من أبرز كبار شيوخ الطريقة التجانية علما وعملا، علامة الزمان، غواص بحار العلوم لاقتناء الطرائف، وخائض لجج المعارف لادخار جواهر اللطائف، أبو عبد الله محمد بن أحمد أكنسوس المراكشي، من جملة المشهور لهم بالفتح في الطريقة التجانية، المشتهر فضله بين العامة والخاصة، الموصوف بالولاية التامة، القائم في إرشاد العباد لطريق الرشاد على ساق الجد والاجتهاد، لا تأخذه في الله لومة لائم...[1]
ولادته ونشأته
ولد عام 1211ھ/1796-1797م، بقبيلة تنمرت كما أخبر بذلك في إحدى رسائله، وتيتم من أبيه وهو صغير، وما إن أدرك وميز حتى غادر مسقط رأسه إلى الزاوية الناصرية حيث أخواله، فحفظ القرآن، واستظهر الأمهات، وشدا من أوليات العلوم، ثم شد الرحلة إلى فاس طالبا للعلم عام 1229ھ، وفيها اتخذ مسكنه بمدرسة الصفارين، واتفق له أن يسكن منها بيتا لصق البيت الذي كان يسكنه الشيخ الجزولي صاحب "دلائل الخيرات"، وانكبّ على التحصيل والاستفادة واصبا دائبا، فلم يمض عليه زهاء ثماني سنوات حتى أشير إليه بالأصابع، وعُدّ من ذوي الفهم والتحصيل.[2]
تصوفه وعلمه
كان صاحب الترجمة ذا نزعة صوفية جعلته على استقامة مثالية، وألزمته كلمة التقوى، وألقت عليه سمت الصالحين...، التقى بعامة أشياخ وطنه، ولازم الجلة منهم حتى استنفذ ما عندهم، ثم أمعن بعد ذلك، في القراءة الشخصية إمعانا استغرق فراغه، فقد كان منهوما بالقراءة مشغوفا بالكتب، يقتنيها، ويستنسخها، ويستعيرها، ويتردد على أصحاب المكتبات من أصدقائه ومعارفه ليشبع نهمه بالمعرفة، فاحتوى صدره لذلك معارف كثيرة، وصارت له المشاركة الواسعة في مختلف العلوم والفنون، فذكر بين الفقهاء والفرضيين، وجعل في اللغويين والنحاة والبلاغيين، وكان له نظر في المنطق وفي العلوم الروحانية من تصوف وغيره، فهو كصوفي كان له أثر بالغ في الدعوة إلى الله بين الخاصة والعامة، والدؤوب على إرشاد الناس زهاء خمسين سنة أو تزيد، لم يتعب في ذلك ولم يمسه فيه نصب ولا لغوب، فقد كان من أتباع الناصرية سيرا على أثر أسلافه الذين كانوا قد دخلوا فيها من عهد شيخها محمد ناصر، فلما ارتحل لفاس طالبا للعلم، وجد التجانية تملأ دنيا فاس وتشغل ناسها، وكان شيخها أحمد التجاني يومئذ ما يزال بقيد الحياة، وكان مقامه إذ ذاك بفاس، فلأجل ما كان يسمعه من الثناء عليه بكل لسان تردد عليه زائرا متبركا، ولكنه لم يأخذ عنه لأن همته كانت منصرفة إلى تحصيل العلم الذي اغترب من أجله، وكان دعاة التجانية يومئذ نشطين ملحين في اجتذاب الأتباع، وكان الشيخ أكنسوس وأمثاله من أهل الفضل ممن يعنيهم أن يكونوا في صفوف التجانية، فألحوا عليه في الانضمام إليهم حتى استجاب لهم وصار من أحسن الدعاة إلى الطريقة التجانية، ومن أقوى أنصارها والمدافعين عليها...[3]
شيوخه وتلامذته
ذكر الشيخ أكنسوس مشيخته في إجازة له بما نصه: "وقد اقتضى الحال أن أذكر جملة من مشايخنا الذين أخذنا عنهم مباشرة، ولازمناهم بالخدمة والمعاشرة، تبركا بذكرهم، ووفاء ببعض ما يجب من حقهم وشكرهم، فمنهم:
- الشيخ النحرير العلامة الحاج المرابط أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الناصري.
- ومنهم شيخنا العلامة القدوة المتبحر، المؤلف الناظم الناثر أبو الفيض حمدون بن عبد الرحمن المرداسي الفاسي.
- ومنهم شيخنا العلامة المتفنن في جميع العلوم أبو عبد الله محمد بن عمرو الزروالي الفاسي.
- ومنهم شيخنا العلامة صاحب التآليف العديدة، القاضي أبو عبد الله محمد بن منصور الشفشاوني الفاسي.
- ومنهم العلامة القاضي أبو العباس أحمد بن الشيخ التاودي ابن سودة المري الفاسي.
- ومنهم الشيخ عبد السلام الأزمي الفاسي.
- ومنهم الشيخ أبو محمد عبد القادر بن أحمد الكوهن الفاسي.
- ومنهم الشيخ محمد المكي السراغني المراكشي المعروف بابن مريدة.
- ومنهم الشيخ الحاج عبد الله السكياطي الشياظمي.
- ومنهم الشيخ الحاج التهامي الوبيري الحمري. إلى آخرين ممن شاركناهم في الأخذ عن جل المذكورين من الفاسيين...".[4]
ويأتي في صدارة من أخذ عنه:
السلطان العلوي محمد الرابع، ونجل المترجم عبد الله، وإدريس بن الطيب بن اليماني، والصوفي المشهور العربي ابن السايح، وبعدهم محمد بن المعطي السرغيني المراكشي، ومحمد بن أحمد أزنيط، وسعيد العسري، وسعيد بن محمد أجيمي، وعبد الله بن وقاص. ومن السوسيين: الحسن بن الطيفور، وعبد الله بن محمد الأدوزي، وعبد الكريم بن عبد الرحمن الكرامي، وأحمد بن محمد الحسيني الطاطائي، والحاج الحسين بن أحمد الإفراني، وسعيد العباسي الدراركي، وعبد الكريم التناني...[5]
مؤلفاته
ترك الشيخ أكنسوس آثارا كثيرة، منها:
- الأجوبة التونسية.
- وتأليف في علم الكيمياء.
- وتحقيق القاموس المحيط.
- وتصحيح الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم.
- والجواب المسكت، كتبه دفاعا عن الطريقة التجانية وردا على الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن المختار البكاي فيما قاله بشأنها وشأن شيخها. طبع بالمطبعة التونسية الرسمية عام 1307ھ، في زهاء 40 صفحة من قطع الوسط ثم طبع ثانية بالجزائر سنة 1913م.
- والجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي، كتبه بإشارة من السلطان المولى محمد بن عبد الرحمن وبتأكيد من وزيره أبي الثناء محمد الطيب بن اليماني. يوجد الجيش مخطوطا في عدة مكتبات عامة وخاصة، وطبع على الحجر بفاس بتصحيح عبد الكريم بن العربي بنيس عام 1336ھ، وحققه حفيده العلامة سيدي أحمد أكنسوس، وطبعه ولده سيدي يوسف سنة 1994م.
- وحسام الانتصار في وزارة بني عشرين الأنصار.
- والحلل الزنجفورية في أجوبة الأسئلة الطيفورية: طبعت الحلل الزنجفورية بالمطبعة التونسية الرسمية سنة 1312ھ، في زهاء 60 صفحة من القطع الوسط.
- وخمائل الورد والنسرين في بيت أبناء عشرين.
- والديوان.
- والرسائل.
- ورسائله إلى الوزير محمد العربي الجامعي في مجموع خاص.
- وشرح على قصيدة الزياني في مسألة قطع الفتوى بفاس ونواحيها.
- وطرر على الكتب، وكناش، ذكره أحمد سكيرج في الربع الأول في رفع النقاب (ص. 171). - والمقامة الكنسوسية، وهي مقامة طويلة النفس تتألف من 475 قرينة تتخللها أشعار عدة أبياتها 84 بيتا.[6]
وفاته
توفي الشيخ محمد أكنسوس في يوم الثلاثاء 29 من محرم عام 1294ھ/14 يناير عام 1877م، وجعل مدفنه بمقبرة السهيلي وعلى مقربة من ضريحه خارج باب الرب أحد أبواب مراكش القديمة في الجنوب الشرقي منها، وكان يوم دفنه يوما مشهودا.[7]
الهوامش:
[1]- كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب، أحمد بن الحاج العياشي سكيرج، ط: 1381ھ-1961م، 4/38.
[2]- معلمة المغرب، 2/632.
[3] - المصدر السابق، 2/632. بتصرف.
[4] - نفسه، 2/632.
[5] - نفسه، 2/632.
[6] - نفسه، 2/634.
[7] - نفسه، 2/634.