الرابطة المحمدية للعلماء

لماذا توقف العقل الإسلامي اليوم عن الإبداع والابتكار؟

فلسفة المنهج في الفقه الإسلامي من علوم الفقه إلى فقه العلوم

استطاع العقل الإسلامي قديما أن يبدع آليات فكرية ومنهجية وأن يحدث بالفعل ثورة علمية في شتى العلوم والمعارف، لكن لماذا توقف هذا العقل عن الابتكار والإبداع في عصرنا الحديث؟ ذلك هو الإشكال المعرفي الذي أثاره الدكتور إدريس نغش الجابري في محاضرة ألقاها في رحاب دار الحديث الحسنية يوم الأربعاء الماضي 26 نونبر 2006 وترأسها الدكتور أحمد الخمليشي مدير المؤسسة.

قال الجابري، إن محاضرته ليست للإجابة عن هذا التساؤل، وإنما هي تحريض موجه للطلبة الباحثين للتعاطي معه في بحوثهم وأطروحاتهم الجامعية، في إطار مشروع فكري كبير وجهد متكامل، لعلهم يكتشفون أسباب المأزق المعرفي والمنهجي الذي يتخبط فيه العقل الإسلامي المعاصر.
وانكب المحاضر على بحث مراحل هامة في تاريخ العلوم الإسلامية لتسليط الضوء عن تلك المناهج والآليات التي اشتغل بها وعليها الأوائل في تطوير العلوم الإسلامية سواء في الفقه أو الحديث أو علم الأصول.

وقبل تسجيل النتائج العلمية أو المنهجية التي توصل إليها علماء المسلمين القدامى، قام المحاضر بوضع تحديدات دلالية لبعض المصلحات الأساسية في المحاضرة، مثل الفلسفة والمنهج والفقه. هذا الأخير مثلا، يقول الدكتور إدريس نغش الجابري، له ثلاث دلالات في الحقل المنهجي عند المسلمين، فهو أولا يعني النظر في الأحكام الفرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، ثم ثانيا يحمل معنى أصوليا استدلاليا ومنهجيا، ثم ثالثا يمكن النظر إليه من زاوية تاريخية بتتبع خصائصه المنهجية. وبذلك يكون الفقه الإسلامي هو علم في الآلة، أو هو آلة المسلمين في الاشتغال. هذه الدلالات المستقاة من معنى الفقه هي، حسب المحاضر، نفسها الدلالات التي تشتغل عليها فلسفة العلوم، حيث تشتغل على ثلاث واجهات: الدراسة الوصفية والدراسة التحليلية والبحث النقدي.

وذهب المحاضر إلى أن هناك مسلمة منهجية واضحة تقررت عبر تاريخ الفكر الإسلامي وهي أن علم المنهج يكاد يكون مرادفا لعلم أصول الفقه، وهي مسلمة تؤكد أن المسلمين الأوائل، منذ العهد النبوي وانطلاقا من أن الوحي كان هو أصل المنهج عندهم، قاموا بممارسات منهجية في حياتهم، هي نفسها تبلورت فيما بعد في رسائل وكتب علم أصول الفقه وغيره من العلوم.

وحسب النظرية العلمية في الإسلام، فإن العلم أصبح مفهوما تداوليا وليس صوريا كما كان في الفلسفة المشائية القديمة، بمعنى تصور الشيء في الذهن، أما عند المسلمين فأضحى هو الاعتقاد الصادق الجازم المطابق للواقع. وبهذا المفهوم العملي للعلم، فإن المنهجية الإسلامية، حسب المحاضر، سبقت الفيلسوف “كانط” الذي دعا فيما بعد إلى نبذ الصورية والتوجه بالفكر إلى مجال الأخلاق الواقعية والمعارف العلمية.

وذكر “إدريس نغش الجابري”، وهو أستاذ بدار الحديث الحسنية، أن النظرية المنهجية الإسلامية كانت لها أربع خصائص وهي:
1 ـ انفتاح العقل الفقهي الإسلامي على باقي العلوم، مما تمخض عنه منهج تجريبي تجلى بشكل واضح عند ابن الهيثم، الذي استفاد من العقلية الإسلامية الأصولية والفقهية وأبدع في مجال العلوم التجريبية.
2 ـ بنية الفهم الشرعي للخطاب: وهي توصف بكونها بنية علمية تداولية، فكان هناك المقدم وهو الوحي أو النصوص الدينية من قرآن وحديث، وهناك التالي وهو دلالة الخطاب، وبينهما سلسلة منهجية من القواعد، مثل القواعد اللغوية والنسقية والوظيفية. وبفضل هذه الآليات الفكرية تم إحداث ثورة علمية حقيقية في الفقه الإسلامي بمعناه الواسع.
3 ـ خاصية التكامل العلمي أو الشمولية: وأصبحت العلوم خلالها تكاملية، كل علم يستفيد من الآخر، ويبني كل علم مقدماته انطلاقا من نتائج علم آخر. وهكذا بحث العقل الإسلامي في كثير من المواضيع تهم الإنسان والعقائد والطبيعة، ووضع لكل علم شروطه الخاصة ومناهجه المستعملة، وتنوعت بين التجريب والتدبر والنظر وغيرها من آليات التفكير.
4 ـ وحدة العقل مع النقل: وظهر فيها تصوران الأول يقول بالتعارض، والثاني يدعو إلى التوافق بين السمع والعقل.

وانتهى المحاضر إلى أن هذه الخصائص أدت إلى نتائج هامة في الفكر الإسلامي، حيث أحدثت ما سماه بـ”فتوحات منهجية” لم يسبق إليها العقل الإنساني فيما سبق، وخلق طرقا استدلالية جديدة سواء على مستوى التجريب أو الاستقراء. وأدت أيضا إلى ازدهار كبير للمنهج النقدي للنصوص الدينية خاصة في مجال توثيق الخبر، كما أدت إلى “حفظ الذمة الحضارية”، حيث برهن المسلمون على أمانتهم العلمية في نقل الحضارات الإنسانية الأخرى، والتحري في ترجمتها الدقيقة من لغتها الأصلية إلى العربية لغة العلم وقتها.
وفتحت محاضرة الدكتور إدريس نغش الجابري إشكالا معرفيا في وجه الباحثين عموما بغية الإجابة عن تساؤل بات يأرق ويستفز العقل الإسلامي المعاصر وهو: لماذا عجز عقل المسلمين اليوم عن الإبداع والابتكار واستكان إلى استهلاك ما أنتجته عبقرية المسلمين الأوائل؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق