وحدة الإحياءدراسات عامة

مراتب البيان ودوائر التأويل

لا يخفى أن “البيان” من آيات الله الكبرى التي خص بها الإنسان حيث قال تعالى: ﴿الرحمن علم القرءان. خلق الاِنسان علمه البيان﴾ (الرحمن: 1-2) فقد ربط معجزة الخلق بسرّ تعليم البيان للإنسان. فالبيان هو السر الذي يحمله الإنسان بين جنبيه حتى لكأنه حقيقته وحدّه؛ إذ يمكن أن نقول أن الإنسان هو القادر على البيان. والإنسان بلا بيان كلا إنسان.

  ولذلك، فإن التأمل في هذا السر العجيب الذي خص الله به الإنسان كان همّ كثير من العلماء قديما وحديثا، ولا يزال التأمل فيه يقود إلى اكتشاف حقائق وأسرار لا تكاد تنتهي. فالبيان ملكة من ملكات الإنسان العجيبة والمعقدة التي يمتزج فيها الحس بأحوال النفس وبصور الفكر والعقل، وبتجليات الروح وأسرارها، فينطبع ذلك المزيج ليشكل قدرة الإبانة لدى الإنسان المتكلم، وقدرة التبيّن والاستبانة لدى الإنسان المتفهم.

وقد صدق الإمام الشافعي عندما قال: “والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع[1]” وهذا الإحساس بتعدد معاني “البيان” وتشعبها وتعقدها كان إحساسا مشتركا بين كثير من علماء القرنين الثاني والثالث الهجريين؛ حيث قال الجاحظ أيضا مستعيرا بعض عبارة الإمام الشافعي: “والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع[2].”

ولا ريب أن ما قصده الجاحظ بـ”كشف قناع المعنى” و”هتك الحجاب دون الضمير” هو أن عملية الإبانة عن المعنى لا تنفك عن عملية الفهم والتبيّن، مما يجعل “البيان” عملية تداولية مركبة ترتبط ارتباطا وثيقا بسياق التداول وتقوم على خطط خاصة تهم كيفية الوصول إلى “حقيقة المعنى” بعد المرور بالأقنعة الظاهرة التي يتفنن المتكلم في حجب المعنى بها.

بل إن الجاحظ يرى أن هذه العملية كلما كانت موافقة للشروط التواصلية المؤدية إلى نجاحها بالكشف عن المعاني الخفية كلما كانت أقوى دلالة وأعظم بيانا، يقول: “وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعتَ الله، عز وجل، يمدحه، ويدعو إليه ويحث عليه. وبذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف الأعاجم[3].”

وقد أوضح الجاحظ هذا الأمر حتى لا يفهم أحد أن البيان يكون بالإلغاز والإشارات البعيدة التي لا دليل عليها من الكلام نفسه. وبذلك يمكننا القول إن البيان عملية مركبة تقوم على جانب إبداعي بنائي يرتبط بكيفية بناء الخفي على الجلي، كما تقوم على جانب تفهّمي يقوم بفك ذلك البناء لإظهار المعنى الخفي على أوفق وجوهه.

ولأنه عملية مركبة فإنه يأتي على صور ومراتب تتفاوت تفاوتا كبيرا، وقد لاحظ القدماء ذلك، واعتنوا بالإشارة إلى أن البيان الإلهى في القرآن الكريم هو أعلى صور البيان على الإطلاق فاختص بالإعجاز. وقد عبر عن ذلك الإمام أبو الحسن الحرالي، أوفق تعبير عندما قال في رسالته النفيسة “مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل” وهي الرسالة التي سنعتمد كثيرا من دقائقها في بناء هذا البحث، يقول: “اعلم أن بلاغة البيان تعلو على قدر علو المُبين، فعلوّ بيان الله على بيان خلقه، بقدر علو الله على خلقه، فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه[4].”

وقد تتبعنا كلام الأولين عن مراتب البيان وأصنافه، فلم نجد لهم قولا نرضاه، ولذلك تأملنا حال البيان في مختلف صوره فتبيّن لنا أنه يمكن تمييز ثلاثة أصناف أو مراتب منه، تختص كل مرتبة منها باسم وبقانون وبآليات خاصة. وقد بنينا هذه المراتب على الغالب عليها من حيث خدمة العقل أو النفس أو الروح. فنقول وبالله التوفيق:

أولا: مراتب البيان

   إن مراتب البيان ثلاثة وهي: البيان العقلي أو “الفكر”، والبيان النفسي أو “السحر”، والبيان الروحي أو “الذكر”. وفيما يلي تفصيل هذه المراتب والأصناف.

1.  البيان العقلي 

ونقصد به صورة البيان الذي تغلب عليه الطبيعة العقلية الاستدلالية، وينبني بصورة خاصة من خلال الدلائل المكونة للنص، والتي يلجأ في الغالب في بنائها إلى قواعد التدليل في ربط العلاقات وبناء السياقات. ولذلك خصصنا هذا الصنف من البيان بمسمى “الفكر” لظهور هذه الخاصية المستندة إلى الدليل في بنائه. وسوف تكون عملية تفهّم هذا البيان تدبرا وتأويلا عملية نطق عليها اسم “التفكر” وسنأتي على بيان مقتضاها.

ولكون هذا البيان يستند في تأويله إلى التمثيل بوصفه آلية أساسية فهو يوظف المعاني الحسية والعقلية والنفسية المرتبطة بالإنسان والكون من حيث هما عوالم متعقلة وفقا لهذه الآلية ذات الطبيعة المرآوية.

2.  البيان النفسي 

وهذا الصنف يغلب عليه عرض المعاني النفسية والشعورية، بما يرتبط لا بالدليل العقلي المحض وإنما بالخيالات قريبها وبعيدها، وبالخوالج النفسية ظاهرها وخفيها، وبالعواطف إيجابيها وسلبيها، وبالقيم صالحها وطالحها. ولكون هذا الصنف من البيان غوصا في أعماق النفس وأسرارها فقد أطلقنا عليه اسم “السحر“، الذي يجمع إلى قوة التأثير قوة التخييل، وهو الصيغة الأبلغ لهذا الصنف من البيان. قال تعالى: ﴿يُخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾ (طه: 65)، وقد اقتدينا ببعض العلماء ممن أطلقوا مسمى “السحر” على نمط الشعر الذي يخلب الألباب ويهز النفوس، يقول ابن الخطيب: “فمن الواجب أن يسمى الصنف من الشعر الذي يخلب النفوس ويستفزها، ويثني الأعطاف ويهزها، باسم السحر الذي ظهرت عليه آثار طباعه وتبين أنه نوع من أنواعه، ولهذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن من البيان لسحراَ” تتوجه إشارة حرف التبعيض[5].”

والآلية البيانية التي يعتمدها هذا الصنف من البيان اعتمادا واسعا هي المجاز الذي يمكنه من خلق عوالم مركبة ومعقدة بانتقالات متنوعة ومختلفة، وسيحتاح فهمها إلى إعمال آلية التخييل لولوج هذه العوالم وإدراك قوانينها.

3. البيان الروحي 

وهو الرتبة الأعلى من البيان، لارتباطه بالمعاني الغيبية، والتجليات الروحانية، وهو يستوعب البيانين السابقين ويهيمن عليها. وقد حاول الجاحظ أن يقدم وصفا مقاربا لهذا الذي نحن بصدده، وإن كان غير واف تماما بالمعنى الذي نريده، يقول: “وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله، عز وجل، قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، ومنزّها عن الاختلال ومصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصّلت الكلمة على هذه الشريطة ونفذت من قائلها على هذه الصفة، اصطحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة[6].”

فتأمل هذا البيان الذي ألبسه الله لباس الجلالة وغشاه من نور الحكمة وأصحَبه التوفيق ومنحه التأييد بعبارة الجاحظ، كيف يكون بناؤه، وكيف يكون تأثيره في القلوب والعقول.

 ولكون هذا الصنف من البيان في هذه المرتبة العالية نرى أن بيان القرآن الكريم جاء على هذه الصورة، ولا يمكن للإنسان أن يقترب من هذه الرتبة إلا باقتباس الأنوار القرآنية، ولا سبيل إليه غير هذا السبيل.

ولذلك رأينا أن أدق كلمة نطلقها على هذا الصنف من البيان هي كلمة “الذكر” فقد وُصف بها القرآن الكريم في غير آية، كما في قوله تعالى: ﴿ذلك نتلوه عليك من الاَيات والذكر الحكيم﴾ (ءال عمران: 57)، وقوله: ﴿وقالوا يأيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ (الحجر: 6)، وقوله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ (النحل: 44)، وقوله: ﴿إن هو إلاّ ذكر وقرءان مبين. لتنذر من كان حيّا﴾ (يس: 68-69).

 ومادة “الذكر” ومشتقاتها من أغنى وأهم المواد الاصطلاحية في القرآن الكريم، وفي هذا السياق نفهم قوله تعالى: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون﴾ (الحجر: 9) ونفهم تخصيص القرآن الكريم في مقام الحفظ باسم الذكر، ففيه إشارة إلى هذه المرتبة العالية من البيان التي لا يصل إليها أحد من البشر إلا بأن يسلك طريق الاستمداد من الأنوار الربانية.

ولكون هذا البيان أعلى من سابقيه وجب أن تكون الآلية البيانية التي يعتمدها مهيمنة على آليتي الدليل والمجاز، وهي آلية الإشارة الأوسع منهما والأقوى منهما في بيان الخفايا وكشف الأسرار والبواطن. كما أن الآلية التأويلية البيانية التي يعتمدها هذا البيان ستكون مهيمنة على آليتي البيانين السابقين؛ أي التمثيل والتخييل، حيث سيعتمد هذا البيان صورة التأويل في كشف العلاقات وضبط الانتقال من الظاهر إلى الباطن.

ويعلو هذا البيان البيانين السابقين، أيضا، في كونه لا يقف عند طلب الدليل العقلي المجرد كما هو الحال في البيان العقلي، ولا في طلب باطن النفس بالتدسس التخييلي إليها، ولكنه يرتبط بما هو أعمق وأسبق منها وهو الفطرة الإنسانية الأولى التي جاء “الذكر” للتذكير بها، ولذلك سيتخذ التفهم طريق “التذكر” كما سنبين فيما سيأتي.

وببياننا، ولو بغير تفصيل، لهذه المراتب البيانية المركّبة يتبين بجلاء أن النظام البياني في التراث العربي الإسلامي يحتاج إلى مراجعة علمية لبيان حقيقته بكونه أقوى الأنظمة المعرفية في الثقافة الإسلامية، مع مراجعة مزاعم بعض الباحثين أمثال محمد عابد الجابري الذين ينظرون إلى هذا  النظام  بغير هذه العين لأسباب فكرانية (أيديولوجية) غير علمية في كثير من الأحيان.

ثانيا: دوائر التأويل

للحديث عن هذا الشق الثاني من هذا البحث لابد من تقرير مقدمات ضرورية ننطلق منها كمسلمات نبني عليها فهمنا لدوائر تأويل البيان.

1.  لا فهم للنص إلا بالفهم عن صاحب النص. ولا فهم لنص القرآن إلا بتعظيم الله تعالى وإجلال كلامه، يقول الحارث المحاسبي: “وإنما قصر بالناس عن فهمها قلة تعظيمهم لقائلها[7]“، ويقول أيضا: “فمن أجلّ كلامه آثره على كل كلام ومخاطبة، وعلى كل علم، ليفهمه عنه، ويقوم بحقه بمعرفة وفهم[8].”

2.  الفهم يكون بالالتفات إلى المقاصد، يقول الشاطبي عند قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب اَقفالها﴾ (محمد: 25)؛ “فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبّر[9].”

3.  لكل نص ظاهر وباطن، والباطن هو المراد المقصود، يقول الشاطبي: “وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه[10]“، ويقول أيضا: “فاعلم أن الله تعالى إذ نفى الفقه أو العلم عن قوم، فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر وعدم اعتبارهم للمراد منه، وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه، وهو باطنه[11].”

ولكنه يشترط للباطن شرطين هما: “أن يصح على مقتضى الظاهر والمقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية. والثاني أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض[12].”

4.  تفاوت الناس في فهم الكتاب بحسب قواهم وتقواهم. ولذلك قرر الزركشي أن الفهم ليس له حد ينتهي إليه، قال: “على أن فهم كتاب الله تعالى لا غاية له، كما لا نهاية للمتكلم به، فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر، ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا[13].”

كما قرر ابن القيم أن الناس متفاوتون في إدراك درجات سُلّم الفهم، يقول: “والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره[14].”

وانطلاقا مما سبق فإننا سنقف عند ثلاثة أصناف من التأويل تتناسب مع أنماط البيان التي ذكرناها سابقا. وسنصوغ هذه الأصناف ضمن ثلاث دوائر هي كالتالي:

1.  دائرة التفكّر 

يتعلق هذا الصنف التأويلي بنمط البيان العقلي أو “الفكر”، والذي قلنا إنه يستند إلى البناء الاستدلالي أو قل إلى الدليل، كما يتم صوغه في صورة التمثيل، فالفكر كما ذكر ذلك الغزالي: “هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة[15]“؛ فالتفكير هنا ينصرف إلى التأمل في الدلائل الحسية والعقلية، وفي القرآن فإنه يتعلق بكل الآيات الحجاجية المرتبطة بإثبات العقيدة واستعراض آيات النفس والكون مما يطلب به الاعتبار. ويطابق هذا تعريف التفكر عند أهل النظر من أنه “تصرف القلب بالنظر في الدليل“، كما قال الجرجاني في التعريفات (باب التاء).

فهو، إذن، نمط تأويلي يختص بتفهم الدلائل وتدبرها ليتحقق الاعتبار بها، وغالبا يعتمد في نظرها وكشفها مفهوم التمثيل والمثل، كما في قوله تعالى: ﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ اَنزلناه من السماء فاختلط به نبات الاَرض مما ياكل الناس والاَنعام، حتى إذا أخذت الاَرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلًا اَو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الاَيات لقومٍ يتفكرون﴾ (يونس: 24).

وكما في قوله تعالى: ﴿لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون. لو اَنزلنا هذا القرءان على جبلٍ لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الاَمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾ (الحشر: 20-21)، وآيات غيرها كثير يرد فيها اقتران التفكر بالتمثيل وضرب الأمثال.

2. دائرة التبصر 

وهو صنف من التأويل يتصل بما سميناه سابقا بـ”البيان النفسي”، والذي نعتناه هناك بلفظ “السحر”، وقلنا إنه يتناول الجوانب المرتبطة بالمشاعر والعواطف والقيم، ويركز على العوالم التخييلية المرتبطة بهذه المضامين. ولذلك تعتمد هنا آلية المجاز في خلق هذه العوالم وفي بناء العلاقات بين الظاهر والباطن في النص.

فإذا كان التمثيل يقدم لنا صورة أقرب إلى الصورة المرآوية في دائرة التأويل التفكيري، فإن المجاز في التأويل التبصري يقدم لنا عوالم تصويرية متعددة قد يقود بعضها إلى بعض أحيانا. ولذلك نعتنا هذا التأويل بـ”التبصري” أو إن شئت الاستبصاري؛ أي القدرة على كشف العلاقات المتنوعة التي ينظمها المجاز، واختراق العوالم التخييلية المختلفة التي يصنعها.

ولكون المجاز آلية أوسع من التمثيل وأعقد، فقد ارتأى العلماء وضع احترازات لابد منها عند التأويل اعتمادا عليه. وأهمها احترام ضوابط التأويل بعدم استكراه الألفاظ على ما لا تقله من المعاني، وقد نعت عبد القاهر الجرجاني من يقوم بذلك  بمحبي الإغراب وبالجهل تارة أخرى. يقول: “فأما الإفراط؛ (أي في المجاز)، فما يتعاطاه قوم يحبون الإغراب في التأويل، ويحرصون على تكثير الوجوه، وينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تُقلّه من المعاني، يدعون السليم من المعنى إلى السقيم، ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها، فيعرضون عنها حبا للتشوف، أو قصدا إلى التمويه وذهابا في الضلالة[16].”

ويذهب أبعد من ذلك حين يصف تعسف بعض المؤولين استنادا إلى آلية المجاز بأنه “شيء يخرج عن كل طريق، ويباين كل مذهب، وإنما هو سوء نظر منهم، ووضع للشيء في غير موضعه، وإخلال بالشريطة وخروج عن القانون، وتوهم أن المعنى إذا دار في نفوسهم، وعقل من تفسيرهم فقد فهم من لفظ المفسر، وحتى كأن الألفاظ تنقلب عن سجيتها، وتزول عن موضوعها، فتحتمل ما ليس من شأنها أن تحتمله، وتؤدى ما لا يوجب حكمها أن تؤديه[17].”

ويقع الخطأ أكثر عند إجراء آلية المجاز على صنف البيان الروحي الذي تحكمه آلية أخرى أعلى منه، فيقع المؤوّل في شناعات مما تعرض له العلماء قديما.

3. دائرة التذكر 

لقد نعتنا هذا الصنف التأويلي بـ”التذكر” استنادا إلى تسميتنا لصنف البيان الروحي المقابل له “بالذكر”، وقد أشرنا إلى أن “الذكر” ومشتقاته من أغنى المواد الاصطلاحية في القرآن الكريم، والتي تحتاج إلى الاستثمار في المجال البياني التأويلي. ويرتبط الذكر والتذكر في القرآن الكريم بالفطرة الأولى التي هي كما فسرها أستاذنا طه عبد الرحمن أقرب إلى الذاكرة الغيبية. ولذلك ذكرنا أن هذا الصنف من البيان الروحي “الذكر” مرتبط أساسا بالغيبيات والتجليات.

وهو يمثل جانبا من قدرة الإنسان على الفهم والتفهم التي لا تتأتى إلا بالترقي في مدارج الفهم الإيماني، كما قال الحرالي، رحمه الله، وهو أفضل من وصف هذه المرتبة؛ حيث قال: “هذه آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة الذي أُخِذ سمعا عند تقرر الإيمان، وعند هذا الحد يتنامى العقل إلى فطرة الأشد، وتعلو بداهته، ويترقى فكره إلى نظر ما يكون آية في نفس الناظر؛ لأن مجاز غيب الكون يرد إلى وجدان نفس الناظر[18].”

وهذا العقل المتنامي يسميه الحرالي بالعقل الأعلى، يقول: “هذا هو العقل الأعلى (…) وكما للعقل الأدنى فكرة تنبني على بداهته، فذلك للعقل الأعلى فكر ينبني على عليّ فطرته (…) وهذا العقل الأعلى هو اللب الذي يكون عنه التذكر بالأدنى من الخلق للأعلى من الأمر[19].”

فالقرآن الكريم من حيث هو “ذكر” يخاطب هذا العقل الأعلى ليذكره بفطرته الأولى، وقد أشار الإمام ابن القيم إلى هذا المعنى في قوله: “وقد بين الله ذلك سبحانه في قوله: ﴿إلا ذكرٌ وقرءانٌ مبينٌ. لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين﴾ (يس: 68-69). فتأمل كيف ظهرت معرفة الله والشهادة له بالتوحيد وإثبات أسمائه وصفاته ورسالة رسله والبعث للجزاء مسطورة مثبتة في الفطر، ولم يكن ليعرف بها أنها ثابتة في فطرته، فلما ذكّرته الرسل ونبهته رأى ما أخبروه به مستقرا في فطرته شاهدا به عقله، بل وجوارحه ولسان حاله، وهذا أعظم ما يكون من الإيمان وهو الذي كتبه الله سبحانه في قلوب أوليائه وخاصته، فقال: “أولئك كتب في قلوبهم الإيمان[20].”

ولذلك كان إدراك هذا البيان المرتبط بالذاكرة الغيبية مرتبطا بالإشارة وهو أحق من غيره بمسمى التأويل، سواء أكان معنى التأويل اللغوي هو العودة إلى الأول، أو كان بمعنى ما يؤول إليه الأمر في النهاية. ولذلك كان هذا التأويل التذكري تأويلا إشاريا، وكانت هذه المرتبة غير مبذولة لكل أحد، ولا متاحة لكل من حاولها دون التوفر على شروطها. يقول الزركشي في البرهان: “كتاب الله بحره عميق، وفهمه دقيق، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم، وعامل الله بتقواه في السر والعلانية، وأجله عن موقف الشبهات. واللطائف والحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع وهو شهيد، فالعبارات للعموم وهي للسمع والإشارات للخصوص وهي للعقل، واللطائف للأولياء وهي المشاهد، والحقائق للأنبياء، وهي الاستسلام[21].”

  ولذلك كان تلقي الإشارات وفهمها وكشف لطائفها محتاجا إلى استعداد خاص، كما قال ابن القيم: “فالإشارات من جنس الأدلة والأعلام، وسببها صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها[22].”

وهذا الصفاء القلبي استعدادا للتذكر يقع في مراتب لا تنحصر بحسب اجتهاد المجتهدين وعمل العاملين ونباهة النابهين، ولذلك قرر الإمام ابن القيم في نص نفيس آخر أنه “لو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق[23].”

وهو نفس ما أشار إليه أستاذه ابن تيمية حيث قال: “فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين، وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه واتباعهم ما يحبه، ما لا يفتح به على غيرهم[24].”

ولعل هذا المعنى المرتبط بالتأويل الإيماني التذكري، وهو التأويل المرتبط بالقرآن الكريم من حيث هو “ذكر”؛ أي بيان روحي متصل بالغيب، لعله هو الذي جعل عالما جليلا كالحرالي يربط قوانين تأويل القرآن بعلم الإيمان، يقول: “فأما قوانين تفسيره ففي علم النحو والأدب، وأما قوانين تأويله ففي علم الإيمان و تحقيق أن الخبر ليس كالعيان، وأما قوانين التطرق إلى فهمه ففي قلوب عباد اختصهم الله بالفهم، وآثرهم بإحاطة من العلم[25].

ومن هنا يظهر أن دائرة التذكر أخص دوائر التأويل وأقواها وأحقها بمسمى التأويل، حيث يجمع التأويل فيها الشروط الصناعية (اللغوية والبيانية والمقاصدية) إلى جانب الشروط الإيمانية (الصفاء والتجرد والإخلاص)، فكان بذلك أعلى صور التأويل؛ لأن ثمرته لا تقف عند الفهم والبيان والتبيين، بل تتعدى ذلك إلى العروج في آفاق الإيمان وتجلياته غير المحدودة.

وإذا كان التفكر في الدليل يثمر الخوف بعد التأمل في آيات الله في الكون والنفس، والتبصر في المجاز يثمر الخشية بعد التأمل في دقائق النفس وحقائق المعاني القيمة، فإن التذكر بالإشارة يثمر المحبة بكل أنوارها بعد الغوص في الحقائق الغيبية، وقد استنتجنا هذا المعنى من قولة ذكرها الإمام الغزالي في الإحياء منسوبة إلى حاتم الأصم رحمه الله يقول فيها: “من الذكر يزيد الحب، ومن التفكر يزيد الخوف[26].”

ولهذا نعد التأويل التذكري تأويلا إيمانيا خالصا محاطا بجلال الله وقدسية مقامه وتعظيم صفاته بما لا يدع مجالا للمؤول أن يخرج عن مقتضيات الإيمان، فلا تكون تأويلاته إلا ذوقا عميقا للذة الإيمان، وسبحا لطيفا في تجليات الأنوار.

وأخيرا نستجمع عناصر الموضوع بأن نقول إن للبيان صورا ثلاثا هي على التوالي؛ البيان العقلي، والبيان النفسي، والبيان الروحي، وقد أطلقنا على الأول اسم الفكر، وعلى الثاني اسم السحر، وعلى الثالث اسم الذكر، كما أن لكل واحد من هذه الأصناف آلية بيانية، وآلية تأويلية، وصورة من صور التأويل مناسبة؛ فالفكر آليته البيانية هي الدليل، والسحر آليته البيانية هي المجاز، والذكر آليته البيانية هي الإشارة، ويقابلها على مستوى التأويل دوائر للتأويل ثلاثة: الأولي؛ هي التفكر الخاص بتأويل الفكر وآليته التأويلية هي التمثيل، والثانية؛ هي التبصر المتعلق بتأويل السحر، وآليته التأويلية هي التخييل، وأخيرا التذكر الخاص بالذكر، وآليته التأويلية هي التأويل نفسه. وقد جمعنا هذه العناصر والمفاهيم في الجدول الآتي:

الهوامش


[1]. الرسالة، ص2.

[2]. البيان والتبيين،1/76.

[3]. البيان والتبيين، م، س، 1/75.

[4]. تراث الحرالي، ص29.

[5]. ابن الخطيب، السحر والشعر، تحقيق: محمد كمال شبانة وإبراهيم حسن الجمل، ص55.

[6]. البيان والتبيين، م، س، 1/83.

[7]. الحارث المحاسبي، فهم القرآن، ص328.

[8]. المرجع نفسه، ص313-314.

[9]. الموافقات، 2/347.

[10]. المرجع نفسه.

[11]. المرجع نفسه، 2/349.

[12]. المرجع نفسه، 2/357.

[13]. البرهان، 1/155.

[14]. أعلام الموقعين، 1/354.

[15]. إحياء علوم الدين، (كتاب التفكر)، وانظر ابن القيم، مفتاح دار السعادة، 1/187.

[16]. أسرار البلاغة، ص393.

[17]. أسرار البلاغة، ص394.

[18]. الحرالي، م، س، ص46.

[19]. المرجع نفسه، 46-67.

[20]. ابن القيم، مفتاح دار السعادة، م، س، 1/292.

[21]. البرهان، م، س، 1/153-154.

[22]. مدراج السالكين، 2/406.

[23]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، 1/175.

[24]. مجموع الفتاوي، 13/245.

[25]. تراث الحرالي، م، س، ص 26-27.

[26]. إحياء علوم الدين، 4/425.

الدكتور عبد الجليل هنوش

• عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض مراكش.
• دكتوراه الدولة في النقد الأدبي من جامعة القاهرة.
• أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مادة النقد والبلاغة.
• منسق ماستر: الأدب العربي القديم: أصوله اللغوية ومناهجه، بكلية الآداب مراكش.
من أعماله:
ـ التأسيس اللغوي للبلاغة العربية في القرن 2 هـ.
ـ ابن طبا طبا العلوي والتصور التداولي للشعر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق