مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

محتسب العلماء والأولياء الشيخ أحمد زروق البرنسي (846 – 899ﮪ)

كريمة بنسعاد                                                                                                        باحثة مساعدة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، بوجدة.

 مَهّد لعصر التصوف في البلاد، وارتشف من كأسه الكثير من العُبّاد، وانتهج طريقه العديد من العِباد، دعا إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، بقدر ما سعى إلى الجمع بين الفقه والتصوف، وذلك على بساط الأصلين: الكتاب والسنة، فكان محدثا فقيها، وعالما وجيها، جال في معاني العلوم ودقائقها، وغاص في خبايا المعارف وحقائقها، وهو الذي بالعلم اكتسب، وعلى الله احتسب، فكان ربانيا بطبعه، وصوفيا بوجدانه.

 إنه شيخ ومؤسس الزاوية الزروقية :” أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي … والملقب بالشيخ زروق، ولد بفاس عام (846ﮪ)”،[1] وهو من قبيلة البرانس، عاش يتيم الأبوين منذ الأسبوع الأول من ولادته، وقد فُطم على العلم والصلاح والتقوى على يد جدته، التي كفلته ماديا ومعنويا، وهي الفقيهة الصالحة أم البنين، حفظ القرآن وهو ذي العشر سنوات، وبعد وفاتها تعلم واشتغل بحرفة الخرازة لكسب قوته، ولما بدأ يشتد عوده، التحق بجامعة القرويين طلبا للعلم حيث “…أتقن العلوم الشرعية وجلس للوعظ والإرشاد، وروى الحديث عن مجموعة من المشايخ منهم: الثعالبي، وإبراهيم التازي والسنهوري…”.[2]

 “كان سيدي أحمد زروق رضي الله عنه، قد توغل في التصوف، وصحب جماعة من المشايخ وسلك الطريق، وتزهّد وتنسّك وسلك سبيل المجاهدة والرياضة، وانقطع لخدمة العارف محمد الزيتوني..، فكان عالما محققا، ورعا زاهدا، شديد النكير على البدع، آية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقافا عند حدود العلم وأحكام الشرع وآدابه”،[3] حتى قال عنه المناوي :”عابد من بحر الغيب يغترف، وعالم بالولاية متصف، تجلى بعود القناعة والعفاف، وبرع في المعرفة والفقه والتصوف والأصول والخلاف، خطبته الدنيا فخطب سواها، وفُرضت عليه المناصب وردها وأباها”.[4]

فلقد سلك وأخذ علم التصوف، على يد الشيخ عبد الله المكي الشاذلي، وعن الشيخ محمد قاسم القوري (ت872ﮪ)، هذا الأخير كان”… أبعدهم أثرا في روحه وفكره، وأحمد بن سعيد المكناسي(870ﮪ)، والشيخ محمد عبد الله الزيتوني(ت901ﮪ)… والذي توغل في محبته واجتهد في خدمته ولازمه في حضره وسفره”،[5] وممن أخذ عنهم  أيضا نذكر: “الشيخ أحمد السلوي، والعيدوسي… أما الحديث فعن السخاوي(ت913ﮪ)، وأما الفقه فعن النور السنهوري”.[6]

اشتهر الشيخ أحمد زروق بكثرة السياحات والرحلات العلمية، سعى من خلالها لطلب العلم ونشره، فكانت أطولها الرحلة الحجازية التي دامت سبع سنين، وقد أخذ العلم عن كبار العلماء والمشايخ المشارقة هناك، ومن بينهم الفقيه أحمد بن عقبة الحضرمي(ت895 ﮪ)، الذي نصحه بالرجوع إلى المغرب قصد استكمال طريقه، إلا أنه حين عودته إلى المغرب وجد البلاد في حالة من الاضطراب والفتنة، فتحركت عنده بوادر الدعوة ومحاربة البدع، فبدأ بحركة الإصلاح الدينية على مستوى جميع فئات المجتمع الفاسي، حيث كان له الدور الكبير في تلاحم كلمة علمائها، ووحدة طلابها ومريديها، وبعد ذلك، أخذ يشتغل بالتدريس خلال إقامته بفاس، فأثرى أهلها بثروته العلمية، وبتجاربه الروحية الصوفية، الممثلة في مؤلفات وشروح ومصنفات نفيسة، وعلى رأسها كتاب«قواعد التصوف»، “…وهو تأليف نفيس ضمنه زروق عصارة ثقافته الواسعة وزبدة تجربته الروحية وخلاصة آرائه الإصلاحية..، يبسط برنامج مدرسة صوفية… ويدعو إلى نهضة علمية وتعليمية في مضمار التصوف المغربي”.[7]

