وحدة الإحياءدراسات عامة

كيف يكون اللقاء بين العلم والدين؟

السؤال المحوري الذي يسكن هذه المساهمة التي يطرحها الكاتب للنقاش هي الآتي: هل هناك مشكلة، فعلية أو حتى كامنة، بين العلم والدين حتى نضطر إلى مناقشة طرق اللقاء أو الحوار بينهما؟ ويؤكد الكاتب أن السبب الرئيسي الذي يجعل كثيرا من العلماء يصرّون على فصل العلم عن الدين والتأكيد على “الاستقلالية” لكل منها، هو التخوف من الخلط بين المنهجين، كما يدعو إلى إيجاد مساحة للحوار والتعاون بين الدين والعلم.

كتب فيلسوف الحضارة الإسلامية الكبير ابن رشد في رائعته “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” عن العلاقة بين الدين والفلسفة (وهو ما ينطبق على العلم اليوم)، وقد نظر إلى الموضوع من زاوية شرعية وعقلية في آن واحد، فقرر أن الحكمة هي “صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة” لها، وهما “المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة…”.

عندما نشرت المحاضرات التي ألقاها كارل سيغن Carl Sagan في سلسلة غِفٌرد Gifford (نشرت مؤخرا في كتاب تحت عنوان “تجارب الإنسان مع العلم”The Varieties of Scientific Experience, 2006)، تكلم بإسهاب عن العلاقة بين الدين والعلم، وهو ملحد ليّن، فقال عن الممارسة العلمية أنها “عبادة عارفة”. وفي مقدمة الكتاب، قالت عنه زوجته (الكاتبة آن درويان Ann Druyan) أنه لم يفهم يوما لماذا يراد الفصل بين العلم، الذي هو طريقة للبحث عن الحقيقة، وبين كل ما نعتبره مقدّسا، وهو كل الحقائق التي تلهمنا الخشوع والشغف. وأضافت: “لم تكن مشكلته مع الله، بل مع الذين يعتقدون أن فهمنا لما هو مقدس قد اكتمل”.

إذن، هل هناك مشكلة، فعلية أو حتى كامنة، بين العلم والدين حتى نضطر إلى مناقشة طرق اللقاء أو الحوار بينهما؟ أولا: لا يتفق كل العلماء والمفكرين حول التناغم الذي أشار إليه ابن رشد وكارل سيغن. وثانيا: تظهر المشكلة عندما نحاول البحث في “دائرة التأثير” (أو الاختصاص، أو الفعل) لكل منها.

يعتبر البعض أن العلم والدين رؤيتان للعالم، كلاهما يقدم وصفا للحقيقة وتفسيرا للوجود، لذلك فهما في اعتقادهم في تنافس على الأذهان. يجب التوضيح أن ما نعنيه اليوم بمصطلح “العلم” في هذا السياق هو العلم الحديث؛ أي ذلك المنهج وتلك المجموعة من الآليات التي نحاول بها تفسير الطبيعة وظواهرها، وليس مجمل المعرفة الإنسانية كما كان يقصد باللفظ قديما. يقول فريمن دايسن Freeman Dyson (وهو عالم وفيلسوف معاصر كبير) أن الدين “جزء أساسي في التجربة الإنسانية، أكثر تجذرا وأوسع انتشارا من العلم”. وإن أكثر ما يجعل الدين والعلم يتنافسان على أذهان البشر أن كلا منها يعلن أنه مصدر للمعرفة، بل ربما مصدر المعرفة (كلها)!

إن الدين والعلم نظامان مختلفان من المفاهيم، ولذلك فمن الضروري جدا أن نفهم الفرق بينهما، وكذلك المساحة التي يتداخلان فيها، والطرق الصحيحة التي تسمح لهما بالتفاعل بشكل مُثرٍ. وقد تحوّل موضوع العلاقة الممكنة بين الدين والعلم إلى مجال أكاديمي تخصصي في الغرب، حيث تدرس جوانبه المختلفة. وربما صار أشهر تصنيف للعلاقات الممكنة بين الدين والعلم هو ما وضعه إيان باربر Ian Barbour، الذي رأى أربع حالات ممكنة: الصدام، أو الاستقلال، أو الحوار، أو الاندماج. واقترح آخرون (من أمثال دايسن وغولدGould ) “التكامل” (مع الفصل).

وهناك مقترحات أخرى مثيرة وجديرة بالاهتمام، مثل “اللاهوت الطبيعي” (الذي عوّض “اللاهوت العقلي” الفلسفي الكلاسيكي)، حيث يتم البحث عن أدلة لوجود الله وفعله من خلال الطبيعة وظواهرها، و”اللاهوت العلمي” الذي يصبو إلى تطبيق المنهج العلمي الصارم في علم اللاهوت، و”المعلومات الروحية”، وهي دراسة علمية للظواهر الإيمانية، وغير ذلك.

وربما كانت الفكرة الأكثر انتشارا بين العلماء اليوم هي ما يسمّيه دايسن بـ”التكامل”، وهي فكرة شبيهة بما وصف به الفيزيائي الشهير نيلس بور Niels Bohr الضوء (باعتباره “تكاملا” بين صفته الموجية وصفته الجسيمية، وكذلك الإلكترون والعالم الذري كله) ثم عمم الفكرة إلى مجالات إنسانية أخرى فقال أنه مثلما يوجد تكامل بين العدل والرحمة، وبين الشكل والمحتوى (في الأدب والفنون)، وبين الفكر والإحساس (في علم النفس)، فثمة تكامل بين الدين والعلم.

وإن السبب الرئيسي الذي يجعل كثيرا من العلماء يصرّون على فصل العلم عن الدين والتأكيد على “الاستقلالية” لكل منها، هو التخوف من الخلط بين المنهجين، مما يؤدي لا محالة إلى أخطاء جسيمة تخرّب هذا وذاك. لا شك أن هذا الخطر وارد، بل قائم، ولكن هذا لا يجب أن يدفع بنا إلى موقف متطرف معاكس.

فإننا نجد كثيرا من العلميين المتصلبين لا يرفضون فقط أي تعاون بين الدين والعلم، بل منهم من يصرّ على أن لا فائدة من الدين أبدا وأن العلم قادر، في آخر المطاف، إن لم يكن اليوم، على تفسير كل شيء. هذا المبدأ أو المذهب هو ما يسمى بـ “العلماوية” scientism، وقد وصف بـ”لاهوت علماني متعجرف”. ولكن دراسة علماء الاجتماع لمسار العلم الحديث قد بيّنت كثيرا من العيوب، بل من الجرائم، في سجل العلم، مما يحرمه من أن يدّعي حق تسيير الفكر والنشاط البشري.

أما في العالم الإسلامي، فلا نجد مثل هذه التصنيفات للعلاقة بين الدين والعلم. ولكننا نجد اقتراحات لإدماج العلم ضمن النظرة الإسلامية للعالم، تشمل “العلم المقدس” (فلسفة سيّد حسين نصر وجماعته)، و”العلم النافع والأخلاقي” (توجه ضياء الدين سردار والإجماليين)، و”العلم الديني” (مهدي غلشاني)، وحتى “العلم العالمي” (المتجرد من أي صفة اجتماعية أو ثقافية، وهو طرح عبد السلام الباكستاني وتلامذته).

ولكن ما نجده للأسف على أرض الواقع بعيد عن هذه الطروحات العالية. إننا نجد خلطا وعدم فهم كبيرين للدور المشترك للعلم والدين في المجتمع. وسأتطرق إلى هذه الإشكالية في مقالات قادمة (وكتاب أعده حاليا) إن شاء الله، ويكفي الآن أن أقول إنه عندما يحوّل البعض الآيات القرآنية إلى معادلات تستخرج منها مقادير فيزيائية بالأرقام، فإنه يجب علينا النظر إلى هذا التطور بإمعان ناقد. وكذلك الأمر عندما ينتشر الإيمان اللاعقلاني وتربط شتى الأمراض والحالات الطبية بالظواهر والتأثيرات الروحية، يجب علينا النظر في أضرب الفهم (أو عدم الفهم) العلمي والشرعي الكامنة في تلك الطروحات.

وموقفي في مسألة العلاقة الصحيحة بين العلم والدين، هو الآتي: يمكن بل من الواجب إيجاد مساحة للحوار والتعاون بين الاثنين، ولكن بشروط هامة هي: أن منهجية العلم لا تقبل العبث أو حتى التفاوض، بينما فلسفته الأساسية  قابلة للإثراء أو حتى التعديل، بحيث يمكن أن يضاف للعلم تأطير ديني، كما يتم تأطيره اليوم بالمادية. يقول دايسن: يمكن للعلم والدين أن يتفاديا الصدام وأن يكونا محركين دافعين لتقدم البشرية روحيا وماديا بشرط أن يتخلى العلم عن أحلام السيطرة لديه وأن لا يكون أصحاب الدين “دوغمائيين”؛ أي (أجازمين ومتصلبين) وأن ينفتح كل واحد إلى ما تقدمه المجالات الإنسانية الأخرى (بما فيها الفلسفة والفنون وغيرهما).

أما فيما يخص ذلك الخلط السائد في المجتمعات (الإسلامية خاصة) حول ما يعتقد أنه مشترك بين العلم والدين، فأرى أن الحل يكمن في الفكرتين التاليتين:

1. ضرورة تدريس فلسفة العلم في الثانويات وفي الجامعات.
2. ضرورة تجنيد العلميين والفلاسفة والاجتماعيين المسلمين لرفع أصواتهم وتبيين الأخطاء المنهجية الجسيمة التي سقطت فيها شرائح واسعة من الناس، بمن فيهم كثير من المثقفين.

أود أن أختم بمقولتين وآيتين قرآنيتين. المقولة الأولى من كارل سيغن الذي كتب أن منهجية العلم الصارمة تفرض علينا الصدق وتبيان الحقيقة دوما، وسمّى ذلك بـ”قمة الانضباط الروحي”. والمقولة الثانية من الكاتبة الأمريكية مادلين لانغل Madeleine L’Engle (التي رحلت منذ سنة)؛ إذ كتبت: “عندما أبحث عن متصوفي القرن الواحد والعشرين لأستعين بهم في التأمل والتدبر، فإنني أتوجه إلى علماء الأحياء وفيزيائيي الفلك؛ لأنهم يبحثون في مسائل الوجود نفسه: ما هو الزمن، ما هو الخلق، ما هي الحياة؟”.
وأما الآيتان المفضلتان إلى قلبي وعقلي فهما:
﴿قُلْ سيرُوا فِي الاَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق﴾ ( العنكبوت: 19).
﴿اِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ، وَاخْتِلاَفِ الَيْلِ وَالنَّهَارِ ءلايَاتٍ لِّأُوْلِي الاَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ، فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (ءال عمران: 190-191).

د. نضال قسوم

بروفيسور في الفيزياء وعلم الفلك
الجامعة الأمريكية في الشارقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق