هو الإمامُ العالـمُ الـمُحدِّثُ أبو عبد الله مـحمد بن عبد القادر بن علي بن أبي المحاسن الفاسي وِلادة ومنشأ وقرارا، وضعته أُمُّه ليلة الـجمعة الخامس عشر من ربيع الأول عام اثنين وأربعين وألف، في حضن أسرة اشتهر كبارها وصغارها بالانكباب على العلم طلبا وتدريسا في زاويتهم المشهورة بالـحضرة الفاسية وبمساجدها أيضا، وفي مختلف التخصصات؛ فمنهم: البارع في علوم الآلة والأدب، والنابغ في علوم القرآن، والماهر في الفقه وأصوله، والمتمرس بعلم الحديث، والمشتهر بالتاريخ، وما إلى ذلك، ولم يكن أبو عبد عبد الله ليَشُذَّ عَن هذا الرَّكب الميمون، بَلْ صَار على نهجهم، واقتفى خُطى آثارهم، فشمَّر عن ساعد الجد منذ حداثة سنه فحفظ القرآن وتَلقَّى جُملة من العلوم على يد شيوخ من عَشِيرَتِه وَذَوِيهِ؛ كوالده عبد القادر الفاسي(ت1091هـ)، وعمه أبي العباس أحمد بن علي الفاسي(ت1062هـ)، وأبي القاسم وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي الفاسي(ت 1084هـ)، وأجازه عم والده العربي الفاسي(ت1052هـ) وهو ابن عشر سنين أو أقل من ذلك، ولم يكتف مترجمنا بهؤلاء ، بل كان حريصا على حُضُور حلقات غيرهم ممن عاصرهم، من أشهرهم: أبو العباس أحمد بن محمد الزَّمُّوِري(ت 1057هـ)، وأبو العباس أحمد المدعو حمدون بن محمد الأبار(ت1071هـ)، وأبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد المرابط الفاسي(ت1079هـ)، كما حصل رحمه الله عن طريق المكاتبة والإذن على مجموعة من الإجازات من شيوخ بلاد المشرق أجازوه فيها بما لديهم من أسانيد ومرويات، يأتي على رأسهم الشيخ الـمُقرئ الضَّرير أبو الحسن نور الدين علي الشَّبْرَامِلِّسي( ت1087هـ)، وشيخ الإسلام أبو الفرج عبد السلام بن إبراهيم اللَّقاني(ت1078هـ)، والإمام المتفنن أبو إسحاق مُلا إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوراني(ت 1101هـ).
وبعدما تمكن أبو عبد الله من المنقول والمعقول في جملة من العلوم حفظا وفهما واستنباطا، وسطع نجمه في سماء الحضرة الفاسية، وأصبح لا يُشقُّ له غُبَار، خصوصا في عِلْمَي الحديث واللغة، جلس لتدريس أبناء عصره بما فتح الله به عليه، وأعانه على ذلك؛ بقوة الصبر وسعة الصدر، وتحمل المشاق والصِّعاب، رغم ما يعانيه من مرض وأَلَـم البَواسِير حفظ الله منها الجميع، ومن أنجب هؤلاء الذين كانوا يحضرون مجالسه: أبو محمد عبد السلام بن الطيب القادري(ت1110هـ)، وأبو عبد الله محمد بن أحمد المسناري(ت1036هـ)، وأبو عبد الله محمد بن عبد السلام بناني(ت1163هـ)، هذا ولم يثبت عنه رحمه الله أن زاول مهنة أخرى غير التدرس، مع العلم أنه قد عرضت عليه بعض المناصب فرفضها.
وإضافة إلى نبوغه وسعة علمه، اشتهر أيضا عند العامة والخاصة بحُسن الأخلاق، والورع والزهد، ورقة القلب، وعدم الخوف في الله لومة لائم، وقد أُعجب بهذه الشَّخصية الفذَّة جُـمُوع من المؤرخين والعلماء، فأثنوا عليه، ووصفوه بما يتوافق مع حاله، من ذلك ما جاء على لسان محمد بن الطيب القادري: «إمام الـمُحققين، ورئيسُ الـمُحدثين»، ومن بعده قول محمد بن جعفر الكتاني: «حسنة الليالي والأيام، نجم الأمة، وتاج الأئمة، العالم الكبير، العلامة الشهير، مصباح أهل زمانه، ونُور عين أعيان عصره وأوانه، من جمع بين العلم والدين، وسار بسيرة أسلافه المهتدين، وحاز ورعا وعلما وديانة وعقلا وفهما، وهمة عالية، ونفسا أبية، وأخلاقا سَرِيَّةً، وأحوالاً مرضيةً سَنِيَّةً».
ولم تتوقف مسيرة مترجمنا عند التدريس فحسب، بل انكبَّ على التأليف في علم: اللغة والمنطق والتفسير والحديث والفقه وغيره، من ذلك: «تكميل المرام بشرح شواهد ابن هشام»، طبع قديما على الحجر بفاس، سنة (1310هـ)، ثم حققه الباحث محمد جرير في إطار بحث لنيل شهادة الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سنة(2002م)، و«المباحث الإنشائية في الجملة الخبرية»، و«نقد مسلك السداد إلى مسألة خلق أفعال العباد»، و«تحفة المخلصين بشرح عدة الحصن الحصين»، مطبوع.
أما وفاة أبي عبد الله رحمه الله فكانت بداره عند زوال يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب ودفن من الغد في المكان الذي يدّرس به من زاويتهم، سنة (1116هـ).
ترجمته في: صفوة من انتشر(357-359)، ونشر المثاني(3/151-152)، وطبقات الحضيكي(2/312-314)، وسلوة الانفاس(1/359-361).
إعداد: ذ.رشيد قباظ.