كما أن له العديد من المؤلفات أيضا: «كالنصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدع بالسنة»، «وحزب البركات»، وشرح «دلائل الخيرات»، وديوان شعر، وكتاب «الجامع لجمل من الفوائد والمنافع»، وكتاب:«عدة المريد الصادق»، بالإضافة إلى الوظيفة الزروقية، كما له شروحات كثيرة منها: “شرح «مختصر خليل»، و«شرح القرطبية»، و«شرح العقيدة القدسية» للغزالي وغيرها، إضافة لرسائل كثيرة احتوت على العديد من اللطائف والرقائق والنوادر الصوفية.

لقد كانت عودة الشيخ أحمد زروق لفاس عودة محمودة، وقد أصاب في توجيهه بذلك الفقيه عقبة الحضرمي، حيث عاد حاملا معه الخير الكثير والعلم الغزير، فرجع “… وفي جعبته بالإضافة إلى أسانيده العلمية والصوفية العالية ثمانية شروح على الحكم العطائية وكتاب «النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية» الذي ألفه بجامع الأزهر والذي يعتبر من أكثر مؤلفاته شيوعا وتداولا بين الناس، وكتاب «الجامع من الفوائد والمنافع»…مما جعل طلبة الفقه ومريدي الفقر يهرعون نحوه للكروع من حياض علمه الظاهر والباطن، وتشوفهم إلى تحصيل أسانيده العلمية والصوفية الرفيعة، من الفاسيين وغيرهم، كما اتصل به رجال الطوائف الصوفية وقدموا إليه من مختلف أصقاع البلاد”.[8]

وهكذا اعتُبر الشيخ زروق سفير علوم القوم، وممن أحيوا معالم الطريقة الشاذلية، فكان حيثما حل ببلاد أو ارتحل إلا وأثرى أهلها بعلومه وعوارف دينه، تاركا بصماته الخالدة وآثاره، يقول أحمد درنيقة: “…كان يدرس في الجامع الأزهر، وكان يحضر دروسه أكثر من ألفين من الطلاب والعلماء، ولا يزال كرسيه محفوظا إلى الآن بالأزهر برواق المغاربة”،[9] فمن بين الطلاب والتلاميذ الذين تتلمذوا على يده وأخذوا عنه هناك: أحمد المنجور(955ﮪ)، والعالم محمد بن عبد الرحمن الحطاب(945ﮪ)، وعبد الرحمن القنطري(956ﮪ)، وعلي الخروبي الطرابلسي(963ﮪ)، ومحمد أبو الفضل خروف التونسي(966ﮪ)…وغيرهم.

أما عن حقيقة التصوف وضرورة الجمع بينه وبين الفقه، يقول شيخنا أحمد زروق: “لا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه ولا فقه إلا بتصوف إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه لله تعالى. ولا هما- التصوف والفقه- إلا بالإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه”،[10] و”اعلم أن الفقه والتصوف أخوان في الدلالة على أحكام الله سبحانه، إذ حقيقة التصوف ترجع إلى صدق التوجه إلى الله من حيث يرضى بما يرضى”،[11] ويقول أيضا :” التصوف لا يعتبر إلا مع العمل به، والاستظهار به دون عمل تدليس وقد قيل العلم يهتف بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل”.[12]

إنه مبدؤه الصوفي الذي يجعل الفقه والأصول فيه شرطين واجبين لكمال علم التصوف، إذ لا يمكن التخلي عنهما بتاتا، حيث يقول: “وأصول القوم مبنية على الكتاب والسنة…ثم الفقه والأصول شرط فيه، والمشروط لا يصح بدون شرطه “.[13]

إن مكانة الشيخ أحمد زروق العلمية بالإضافة إلى المكانة الصوفية، جعلته في مصاف المجتهدين والغير مقلِّدين بالرغم من التزامه بالمذهب المالكي، “…فهو لا يتقيد بالحكم والدليل، وله اجتهادات وتخريجات من كل ما كتب، حيث امتاز بربطه الفقه بالحياة، وبناؤه التصوف على أساس الفقه وتنقية التصوف من الشعوذة، وربط العلم بالعمل… أما طريقته فبنيت على خمس: “تقوى الله في السر والعلانية، واتباع السنة في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرضا عن الله في القليل والكثير والرجوع إلى الله في والسراء والضراء”.[14]

لقد كان الشيخ زروق صَفوة الصفوة من العلماء والصوفية الفقهاء في عصره، حيث اشتغل بالتصوف وحارب البدع، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر بميزان الشرع، لذلك لقبه كثير من العلماء بمحتسب العلماء والأولياء، بعدما تحققوا من رسوخ قدمه في الفقه، وعلو مقامه في التصوف، وصلاح تقواه وزهده، وتشبثه بأصلي الدين :الكتاب والسنة.

 يقول الشيخ زروق:

           هذا التصوف علم لا يدركـــــــه                إلا ذكي الحجا بالجود موصـوف                                  يرضى القليل من الدنيا ويبذلهـا                 عند الوجود بتقوى الله معروف”[15]

ونختم سيرته الطيبة ببعض النصائح والحكم الصوفية التي جمعها في كتاب يعد من بين أحسن  وأشهر التآليف التي تركها، وقد سماه بقواعد التصوف، خاصة حينما رأى دعاة التصوف في الأقطار الإسلامية لا يعرفون من التصوف إلا السبحة ولبس المرقعات فأراد أن يصل إلى مراده ويضع هذا الكتاب ك”تمهيد لقواعد التصوف وأصوله على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة ويصل الأصول والفقه بالطريقة”،[16] فمن تلك القواعد نذكر قوله في:

القاعدة 2: التصوف صدق التوجه إلى الله تعالى.

القاعدة 5: أصل التصوف مقام الإحسان، الذي فسره رسول الله عليه الصلاة والسلام” أن تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك…فالتصوف أحد أجزاء الدين، الذي علمه عليه الصلاة والسلام جبريلَ ليتعلمه الصحابة رضي الله عنهم.

القاعدة 11: أهليَّة التصوف لِذِي توجه صادق أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو طالب منصف، أو عالم تقيده الحقائق، أو فقيه يقيده الاتساع.

القاعدة 13: التصوف علم قُصِد لإصلاح القلوب.

توفي الشيخ أحمد زروق رحمة الله عليه عام(899ﮪ) بمدينة مصراته بليبيا، البلد الذي أنشأ فيها الزاوية الزروقية، حيث دُفن هناك، ولجلالة قدره وكفاءة عِلْمِه، بُني له مسجد باسمه، قرب ضريحه رحمة الله عليه.

الهوامش:

 

[1] – ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، عبد الله كنون، رتب تراجمه: محمد بن عزوز، ط1/2010م، دار ابن حزم- لبنان، 1/541.

[2] – الطريقة الشاذلية وأعلامها، أحمد درنيفة، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، ط 2009،ص ص: 88-89.

[3] – المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي (950ھ)، دار الأمان للنشر والتوزيع، ودار البشائر الإسلامية، الرباط، ط 4/2003، ص:148.

[4] – الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، عبد الرؤوف المناوي، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، ط1/2008، دارالكتب العلمية-لبنان، ص:2/360.

[5] – معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا،:2005، 14/4628.

[6] – الكواكب الدرية، ص ص :2/360-361.

[7] – معلمة المغرب، ص: 14/.4629     

[8] – معلمة المغرب، 14/4629.

[9] – الطريقة الشاذلية، ص:89.

[10] – المرجع السابق، ص:91.

[11] – عدة المريد الصادق، أبي العباس أحمد زروق الفاسي، ضبطه عاصم إبراهيم الكيلاني، دار الكتب العلمية- لبنان، ط1/2007م، ص:20.

[12] – الكواكب الدرية، ص: 2/363.   

[13] – عدة المريد، ص ص:19-21.

[14] – قواعد التصوف، أحمد زروق الفاسي، تحقيق الشيخ عثمان الحويمدي وحسن السماحي سويدان، ط1/2004، دار وحي القلم- لبنان،: ص ص: 12-13.

[15] – ذكريات مشاهير رجال المغرب، 1/578.

[16] – قواعد التصوف، ص:9.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق