنّا نعرف من مراسلة عبده للزهراوي أنه كان يرتضي توجهه في الجملة [128].

ولكن الشيخ رشيد رضا بيّن موقفه النقدي من مجموعة “الفقه والتصوف” فقد كان هو نشر الرسالة الأولى منها في مجلة “المنار”، وطلب من العلماء والفقهاء أن يكتبوا إليه رأيهم فيها، وذكر أن لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في أسباب الخلاف تصلح أن تكون جوابًا على هذه الرسالة. وكان الهدف المعلن من نشر الرسالة الأولى: “إطلاع العلماء على بعض ما يدور بين الكُتاب ليكونوا على بينة منه، فلم يُفِد”.

قال رضا: “ثم وردت علينا الرسالة الثانية مع رسالة التصوف، فلم نشأ نشرهما على احترامنا حرية البحث والنقد، واعتقادنا أن العلم لا يرتقي إلا بها، وذلك لأن مثل هذا النقد لا يكون مفيدًا إلا إذا تناوله الخواص بالمناظرة المعتدلة، وإننا نرى أهل العلم الديني يلجأون في بلاد الاستبداد إلى مقاومة من يخالفهم بالقوة، ونراهم في بلاد الحرية لا يحفلون بما يدور بين حملة الأقلام وغيرهم من أمثال هذه المباحث، ولا يردون على ما يرونه منكرًا منها؛ لأنهم بمعزل عن العالم وسيره”.

ورشيد رضا ينتقد طريقة الزهراوي موضحًا طريقته هو في النقد، فقد كتب رشيد رضا في السنة الأولى من المجلة رأيه في الفقهاء والصوفية وعَرَضه على شيخ الأزهر وبعض علمائه “فقال الشيخ في المقالة: إن كلامها شرعي لا يُعترض عليه. وذلك أننا ذكرنا محاسن القوم وذكرنا ما لا يوافق الشرع أو المصلحة العامة مما يُؤْثر عن مجموعهم؛ ولكن رسالة الفاضل الزهراوي مخصوصة بالمساوئ؛ ولذلك كان يجب أن لا يطلع عليها إلا الخواص، فَطَبْعها خطأ، وإن كان قَصْد مؤلفها حسنًا، فنحن نُجِلُّ غيرته ونحترم حريته ونمدح شجاعته، على أنه أفرط فيها، ونتمنى أن يطلع العلماء على رسالته وينتقدوها[129].”

لا نكاد نعثر على مناقشات أخرى لأطروحة الزهراوي المثيرة، بالرغم من أن كثيرًا من إصلاحيي دمشق -على الأقل- كانوا على علمٍ بها واطلاع عليها؛ لأن الشرطة في دمشق كانت قد صادرت عشرات النسخ من تلك المقالة، بما فيها نسخة كانت في حوزة الشيخ جمال الدين القاسمي، ونعرف أنه كان ثمة معرفة جيدة بين عبد الرزاق البيطار والزهراوي كما يفيد حفيد البيطار، كما أن الزهراوي كان على معرفة بسليم البخاري أيضًا[130]. وثمة إشارة من البيطار إلى أن “للمقالة بعض مزاياها، غير أنها كان يجب أن لا تنشر؛ لأنها لم تُثر سوى المتعصبين الذين وصموا الزهراوي بالكفر والهرطقة وطالبوا بصخب بإعدامه[131].”

لكن وُجد من بعض المعاصرين النقد الذي تَوَجَّه إلى الزهراوي وأطروحته، فأحدهم رأى أن مقالته في الفقه والتصوف “لم تحقق لا الدقة ولا التماسك[132]“، في حين ذهب آخر إلى نقد الزهراوي نفسه بأنه “لم يكن عميق التفكير كما أنه لم يكن يملك ثقافة عصرية[133].” لكن ليس من شك أن كتابات الزهراوي تدل على علمه وعمق تفكيره وثقافته الواسعة، وقد وصفه رشيد رضا في مواضع من مجلة المنار بـ “العالم الفاضل”، وأشار فهمي جدعان إلى جانب من “تأملاته الفلسفية الجادة[134]“؛ بل إن أطروحته في نقد الفقه متماسكة بالشكل الذي أراد البرهنة عليه، ولاسيما أنها في الأصل ثلاث مقالات مُفرّقة، ولكن لا شك أيضًا أن فيها إسرافًا في الإصلاح يصل إلى حد الهدم لعلمين مهمّين لا يمكن تسويغه معرفيًّا بمجرد حدوث الاختلاف الواسع فيهما أو بالاحتجاج بمآلاتهما، أو بسوء حال حَمَلَتِهما، لكن المقصد العام في أنه يحتاج إلى إصلاح، وأنه اكتنفه الكثير من مظاهر الفساد المُضرّ، مما لا يختلف فيه الإصلاحيون، مع التأكيد على أن ذلك كله لا يذهب بقيمته ومكانته؛ لأن الفقه من علوم المقاصد، لم ينازع فيه أحد.

على أن من المفيد هنا أن نشير إلى ملحوظة ذات دلالة، وهي أن للزهراوي “كتابًا في الفقه بأسلوب قريب المأخذ سهل العبارة يدعم مسائله بالأدلة الدامغة”، كما ذكر صديقه أحمد نبهان الحمصي، وعلق رشيد رضا على هذه الجملة فقال: “كان سبب تأليف هذا الكتاب محاورة طويلة دارت بيننا وبين الفقيد من جهة، وأحمد فتحي باشا زغلول أيام كان وكيلاً لوزارة الحقانية بمصر من جهة أخرى، ولو تم على عهد الباشا لسعى إلى طبعه على الحكومة لأجل المحاكم الشرعية[135].” فكيف يصنف الزهراوي في علم لا ينفع؟ إلا أن يكون أراد من نقده السابق زلزلة العقول واستفزازها للخروج من الجمود والتفكير بما آل إليه الفقه الذي اعترف في بعض المواضع بقيمته ولاسيما في مجال الحقوق.

ثم إن تلك المحاولة الفقهية المعاصرة المدعومة بالأدلة، لم تكن من الزهراوي وحده، فقد أفاد رشيد رضا أن الشيخ جمال الدين القاسمي كتب إليه “أن له كتابًا في العبادات مقتبسًا من كتب المذاهب مع بيان حكمة التشريع. كان أخذه منه الشيخ أحمد طباره ليطبعه في مطبعته ببيروت ولم يُعِده إليه، وعلمتُ ممّا كتب إليّ أنه من أهم كتبه، وكنت وعدتُ بتأليف كتابٍ في ذلك فسبقني -رحمه الله- إليه، فتمنيت لو يُطبع لأستغني به[136].”

3. أصول الفقه

لم يقتصر نقد الزهراوي على الفقه فقط، بل تعداه إلى أصول الفقه، يقول: “من يسمع هذا الاسم (أصول الفقه) يَخَلْ أنه عبارة عن قواعد كلية منقحة محكمة تتفرع عليها الحوادث والنوازل، ويُستَند إليها في الفتاوى والأقضية، كالقواعد التي أخذوها في أول المجلة عن كتاب الأشباه والنظائر. كلا. ولكنه عبارة عن اصطلاحات وطرائق للأخذ من القرآن والحديث والإجماع والقياس، وهي المآخذ عندهم.

أما القياس فليس لنا من ردٍّ عليهم في جعله ركنًا من أركان التفريع وليست حجج الذين أنكروه بصحيحة، بل الحجة للذين أثبتوه[137]

وأما الإجماع فالغالب أنه لم يقع، لذلك لا جدوى من تقريره أو جعله مأخذًا” ثم حاجج فيه وفنّد رأي القائلين به. ثم قال: “ولقد تتبعت كثيرًا من المسائل التي ادّعى الإجماع فيها بعض المؤلفين، وصدّق به الناس لعِظَم شهرتهم وحسن الظن بكثرة اطلاعهم فلم أرَ مسألة مما ادعوا فيها الإجماع متفقًا عليها كما ظنّوا. وهكذا رأيت العلامة شيخ الإسلام في عصره تقي الدين بن تيمية سبقني إلى هذا القول…

وأما السنة فلا كلام لنا على استنادهم إليها، وإنما الكلام على محكماتهم والسيطرة على الناس بطرائقهم… وعلم السنة إنما يؤخذ من مظانه، وإن الأصوليين ما تصدوا له كما يستحقه..

وأما الكتاب المجيد فهو الحجة العظمى والعروة الوثقى… كتاب عربي من عرف أساليب العرب يفقهه، ومن وقف على أقوال الرسول يتبحر فيه، لا يختص بفهمه أهل عصر ولا أهل مصر؛ لأنه خوطب به الذين آمنوا ممن صحب الرسول ومن بعدهم إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله.

هذا وإني لا أرى مما كتبوه في هذا الباب مزية زائدة على ما يعرفه كل من عرف أساليب البيان والخطاب، فما بالهم يوجبون على الناس أن يضاهوهم ويقلدوهم؟ وما بال فريق منهم جعلوا لكتبهم من الاعتبار أكثر مما له؛ إذ قالوا: إن مفاهيم الكتب حجة عندنا دون مفهوم القرآن؟ فتأملوا وأَبصِروا[138].”

فالزهراوي هنا يحاول هدم بناء “أصول الفقه” بدءًا من اسمه ومكوناته وحقيقته، وانتهاءً بمحاوره التي هي مصادر التشريع، فهو يسلّم بالقياس، ولا يوجد إجماع، والسنة يُرجع فيها إلى المحدثين ولا دخل للأصوليين بها، أما الكتاب فلا نحتاج فيه إلا إلى اللسان العربي!

إن نقده للفقه فيه قدر جيد من الصحة، مع خطأ في التصور والاستدلال الذي بناه على طبيعة وجود الاختلاف الفقهي وعدم تفهمه له وتعمقه في أسبابه وكيفية حصوله، ولكنه أمسك بإشكاليته المركزية من حيث هو في جملته إنتاج عقلي ضمن السياق التاريخي، الأمر الذي جعله يتلون بألوان العصور المختلفة اهتمامًا وتفريعًا، ولغة وتفكيرًا، على نحو الأمثلة الغريبة التي ساقها.

أما نقده للأصول فتنقصه الجدية الكافية، فمكونات علم الأصول متعددة ترجع إلى أصول فهم خطاب الشارع التي لا تقف على مجرد اللغة القريبة كما توهم، وهو ما ندعوه علم تفسير النصوص، كما يشتمل أيضًا على مصادر التشريع وهي أوسع من الأربعة التي ذكرها، بل قد أوصلها الشيخ القاسمي بالاستقراء من جملة المذاهب الإسلامية إلى خمسة وأربعين[139]! أما السنة فلا يخفى أنها ليست قاصرة على مجرد معرفة صحة السند من عدمها كما أفاد كلامه، وفي هذا تسرع واختزال مخلّ، ثم لا يخفى أن المنهج الأصولي اتسع فيه نقد متون السنة أكثر من المنهج الحديثي على أقل تقدير، كما أن كتب كثير من المحدثين المتقدمين والمتأخرين طافحة بأحاديث واهية وضعيفة، وليس هذا شأن الفقهاء والأصوليين وحدهم! بقي الإجماع، وكلامه فيه كلام قديم سبق إليه عدد من الأصوليين.

لكن تبقى أطروحة الزهراوي محاولة نقدية طموحة طالت علم أصول الفقه نفسه في زمنٍ كان هذا العلم يُقرأ للتبرك في أحسن الأحوال؛ لأنه لا فائدة منه للمقلدة الذين تعبدوا بكتب الفقه المذهبية لا يخرجون عنها قِيْد أُنملة[140].

لكن محاولة الزهراوي لم تكن يتيمة، فهناك إشارة إصلاحية مجملة أوردها محمد سعيد الباني وعزاها لشيخه طاهر الجزائري بخصوص علم أصول الفقه، قال: “ينبغي مثلاً لمن يحاول الكتابة في علم أصول الفقه أن تكون كتابته مطابقة لمقتضيات روح العصر. كأنه يريد بالكاتب في هذا الموضوع أن يمحِّص القواعد الشرعية السمحاء التي تؤازر الأخذ بالترقي الحديث، وكل نافع من مقتضيات العمران والسعادة البشرية، والتي يتقلَّص بها ظلُّ الجمود على القديم، وتقضي على التمسك ببعض فروعٍ استنبطها أربابها وفقًا لمقتضى روح عصرهم، وبأن يوفِّق بين قواعد أصول الفقه الديني وبين أصول الشرائع المدنية والحقوق الأساسية لتتجلى بذلك عظمة الفقه الإسلامي وسعته وتفوقه على القانون المدني وليتم الاستغناء بالأول عن الثاني[141].”

فالإصلاح المطلوب لأصول الفقه وفق هذه الرؤية مرهون بروح العصر، وهو دائر في حدود أمرين:

 الأول: يتمثل في تمحيص وتحديد القواعد الشرعية التي تمكّن من الترقي والتمدن الحديث، وبها تتحقق المنافع العمومية التي يقوم عليها العمران. وهذا يعني الإقرار بأن جزءًا من علم الأصول تاريخي بمصطلحنا اليوم؛ أي أنه مرتهن لسياق غير سياقنا وزمان غير زماننا، وهذا الذي يُطلب فيه البحث والتحديد لمجاوزة حال الجمود.

الأمر الثاني: الذي يدور عليه الإصلاح -برأي الجزائري- يتعلق بمحاولة التوفيق بين قواعد أصول الفقه الديني وقواعد الفقه المدني والقانوني الحديث؛ لأن هذه المقارنة بين الفقهين ستوضح مصداق الثقة بعظمة الفقه الإسلامي وأنه قادر على مواكبة العصر. ولعل هذه دعوة مبكرة جدًّا لفكرة المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي التي وجدناها في العصر الحديث مع نخبة من القانونيين والفقهاء في القرن العشرين.

ولعل الحديث عن فكرة المصالح والمقاصد يندرج في الأمر الأول، وهي مسألة محورية دارت عليها جهود الإصلاحيين السلفيين، حتى إن للشيخ طاهر الجزائري مصنفًا بعنوان “مقاصد الشرع[142]” كُنَّاشًا احتوى على “مسائل علمية وأبحاث من كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي[143]“، وإذا كان الشيخ محمد عبده اطلع على موافقات الشاطبي لأول مرة في تونس في حدود سنة 1884م فأغلب الظن أن معرفة الشيخ طاهر بالموافقات معرفة أصيلة، وذلك لما اشتُهر عنه بين القاصي والداني من سعة اطلاع بكتب المتقدمين والمتأخرين مطبوعها ومخطوطها، حتى إنه كان موسوعة متحركة، ولم يكن يوازيه أحد في ذلك كما شهد معاصروه.

ومن المفيد كذلك أن الشيخ جمال الدين القاسمي لشدة اهتمامه بالاجتهاد، اهتم بعلم الأصول اهتمامًا خاصًّا فطبع كتبه وحث على التأليف فيه، وقد كان شيخه محمد الخاني يقول: “إننا نقرأ علم الأصول للتبرك؛ لأنه لا فائدة لنا فيه، وإنما يستفيد منه من يكون حرًّا مجتهدًا لا مقلدًا مثلنا[144].” وكان مما نشره القاسمي وعلّق عليه: رسالة الطوفي في المصلحة، فأعاد نشرها رشيد رضا في المنار قائلاً تحت عنوان “أدلة الشرع وتقديم المصلحة في المعاملات على النص”: “إن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية -وهي ما يعبر عنها علماؤنا بالمعاملات- مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح أو جلبها… وقد طبعت في هذه الأيام مجموعة رسائل في الأصول لبعض أئمة الشافعية والحنابلة والظاهرية منها: رسالة للإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي (المتوفى سنة 716ﻫ)، تكلم فيها عن المصلحة بما لم نَرَ مثله لغيره من الفقهاء، وقد أوضح ما يحتاج إلى الإيضاح منها في حواشيها الشيخ جمال الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام المدققين، فرأينا أن ننشرها بحواشيها في المنار؛ لتكون تبصرةً لأولي الأبصار[145].”

كما أن من أصول الإصلاح عند عبد القادر المغربي: اعتماد مبدأ المصلحة في الأحكام الشرعية والمعاملات القضائية، حتى إنه ليعرِّف الدين بأنه “وضع إلهي تصان به مصالح الإنسان منفردًا ومجتمعًا[146]“، ومصالح الإنسان هذه ترجع إلى أمرين: مصالح تتعلق بإدارته وسياسته باعتبار كونه أمة، ومصالح تتعلق بأحواله الشخصية والعائلية والاجتماعية باعتبار كونه فردًا من أمة، فالأولى: فُوِّض أمرها إلى الحكام، والثانية: فُوِّض أمرها إلى العلماء. لكن وقع الانحراف في الفئتين؛ “فتحول الدستور العمري إلى استبداد كسروي، وانقلب الاجتهاد الإسلامي إلى تقليد جاهلي” وبذلك ذوت الأمة[147]!

أما ابن عاشور فقد لخص أسباب اختلال تعاطي علم أصول الفقه في جملة أمور:

أولها: توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه فيه، حيث قصدوا منه أن يكون علمَ آلات الاجتهاد فأرادوا أن يُضمّنوه كل ما يحتاج إليه المجتهد فاختلط بالمنطق واللغة والنحو والكلام.

ثانيها: أن قواعد الأصول دُوِّنت بعد أن دُوِّن الفقه فوجدوا بين قواعده وبين فروع الفقه تعارضًا فلذا تخالفت الأصول وفروعها في كثير من المسائل على اختلاف المذاهب.

ثالثها: تضمن العلم مسائل لا طائل تحتها مثل مسألة هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبِّدًا بشرعٍ قبل نبوءته، ومسألة أقل الجمع، ومسألة التكليف بالمحال، وغيرها، وهي المسائل التي جعل أبو إسحاق الشاطبي الخوض فيها من العبث.

رابعها: الغفلة عن مقاصد الشريعة فلم يدونوها في الأصول، وإنما أثبتوا شيئًا قليلاً في مسالك العلة، مثل مبحث المناسبة والإخالة والمصلحة المرسلة، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول؛ لأن بها يرتفع خلافٌ كبير.

خامسها: أن غلق باب الاجتهاد وتحجير النظر حطَّ من قيمة علم الأصول عند طالبيه فأُودع في زوايا الإهمال[148].

فهذه خلاصة ما انتهى إليه النظر في رسم ملامح وعي الإصلاحيين في العصر الحديث بمشكلة العلوم الإسلامية، وأوجه الخلل التي أدت بها إلى القصور أو التأخر، مع اختلاف الأنظار.

 الهوامش


1. تنبغي الإشارة هنا إلى اختلاف الإصلاحيين فيما بينهم، حول العلاقة بين التعليم والنهضة، ففي حين نجد أن “التفكير العلّيّ الأحادي ميز إلى حد بعيد كلاً من محمد عبده ورشيد رضا والمغربي والغلاييني وأرسلان، وهو التفكير الذي يُدير النهضة والتأخر على علة التعلم والتربية والتعليم المدعومين بالأخلاق” كما يلاحظ فهمي جدعان في أسس التقدم ص462، فإن آخرين قد رأوا في التعليم أحد سبل العلاج، كالكواكبي مثلاً، وكان إدراكهم لمشكلة الانحطاط إدراكًا شموليًّا وليس أحاديّ العلة.

2. فهمي جدعان، أسس التقدم، ص462.

3. رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، ص425.

4. رشيد رضا، مجلة المنار، مجلد 11، 12/941.

5. المرجع نفسه، مجلد 1، 30/567.

[6]. انظر: الكواكبي، أم القرى، ص178-186.

[7]. آثار ابن باديس، إعداد وتصنيف عمار الطالبي، الجزائر: درا مكتبة الشركة الجزائرية، ط1، 1968، جزء 1، 2/217، وانظر: فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، عمان: دار الشروق، ط3، 1988م، ص459-461.

[8]. عبد القادر المغربي، البينات (الإصلاح الإسلامي: 1909م)، 1/302. وانظر: جدعان، أسس التقدم، ص438 وما بعد.

[9]. انظر نبذة عن تلك الأحوال في: علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب، بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، ط3، 1980م، ص12-20، وزهير الزوادي، تناقضات المشروع الإصلاحي لدى بيرم الخامس، تونس: الأطلسية للنشر، ص14.

[10]. انظر: الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب، تونس: الشركة التونسية، ط1، 1967م، ص96 وما بعدها، وج. س. فان كريكن، خير الدين والبلاد التونسية (1850-1881م) تونس: دار سحنون، ط 1988م، ص200-212، ومحمد العزيز الساحلي، قضية التربية والتعليم من خلال فكر زعماء الإصلاح، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1995م، ص14، وص73.

[11]. مصدق الجليدي، رواد الإصلاح التربوي في تونس، تونس: دار سحر، ط1999م، ص72، وانظر: ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص181؛ فإن فيه: “لقد شهد الأستاذ الشيخ محمد عبده حين حلّ بتونس سنة 1331ﻫ بأن التونسيين أشد قبولاً للرقي من المصريين لو قُيِّض لهم رجال ينهضون بهم”.

[12]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص9.

[13]. ثمة كتاب قد يكون له صلة هنا وهو: عبد المتعال الصعيدي، نقد نظام التعليم الحديث في الأزهر الشريف، طنطا: المطبعة العمومية، ط 1918م..

[14]. لابد من توجيه الشكر هنا للدكتور محمد كمال إمام على تكرّمه بتزويدي بنسخة من كتاب النعساني.

[15]. انظر: محمد بدر الدين النعساني، التعليم والإرشاد، مصر: مطبعة السعادة، ط1، 1906م، ص148، و219، و268.

[16]. المرجع نفسه، ص5-7.

[17]. المرجع نفسه، ص78، و105.

[18]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص114-115.

[19]. محمد خليل المرادي، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، 2/282-283. نقلاً عن: علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، ص15.

[20]. محمد علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، تحقيق الشيخ إبراهيم حسن الأنبابي، القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط1347ﻫ، ص16-17.

[21]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص180.

[22]. المرجع نفسه، ص114-115، وانظر: ص119.

[23]. محمد بدر الدين النعساني، التعليم والإرشاد، ص4.

[24]. المرجع نفسه، ص42.

[25]. عبد القادر المغربي، جمال الدين الأفغاني: أحاديث وذكريات، القاهرة: دار المعارف، ط1948م، ص44-45. وانظر: جدعان، أسس التقدم، ص220.

[26]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص126-127.

[27]. المرجع نفسه، ص125.

[28]. بدا لي أن هذا المصطلح شاع على ألسنة عدد من الإصلاحيين حينها، فقد استعمله رشيد رضا أيضًا وغيره.

[29]. أباظة، جمال الدين القاسمي، دمشق: دار القلم، ط1، 1997م، ص307-308، وقد أحال إلى استانبولي، شيخ الشام جمال الدين القاسمي، ص58، 84.

[30]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص128.

[31]. المرجع نفسه، ص127.

[32]. محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق وتقديم محمد عمارة، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1993م، 3/360.

[33]. محمد عبده، المرجع نفسه، 3/339. وانظر نحو هذا في: النعساني، التعليم والإرشاد، ص41.

[34]. النعساني، المرجع نفسه، ص117-118. وانظر ص222-223 حيث يُجمِل الكلام على إصلاح طرق التعليم ويجعل في مقدمة ذلك استبدال هذه الكتب التي يتداولها الطلاب ويعتمدون عليها في معلوماتهم.

[35]. النعساني، التعليم، ص144.

[36]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص162.

[37]. المرجع نفسه، ص160.

[38]. المرجع نفسه، ص161.

[39]. النعساني، التعليم والإرشاد، ص151-153.

[40]. انظر ذلك في: ابن حزم، رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها، (ضمن رسائل ابن حزم)، تحقيق إحسان عباس، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 2007م، 1/186.

[41]. محمد سعيد الباني، علماء الشام كما عرفتهم، جمعه حسن السماحي سويدان، دمشق: دار القادري، ط1، 1999م، ص61-62.

[42]. الباني، علماء الشام، ص103. وفي هذا المسلك تفسير لعدد من مؤلفات الجزائري والقاسمي التي لا يبدو منـزعها الإصلاحي مباشرًا؛ إذ سلكت مسلكًا تعليميًّا لا بد منه في تلك المرحلة في الشام، ويؤيده كلام رشيد رضا في المنار في حق القاسمي.

[43]. النبهاني هذا شيخ وقاضٍ كان من خصوم الإصلاحيين السلفيين، والتقى الأفغاني وعبده، وكتب في الهجوم عليهما وعلى الآلوسي في بغداد، مدعيًا أنه جرى تصويرهم زيفًا مصلحين دينيين، بينما سعوا في الحقيقة لتدمير الإسلام ونشر الإلحاد. انظر تفاصيل عنه في: ديفيد كومنـز، الإصلاح الإسلامي، ترجمة مجيد الراضي، دمشق: دار المدى، ط1، 1999م، ص214-216. ومن مصنفاته: جامع كرامات الأوليات الذي يذكر فيه العجائب!.

[44]. ظافر القاسمي، جمال الدين القاسمي وعصره، دمشق: مطبعة الهاشمية، 1965م، ص590.

[45]. كومنـز، الإصلاح الإسلامي، ص137.

[46]. المرجع نفسه، ص110.

[47]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص169.

[48]. المرجع نفسه، ص173.

[49]. المرجع نفسه، ص163.

[50]. المرجع نفسه، ص165، و167. وتجب الإشارة إلى أن ابن عاشور يتحدث عن خمسة أنواع من التأليف يصف حالها مفصّلاً، المشرقية والمصرية والأندلسية والقيروانية والمغربية أو الفاسية، لكننا في هذا البحث عمّمنا؛ لأننا رأينا تلك المظاهر التي نحددها أصبحت حالة عامة.

[51]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص169.

[52]. النعساني، التعليم والإرشاد، ص42-43.

[53]. المرجع نفسه، ص167-168.

[54]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص171-172.

[55]. المرجع نفسه، ص161-162.

[56]. المرجع نفسه، ص162.

[57]. انظر: مقدمة إحسان عباس لرسالة مراتب العلوم لابن حزم، ضمن (رسائل ابن حزم)، مجلد 2، 4/7-11.

[58]. انظر: ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، 2/46.

[59]. ابتدأت هذه القسمة الثنائية لعلوم الدنيا وعلوم الآخرة في زمن مبكر، فنحن نجدها عند جابر بن حيان (200ﻫ) مثلاً. انظر: مقدمة إحسان عباس لرسالة ابن حزم: مراتب العلوم، (ضمن رسائل ابن حزم)، مجلد 2، 4/12.

[60]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص174.

[61]. سالم بوحاجب، من نصه الذي ألقاه في حفل افتتاح الجمعية الخلدونية سنة 1314هـ، وبيَّن فيه أهمية العلوم التي تأسست الجمعية لبثها بين طلبة العلم. (منشور ضمن: ابن عاشور، أليس الصبح بقريب)، ص107-110.

[62]. عباس محمود العقاد، الرحالة كاف: عبد الرحمن الكواكبي، القاهرة: المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ط1959م، ص128-131.

[63]. النعساني، التعليم والإرشاد، ص107.

[64]. محمد عبده، الأعمال الكاملة، 3/199-200.

[65]. ابن خلدون، المقدمة، ضبط خليل شحادة، بيروت: دار الفكر، ط1، 2001م، 1/738-739.

[66]. الشوكاني، القول المفيد، ص18.

[67]. الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، بيروت: دار الفكر، دون تاريخ، ص3.

[68]. الزهراوي، لائحة الفقه الإسلامي، مجلة المنار، مجلد 4، 11/417.

[69]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص175.

[70]. انظر مثلاً المرجع السابق، ص148.

[71]. المرجع نفسه، ص146.

[72]. المرجع نفسه، ص174.

[73]. النعساني، التعليم والإرشاد، ص81.

[74]. المرجع نفسه، ص105.

[75]. المرجع نفسه، ص131.

[76]. المرجع نفسه، ص98.

[77]. المرجع نفسه، ص164.

[78]. المرجع نفسه، ص174، فهو في ص49 يعتبر علم التوحيد هو الأصل الأصيل للدين الإسلامي.

[79]. النعساني، التعليم والإرشاد، ص55.

[80]. المرجع نفسه، ص135.

[81]. انظر المرجع نفسه، ص200-201. وانظر: ص196.

[82]. انظر المرجع نفسه، ص129.

[83]. ابن عاشور، أليس الصبح، ص163.

[84]. المرجع نفسه، ص169.

[85]. المرجع نفسه، ص179.

[86]. المرجع نفسه، ص174.

[87]. ابن خلدون، المقدمة، 1/739.

[88]. انظر: ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص177-184.

[89]. جدعان، أسس التقدم، ص203.

[90]. محمد عبده، الأعمال الكاملة، 3/375.

[91]. المرجع نفسه، 3/377.

[92]. المرجع نفسه، 3/382-383.

[93]. فرسالة التوحيد أملاها على الطلبة في بيروت في حدود سنة 1885م، إملاءً هو “أَمَسُّ بحالهم”، ثم هيأها للنشر لاحقًا. وهذا الهدف التعليمي هو الدافع الكامن وراء كلام رشيد رضا أيضًا حين تحدث عن “الطريقة السهلة لتعميم تعليم العقائد”.

[94]. رشيد رضا، مجلة المنار، مجلد 11، 12/943.

[95]. المرجع السابق.

[96]. كان الجسر على صلة بالأفغاني، وكانت تصله مجلة العروة الوثقى، كما أنه كان شيخًا لرشيد رضا ولعبد القادر المغربي كذلك. انظر: تشارلز آدامز، الإسلام والتجديد في مصر، ترجمة عباس محمود، لجنة دائرة المعارف الإسلامية، ط1935م، ص17.

[97]. طبع في بيروت سنة 1306ﻫ.

[98]. طبع في القاهرة بمطبعة محمد علي صبيح.

[99]. فهمي جدعان، أسس التقدم، ص222.

[100]. المرجع نفسه، ص234.

[101]. المرجع نفسه، ص237-245.

[102]. الكواكبي، أم القرى، ص125.

[103]. نوربير تابييرو، الكواكبي المفكر الثائر، ترجمة علي سلامة، بيروت: دار الآداب، ط2، 1981م، ص85. بل إن آخر يذهب إلى أبعد من ذلك، إلى تفسير هذه النـزعة الكواكبية بأنها “موغلة في السلفية التي ترفض كل إنجاز عقلي وفلسفي بل ديني اجتهادي، وأنها ليست إلا شكلاً متطرفًا من أشكال الأوتوبيا الرجعية”! أحمد برقاوي، محاولة في قراءة عصر النهضة، دمشق: دار الأهالي، ط2، 1999م، ص115. وهي قراءة متعجلة تفتقر إلى العمق ومعرفة سياق النقد الإصلاحي، وقد كان جدعان شديد الدقة في فهم الجهود الإصلاحية في علم الكلام وإن لم يتعرض للكواكبي فيها.

[104]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص209-210.

[105]. انظر لبيان رؤية عبده لإصلاح الأزهر: عثمان أمين، رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص189-194. وانظر: علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب، ص85-87. وكانت فكرة إصلاح التعليم قد بدأت مع عبده في مقال نشره سنة 1876م.

[106]. جدعان، أسس التقدم، ص203.

[107]. انظر: عبده، الأعمال الكاملة، 3/334-351.

[108]. الزهراوي، الفقه والتصوف، دراسة وتقديم محمد راتب الحلاق، حمص: مكتبة الإرشاد، ط1، 1996م، ص96.

[109]. قال رشيد رضا: “كان بيننا وبين هذا الصديق العزيز… تقارب في الفكر والرأي، تعارفنا به بالمكاتبة قبل اللقاء ثم كان بعد اللقاء كالمحبة والوِداد، ولم يزدد بالمُعاشرة إلا ثباتًا ورسوخًا، كان كل منا ميالاً إلى الاشتغال بالصلاح الديني والاجتماعي، وعلاقة ذلك بالسياسة لا تخفى، ولكن تيسر لكل منا من أمر الاشتغال بالسياسة أو الإصلاح ما لم يتيسر للآخر، إذ كانت هجرتنا إلى مصر وهجرته إلى الأستانة. وفي سنة 1315 التي أنشأنا فيها المنار كان محررًا في إدارة جريدة (معلومات ) العربية في الأستانة؛ وكان ما يكتبه فيها موافقا لمشرب المنار، ووقع بيننا ما يشبه المناقشة في المسائل الإصلاحية (راجع ص 950 من الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول) ثم نفته أفكاره من الأستانة إلى وطنه”.  المنار، مجلد 19، 3/169.

[110]. انظر مثلاً: عبده، الأعمال الكاملة، 2/371.

[111]. محمد راتب الحلاق، مقدمته لرسالة: الفقه والتصوف، ص11. وقد وصف أحمد نبهان الحمصي صديقه الزهراوي أثناء إقامته في الآستانة فقال: “عكف على مطالعة الفنون والعلوم في دور الكتب العمومية، وقلما خلت منها واحدة من مراجعته لأكثر كتبها”. المنار، ترجمة السيد عبد الحميد، مجلد 21، 3/150.

[112]. محمد عبده، الأعمال الكاملة، 2/371. تأمل بعد هذا كله الكلام الاعتباطي الذي ذكره ناجي علوش حين قال عنه: “تلميذ محمد عبده من خلال الشيخ طاهر الجزائري”! وقد خانته العبارة في موضع آخر فاعتبر عبده ورشيد رضا من أساتذته! وهو يعرف صداقة رشيد مع الزهراوي ويذكرها. ناجي علوش، مدخل إلى قراءة عبد الحميد الزهراوي، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995م، ص76 و21 و51 على التوالي.

[113]. عبده، الأعمال الكاملة، 3/213-214.

[114]. المرجع نفسه، 3/216-217.

[115]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص198-202.

[116]. النعساني، التعليم والإرشاد، ص39-42. وانظر ص153.

[117]. انظر: المرجع السابق، ص46-47.

[118]. الزهراوي، الفقه والتصوف، ص63.

[119]. المرجع نفسه،  ص80.

[120]. الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: دار المعرفة، 1/32.

[121]. الزهراوي، الفقه والتصوف، ص93-94.

[122]. المرجع نفسه، ص60.

[123]. المرجع نفسه، ص63.

[124]. المرجع نفسه، ص64.

[125]. المرجع نفسه، ص72.

[126]. رشيد رضا، مجلة المنار، مجلد 19، 3/170. وانظر سرد أحمد نبهان الحمصي صديق الزهراوي للقصة في أثناء ترجمته له في المنار، مجلد 21، 3/150.

.[127] أوضح رشيد رضا أن السبب الباطن للاعتقال: أن الزهراوي كان نشر في المقطم مقالة في الخلافة بإمضاء (ع. ز) -وهو إمضاؤه الرمزي لكل ما كان ينشره بمصر- وقد وُجِدَتْ تلك المقالة معه عند القبض عليه، وحاول تمزيقها. وكلام عبده في: الأعمال الكاملة، 3/330.

[128]. انظر: محمد عبده، الأعمال الكاملة، 2/371.

[129]. مجلة المنار، مجلد 4، 21/838-839 (1902م).

[130]. انظر: كومنـز، الإصلاح، ص102-103.

[131]. كومنـز، ص105، ويحيل إلى: البيطار، حلية البشر، 2/792.

[132]. كومنـز، ص105.

[133]. منير موسى، الفكر العربي في العصر الحديث، بيروت: دار الحقيقة، ط1973م، ص230.

[134]. فهمي جدعان، أسس التقدم، ص310 وما بعد.

[135]. أحمد نبهان الحمصي، السيد الزهراوي، مجلة المنار، مجلد 21، 4/207.

[136]. رشيد رضا، مصاب مصر والشام: ترجمة القاسمي، المنار، مجلد 17، 8/628. ولعل من المفيد هنا –استطرادًا- أن نذكِّر بكتاب “فقه السنة” لسيد سابق الذي كتبه بتشجيع من حسن البنا، وطريقته فيه التي لم يلتزم فيها بمذهب، واعتنى فيه بذكر الأدلة، وهي الطريقة التي اتبعها لاحقًا الشيخ يوسف القرضاوي. فهذا كله استمرار لهذا التقليد الإصلاحي السلفي القديم.

[137]. قال ديفيد كومنـز في كتابه “الإصلاح الإسلامي” ص104 حكاية عن الزهراوي: “ووجه نقده بشكل خاص إلى قاعدتين من قواعد الفقه السني هما: القياس والإجماع، مدعيًا أنه ليس ثمة حجة لجعلهما مصدرين للأحكام الشرعية”. فتأمل هذا الخطأ الغريب!

[138]. الزهراوي، الفقه والتصوف، ص87-93.

[139]. في تعليقه على رسالة المصلحة لنجم الدين الطوفي التي نشرها رشيد رضا في مجلة المنار، مجلد 9، 10/721.

[140]. نُذكر هنا بكلمة النعساني في الأصول وأنه ليس من العلوم الضرورية اليوم؛ لأنه خير من الاجتهاد وأَجدَى للمسلمين: اختيارُ ما يوافق أهل كل عصر ومصر من أقوال الأئمة المجتهدين والعمل بها وتَرك التقيد بمذهب إمامٍ”. النعساني، التعليم والإرشاد، ص129-131.

[141]. الباني، علماء الشام كما عرفتهم، ص103.

[142]. المرجع نفسه، ص105.

[143]. حازم محيي الدين، الشيخ طاهر الجزائري، دمشق: دار القلم، ط1، 2001م، ص71.

[144]. أباظة، جمال الدين القاسمي، ص310.

[145]. مجلة المنار، مجلد 9، 10/721.

[146]. عبد القادر المغربي، البينات: النهضة الدينية في الأمة الإسلامية، 1916م، 2/6.

[147]. انظر تفاصيل الرؤية الإصلاحية عند المغربي في: جدعان، أسس التقدم، ص440-444.

[148]. ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص204-205.

الوسوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق