وحدة الإحياءدراسات عامة

قراءة معرفية في منهج التصنيف الأصولي عند المالكية

مفتتح 

أضحت الرسالة للإمام الشافعي المحور المركزي الذي تمحور حوله علم أصول الفقه، وانقسم العلماء حولها بين شارح[1] ومؤيد ومعارض، فاتخذها البعض قاعدة حجاج عن مذهبه، وفريق رفض معظم ما جاء فيها وانبرى لنقضه، وبقي الأمر كذلك حتى دخول القرن الرابع الهجري حيث بدأ ما يمكن اعتباره تطورا لعلم أصول الفقه، بعد وضعه وجمعه[2].

ففي هذا القرن نما أصول الفقه نموا نوعيا، واتضحت مباحثه، وتبلورت مسائله، ودخل في مرحلة جديدة مع أعلام أمثال القاضيين محمد الطيب ابن جعفر الباقلاني[3]، وعبد الجبار الهمداني، وأبي حامد الأسفراييني، وابن فورك الأصبهاني، وغيرهم كثير[4]. يقول الإمام الزركشي (94ﻫ): “.. حتى جاء الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، فاهتدى بمناره، ومشى إلى ضوء ناره، فشمر عن ساعد الاجتهاد وجاهد في تحصيل هذا الغرض السني حق الجهاد، وأظهر دفائنه وكنوزه، وأوضح إشارته ورموزه، وأبرز مخبآته وكانت مستورة، وأبرزها في أكمل معنى وأجمل صورة، حتى نور بعلم الأصول دجى الآفاق، وأعاد سوقه بعد الكساد إلى نفاق، وجاء من بعده، فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا حتى جاء القاضيان، قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسّعا العبارات، وفكّا الإشارات، وبيّنا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لاحِب نارهم، فحرروا وقرروا، وصوروا، فجزاهم الله خير الجزاء ومنحهم بكل مسرة وهناء…[5].”

وعلى العموم، ففي هذا القرن تم تدوين المصادر الأساسية للفكر الأصولي، “.. وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون، علماء الخامس الهجري كتاب “البرهان” لإمام الحرمين، و”المستصفى” للغزالي، وكتاب “العمد” لعبد الجبار، وشرحه “المعتمد” لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد الفن وأركانه[6].

ويؤكد هذا الأمر الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في بحثه الإحصائي قائلا: “… حظيت هذه الفترة بعدد كبير من أعلام الأصوليين ومجتهديهم من الذين توافرت جهودهم على التأليف في علم الأصول وإثرائه، فورثوا الأجيال اللاحقة فكرا أصيلا متميزا بالاستقلال والانطلاق، وكان الاختلاف على بعض الموضوعات كحجية الاستحسان… سببا في احتكاك الأفكار، وعاملا فعالا في تنشيط حركة النقد الذي كان عصب هذه الانطلاقة الفكرية في علم الأصول، تركز النقد الأصولي على الألفاظ والمعاني على السواء، خصوصا، بعد أن أصبحت المقاييس المنطقية الوسيلة التي يحتكم إليها في ضبط حقائق هذا العلم، وشرح قضاياه ومصطلحاته، وتنوع التأليف الأصولي في هذا العصر تنوعا لم يكن به سابق عهد، ظهرت فيه نواة التأليف في أصول الفقه المقارن. واتسع التأليف الأصولي لتجريد القضايا الأصولية الخلافية، وقد تضمن علم الأصول، إلى جانب موضوعاته الأساسية كثيرا من الموضوعات اللغوية والجدلية والكلامية، وتأثر تأثرا كبيرا بالمنطق والفلسفة. وتعد هذه هي الفترة الذهبية في تاريخ علم الأصول، فيها أنتجت الموسوعات العلمية الأصولية التي لا تزال المورد والمصدر في هذا العلم…[7].”

من خلال ما سبق يمكننا القول إنه منذ مطلع القرن الخامس الهجري عرفت مباحث علم أصول الفقه تطورا نوعيا، فتكامل نموه، وتبلورت مسائله، ودوّن الفقهاء أصول مذاهبهم ومناهجهم في الاستنباط، وتراكم التأليف في علم الأصول، وظهرت كتابات تتفاوت من حيث الإيجاز والإطناب، والتفصيل والاختصار.. يسود أغلبها -إن لم يكن كلها- على الرغم من تعدد الطرق والمناهج النزعة المذهبية[8].

وبعد الانعطاف الكبير الذي أحدثته مؤلفات القاضيين؛ عبد الجبار المعتزلي، وأبي بكر الباقلاني الأشعري، برزت بوادر ما يمكن تسميته بـ”ثورة منهجية كبرى” في مجال أصول الفقه، وخصوصا مع المبرزين في هذا الفن من أمثال: أبي المعالي الجويني[9]، وأبي حامد الغزالي[10] اللذين حاولا إعادة ترتيب أبواب أصول الفقه ترتيبا جديدا، والانتقال بهذا العلم نقلة نوعية تتمثل في مزجه بالقضايا الكلامية كما هو جلي في البرهان والمستصفى، بالإضافة إلى ترسيخ الطابع التجريدي العام لعلم أصول الفقه، كمنهج كلي استنباطي، يوجه الفروع الفقهية ويتحكم فيها وليس العكس، مع الالتزام بالاجتهاد والابتكار على مستوى المنهج والمضمون كما يظهر جليا في المستصفى[11].

بعد هذه الخلاصة المقتضبة عن تاريخ الفكر الأصولي، تلوح في الأفق جملة أسئلة حول حظ المالكية في تاريخ تطور علم أصول الفقه؟ وإسهامات علماء المذهب المالكي في هذا الجانب؟ وما صحة دعوى قصور إسهاماتهم في هذا الباب؟

التصنيف الأصولي عند المالكية

كان للبيئات العلمية والثقافية التي استقر فيها تلامذة الإمام مالك أثرها الواضح على الاهتمامات العلمية والفكرية لهم، وهكذا فمع تطاول الأزمان وظهور التصانيف غدا لكل أهل بلد من فقهاء المالكية ما يميزهم عن غيرهم من فقهاء المذهب، فاعتبر أهل كل بلد مدرسة مالكية ترفد المذهب بخصائصها وترجيحاتها والمعتمد من آراء رموزها[12].

والمتتبع لحركة تدوين علم أصول الفقه عند المالكية يرى أنها لم تتأخر في الزمن، بل بدأت في عصر مبكر حيث ظهر الاهتمام بأصول الاستنباط من خلال كتب الردود على المخالفين التي تناولت مسائل الخلاف، وما يستتبعها من قواعد الاستدلال والاجتهاد عموما.. فقد نسبت المصادر كتبا وبحوثا في الأصول إلى كل من: أصبغ بن الفرج المصري (توفي 225ﻫ)، ومحمد بن سحنون القيرواني (توفي 256ﻫ)، وقاسم بن محمد القرطبي (توفي 278 ﻫ)، والقاضي إسماعيل البغدادي (توفي 282ﻫ)، ويحيى بن عمر الكناني (توفي 289ﻫ)، وزكرياء بن يحيى الكلاعي (توفي 300ﻫ).

وفي القرن الرابع نما علم الأصول عند المالكية، واتسعت آفاقه، وبرزت نظرياته[13]، فظهر إنتاج غزير ينم عن مقدرة وطول باع في مقاربة وسبر أغوار المسائل الأصولية والقضايا الاستدلالية، واستطاع علماء المذهب وضع ملامح حقيقية لهذا الفن قائمة على أصول إمام دار الهجرة، على مستوى المنهج والمضمون معا، وهنا نذكر مصنفات كل من الإمام أبي الحسن عمر بن محمد الأزدي (توفي 328ﻫ)، وأبي بكر محمد بن الوراق (توفي 329ﻫ)، وأبي عبد الملك القرطبي (توفي 330ﻫ)، وأبي بكر محمد الأبهري (توفي 375ﻫ)، وأبي عبد الله محمد بن خويزمنداد (توفي 390ﻫ)، وأبي الحسن ابن القصار (توفي 397ﻫ).

وبدخول القرنين الخامس والسادس الهجريين تزداد عناية المالكية بالتصنيف في علم الأصول؛ “إذ نجد ثلة من العلماء الذين أسهموا في رفع صرح هذا العلم، بتوسيع عباراته، وفك إشاراته، وبيان إجماله، ورفع إشكاله، أمثال الفقيه الأصولي أبي جعفر أحمد الداودي (توفي 402ﻫ)، والإمام الأصولي الكبير أبي بكر الباقلاني (توفي 403ﻫ)، والفقيه القرطبي أبي عبد الله محمد ابن الفخار (توفي 419ﻫ)، والفقيه الأصولي أبي محمد عبد الوهاب البغدادي (توفي422 ﻫ)، وأبي عمر أحمد الطلمنكي (توفي 429ﻫ)، وأبي مروان عبد الملك القرطبي المعروف بابن المش (توفي 436ﻫ)، ومجدد أصول الفقه في الغرب الإسلامي أبي الوليد سليمان الباجي (توفي 474ﻫ)، وولده أبي القاسم أحمد الباجي (توفي 493ﻫ)… وفي القرن السادس الهجري نجد مؤلفات الفقيه الأصولي أبي بكر الطرطوشي (توفي 520ﻫ)، والإمام المتكلم أبي عبد الله المازري (توفي 536 ﻫ)، والقاضي أبي بكر بن العربي المعافري (توفي 543ﻫ)، والحافظ أبي محمد عبد الله الشلبي (توفي 551ﻫ)، وقاضي الجماعة بمراكش أبي الحسن علي بن أبي القاسم المعروف بابن أبي جنون(توفي 577ﻫ)، والفقيه الأصولي الفيلسوف ابن رشد الحفيد (توفي 595ﻫ)، وأبي بكر محمد بن أبي جمرة المرسي(توفي 599ﻫ)[14].”

كل هؤلاء الأعلام خلفوا مصنفات تنطق بالإبداع والتجديد والتبحر في مختلف مسائل هذا العلم، وهي كلها مصنفات أضحت مصادر للمعرفة الأصولية، فكرا ومضمونا ومنهجا، ليس في المذهب المالكي فحسب، بل في جميع المذاهب الفقهية.

حتى إذا جاء القرن السابع الهجري نجد أن فن أصول الفقه عند المالكية قد دخل مرحلة جديدة سمتها النضج والتفنن في ابتكار طرق ومناهج جديدة لصياغة قواعده، فبرزت ثروة أصولية قيمة أخذت مكانها داخل مدونات هذا العلم، ومن رجالات هذه المرحلة ابن شاس محمد جلال الدين (توفي 616ﻫ)، وابن القطان الفاسي (توفي 628ﻫ)، وابن رشيق (توفي 632ﻫ)، والإمام ابن حاجب (توفي 646ﻫ)، والإمام الأصولي أحمد بن إدريس القرافي (توفي 684ﻫ) وغيرهم.

وبحلول القرن الثامن الهجري يوقّع المذهب المالكي على طفرة غير مسبوقة في المعرفة الأصولية: “… فقد شهد هذا القرن نقلة حقيقية وتطورا مهما في علم الأصول، حيث تنوعت أساليب البحث ومناهج التأليف فيه… تحلق بالمنتهي في رحابه إلى تجديد وابتكار في العلم، وطرق أبواب طريفة غفل عنها المتقدمون، فتفتقت عنها عبقرية الإمام المغربي الفذ أبي إسحاق الشاطبي…[15]“.

ولا يعني ذلك أن هذا القرن لم يعرف غير الشاطبي، بل نجد مصنفي هذا القرن جاوزوا العشرين عالما من أبرزهم ابن دقيق العيد (توفي 702ﻫ)،  وابن البناء المراكشي(توفي 721ﻫ)، وأبو القاسم ابن الشاط السبتي (توفي 723ﻫ)، وابن جزي الغرناطي(ت741ﻫ)، والشريف التلمساني (توفي 771ﻫ).

ومنذ القرن الثامن الهجري إلى اليوم عرف المالكية ظهور مصنفات من نوع آخر في المعرفة الأصولية، حيث ولعوا بالمختصرات والمتون والمنظومات شرحا، وتعليقا، ودرسا، دون أن لا ننسى الحواشي، والطرر، والتقاييد، ومجالس المذاكرة، همّت مصنفات علماء المذهب المالكي، وغيره من الذاهب كما هو الشأن بالنسبة لورقات إمام الحرمين التي تلقفها مالكية الغرب الإسلامي بالشرح والدرس والمذاكرة.

بعد هذا العرض الموجز والمختصر عن مصنفات المالكية في علم الأصول أجدني لا أتفق من كل من ينعت المدرسة المالكية بالقصور وضعف النظر والتأليف في هذا الفن، كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون وغيره من علماء الأمة[16]؛ لأن علماء المذهب المالكي أبانوا بالفعل عن طول باع، وعمق رؤية، وحسن فهم وتنزيل قواعد هذا الفن، بل منهم من وصل مرتبة الاجتهاد والابتكار والتجديد بشكل لم يسبق إليه، كما هو الشأن مع القاضي عبد الوهاب، الباجي، والشاطبي، وليس من قرأ كمن سمع. يقول محمد المختار: “وفي قول ابن خلدون مبالغة ومغالاة؛ إذ أن علماء الفقه المالكي ألفوا في الأصول أكثر من مائة كتاب، وليس من الإنصاف أن نُنقص من قيمة الفكر المالكي ومقدرته على خلق القواعد التي تمد ممارسيه بالحلول العملية للنوازل الواردة. فقد أسهم في  إثراء وسائل الاستنباط حينما ربط بين المصالح والتشريع، وظهرت نتائج هذا الإسهام في البحوث الواردة في كتب القرافي، والشاطبي، وابن فرحون وغيره[17].”

موافقات الشاطبي نقلة منهجية ومعرفية في التصنيف الأصولي

كانت حياة الإمام الشاطبي –رحمة الله عليه- متميزة، سواء في مراحل التحصيل العلمي، أو في مرحلة العطاء والإنتاج. ولم يكن ذا طموح محدود، بل كان ذا تطلع كبير إلى أحداث نقلة نوعية في المنهج العلمي لعصره، رسم معالمها في مؤلفاته، وبشكل خاص في كتابه الفريد الموسوم “بالموافقات” الذي أتى فيه بعجائب التفكير السديد، والبصر الفقهي، والأسلوب المبتكر[18].”

ولقد كانت قلة تآليف هذا الإمام تطرح إشكالا عويصا، في القديم والحديث، لكننا قد نجد ما يعللها إذا علمنا أن للرجل يدا في قلة مؤلفاته لا لشيء إلا أنها لا ترضي طموحه، فقد قال أحمد بابا التنبكتي عند حديثه عن مؤلفين للشاطبي هما: “عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق” و”أصول النحو”  قال: “ورأيت في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته، وأن الثاني أتلف أيضا[19].”

فالرجل كان يتطلع إلى أن يخلق تراثا متميزا، ولهذا فإنه عندما تحقق له ذلك في الموافقات، لم يتوان عن مخاطبة قارئه بقوله: “فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه الابتكار، وغر الظان، أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في العلوم  الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه، فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار، ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار، فإنه بحمد الله أمر، قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأخيار، وشيد أركانه أنظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار[20].”

وفعلا، فقد وفق الشاطبي -رحمه الله- على مستوى التأليف الأصولي إلى تجاوز المواقف التي سادت في الكتابات الأصولية السابقة عليه:

-موقف المتكلمين أو الشافعية[21]، الذين يعتمدون على تقرير القواعد الأصولية حسبما تدل عليه الدلائل والبراهين النصية واللغوية والكلامية والعقلية، من غير التفات إلى الفروع الفقهية إلا لمجرد التوضيح والمثال.

ـ موقف الحنفية أو الفقهاء[22]، الذين يعتمدون في تقرير القواعد الأصولية على ما قرره أئمة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية.

ـ وموقف المتأخرين[23]، الذين حملوا لواء التقريب بين الموقفين، السابقين، معتمدين في ذلك على تحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية.

وفقه الله سبحانه وتعالى، إلى طريقة فريدة في التأليف لم يسبق إليها[24]، فعد بذلك شيخها مؤسسها، ويمكن الاصطلاح عليها بـ”مدرسة المقاصد الشرعية في أصول الفقه[25]“، يقوم منهجها على العناية بأسرار التشريع ومقاصده، وتأكيد مراعاته للمصالح، وذلك في أسلوب استقرائي مغاير لما عرف عليه من قبل في دراسات علماء الأصول.

لكن هل الشاطبي، رحمه الله، بطريقته هذه دشن قطيعة إبستيمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وهو بذلك مصنف ضمن طريقة الفقهاء؟

وهل الجهاز المفاهيمي المستخذم في النص الشاطبي هو نفسه الذي استخدمه علماء الأصول السابقون متكلمون وفقهاء؟ وهل فعلا غرض الشاطبي -رحمه الله- التوفيق بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة؟ أم أن العنوان الأول أوفق بالكتاب؟ وما هي الأبعاد المنهجية لتراث الشاطبي؟ ثم ما هو موقفنا اليوم منه؟

لقد حاول العديد من الباحثين إدخال الشاطبي في إطار مدرسة من المدارس المعروفة في أصول الفقه، والذي أراه، أن حشر الإمام الشاطبي ضمن طريقة المتكلمين[26]، أو ضمن طريقة الحنفية[27]، أو المتأخرين[28]، تعسف في حقه -رحمه الله- فالرجل قد انفرد بطريقته في التأليف كابد من أجلها وعاش ظروف مخاضها ثم بعد ذلك ولادتها، طريقة لم يسبق إليها ترجع بالأساس إلى انشغال فكره بهم منهجي تشكل الرؤية المقاصدية بؤرته، ويعتبر رفع الاختلاف هاجسا، وتصحيح فقه التدين محوره. مما حتم عليه الخروج عن التنميط الذي اعتادت المؤلفات الأصولية الالتزام به، وليس معنى هذا أن الإمام لم يهتم بهذه المدارس دراسة نقدا، بل إن ما يستشف من الموافقات هو العكس، فقد استفاد من مختلف المدارس الأصولية، لكن ميزته العجيبة -رحمه الله- تجلت في قدرته على التّفلت من مناهج هذه المدارس، وابتداع منهجية خاصة به في التأليف، ولعل في إتلاف هذا الرجل لبعض مؤلفاته بنفسه، كما مر معنا، والتي قد تعود إلى وقت متقدم من حياته مؤشر على قناعته بضرورة التجاوز المعرفي والمنهجي لبعض الممارسات العلمية المألوفة، وما الموافقات إلا مظهر من مظاهر هذا التجاوز، بل قمة هذا التجاوز في نظره، وفي نظري كذلك.

نحن، إذن، أمام طريقة جديدة في التفكير، لذلك لا يمكن أن أذهب مع الرأي الذي يذهب إلى “أن الجهاز المفاهيمي للمصطلحات التي استخدمها الشاطبي في نصوصه، هو ذات الجهاز المفاهيمي الذي استخدمه الأصوليون السابقون، ووحدة المصطلح مؤشر على وحدة الحقل والرؤيا والأفق[29]“؛ لأن استعمال المفاهيم يمكن أن يوظف توظيفا جديدا[30]، وهذا ما حصل مع الإمام الشاطبي الذي أراد تجديد الدين أساسا من خلال تجديد منهج التفكير الأصولي، ولأن المصطلحات هي البنية الأولى في العلم، فقد كانت أول ما لحقه التجديد عنده.

إن الناظر في تراث الإمام الشاطبي، على قلته، يدرك من بادئ النظر أنه رجل ذو حس مصطلحي دقيق، إنه يفكر من خلال نسيج مصطلحي متناسق وعميق، بحثا وتحريرا، ونقدا وتجديدا، وبوضعه هذه الطريقة الجديدة في التفكير الأصولي يكون الشاطبي قد دشن مشروعا ثقافيا جديدا، يدل أولا على قدرته على تجديد المفاهيم، ثم ثانيا إلباسها صيغ الاصطلاح، وهذا ضرب من التأسيس في العلم؛ “فالتجديد الذي يتأسس على التغيير في المصطلحات أو مفاهيمها، هو تجديد في الجوهر، وإضافة حقيقية للعلم؛ إذ بناء على ذلك تقوم رؤى وتصورات، ذات طابع كلي وشمولي، فتكون خطوات أخرى، ومراتب أعلى في درجات المعرفة والبحث العلمي”.

كما أن طريقة الرجل المستمدة من مرجعيته المالكية والقائمة على أصول هذا المذهب، هي طريقة جديدة تماما سواء على المنهج أو على مستوى بناء “أصول الفقه”، ولعل هذا ما تنبه إليه الشيخ عبد الله دراز عندما تساءل بعد أن أبرز أهمية هذا الكتاب وتميزه عن المؤلفات السابقة في علم الأصول: “إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة على ما وصفت، فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة بله العكوف على تقريره ونشره بين علماء المشرق؟”، ويجيب : إن ذلك راجع إلى أمرين: “أحدهما: أن المباحث التي اشتمل عليها الكتاب مبتكرة مستحدثة لم يسبق إليها المؤلف… وجاء في القرن الثامن 790ﻫ بعد أن ترسخت طريقة الأصوليين السابقين وصارت كل ما يطلب من علم الأصول. وثانيهما: أن كتابة الشاطبي مركزة كثيفة “تجعل القارئ ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط؛ لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه[31].”

وقد اختار الشاطبي هذا العلم، علم أصول الفقه، وجعله محلا لتحقيق طموحه الأول وهو التجديد، وليس بغريب أن يكون صاحبنا على وعي بقيمة ما أبدعه، فهو يقول في شأن كتاب الموافقات: “لا جرم أنه قرب عليك في المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير، ووقف بك من الطريق السابلة على الظهر، وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر[32].” والواضح من صنيع الشاطبي في موافقاته أنه لم يقصد إلى وضع كتاب تقليدي يستوفي مباحث الأصول على صورتها، وإلا فقد أعرض عن مباحث هي من صميم ما تداوله كتب أصول الفقه، ولكن كان اختياره مقصودا وهو التجديد، التجديد في المنهج والمنهجية، ولا كان غرضه التوفيق بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة[33]؛ لأن ابن القاسم ليس بصاحب مذهب، وإنما هو من تلاميذ صاحب المذهب الإمام مالك -رحمهما الله- كما أنه لا يحتاج إلى هذا التوفيق؛ لأن أهل الأندلس لا يقبلون مذهبا غير المذهب المالكي لأسباب وعوامل لا يتسع المجال لذكرها، وقد كان واعيا بهذا الأمر تمام الوعي، فكان من ذكائه أن تجنب أن يسوي بين مالك وأبي حنيفة، في قصة الرؤيا التي رآها فرفع مالكا وجعل أبا حنيفة في درجة ابن القاسم، وذلك خشية الفتنة على نفسه، وخشية المصادرة والتلف على كتابه، ولكن بالرغم من هذه المبالغة في الاحتياط، فإنه تعرض بسب هذا الكتاب إلى أذى كثير فصبر، وجالَد حتى أتمه وأذاع مسائله بين طلابه.

نعم، قد يكون عني ذلك بالقصد التبعي: أي التوفيق بين المالكية والحنفية، وليس بالقصد الأصلي؛ لأن القصد الأصلي للكتاب هو تجديد النظر في الشريعة، والعمل على شحذ عقول العلماء والمجتهدين بالالتفات إلى مقاصد الشريعة وأسرارها[34]، فيكون بذلك العنوان الأول: “عنوان التعريف بأسرار التكليف” أوفق بالكتاب، ومتماشيا مع المعيار العلمي؛ لأن أسرار التكليف لا تعني شيئا آخر سوى مقاصد الشريعة وهي أكبر ميزات هذا الكتاب.

ولا نعدم لدى الشاطبي إشارات لذلك، فهو يصنف مشروعه في خطية الموافقات تصنيفا مليئا بالدلالات حينما يقول: “ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية، المتعلقة بهذه الشريعة الحنفية سميه بعنوان التعريف بأسرار التكليف[35].”

ويقول في موضع آخر: “.. لم أزل أقيد من أوابِده، وأضم من شوارده تفاصيل وجملا.. معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية… حسبما أعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة..”.

وخلاصة القول إن روح التجديد قد سرت في تراث الإمام الشاطبي، سيما في الموافقات، في مسائله وفصوله، وهو يصدر عن وعي تام بحاجة علم الأصول إلى مثل تلك البحوث التي اهتم بها ولذلك شبهها بالعروس .

لكن هذا الكتاب النفيس غمره تيار الانحطاط الحضاري الذي سبق ولادته ثم عاصرها، ليزداد بعدها تدهورا وهو الأحق بالريادة، فبقي جوهرة مكنونة خفية عن الأنظار، إلى أن قدر الله -عز وجل- له أوان حياة جديدة على يد رواد النظار، فنفضوا عن هذا الكتاب غبار النسيان وقدموه لرجال العلم وطلبته كنزا مخبوءا فظهر بذلك وبان، فتلقفته الأيدي بشوق وافتقار، يعضده شعور عام انتاب الأمة كلها بلزوم تجديد نهضتها، والقيام بأسباب صحوتها بعد سبات طويل ضار، ولم يلبث أن نال شهرة فائقة، وحظي بتقريظات عالية تعكس مكانته وقيمته اللائقة[36]، وفي ما يلي أقدم المحاور التي غلب على ظني أن العمل التجديدي للشاطبي تمحور حولها في كتابه الموافقات:

ـ تجديد البناء الهيكلي أو المنهجي لعلم أصول الفقه.

ـ التقديم للكتاب بمدخل منهجي في شكل مقدمات منهجية علمية.

ـ إدخال المقاصد كمبحث أساسي في علم أصول الفقه.

فيما يخص هيكل كتابه وتقسيمه وترتيبه، فأول ما يثير انتباه القارئ للموافقات هو ابتداع الشاطبي لهيكل تصنيفي يختلف عن المألوف، وقد أشار في مقدمة كتابه أنه منحصر في خمسة أقسام هي: “المقدمات العلمية والأحكام ومقاصد الشريعة والأدلة والاجتهاد[37].”

 ولقد استوقفني هذا التقسيم الخماسي للإمام الشاطبي لترجع بي الذاكرة إلى الوراء أزيد من ثلاثة قرون لمطالعة تقسيم مجدد آخر هو الإمام الغزالي (توفي 505ﻫ)، الذي قسم كتابه المستصفى كذلك إلى خمسة أقسام، ونص عليها في مقدمته، وهي مقدمة[38] وأربعة أقطاب: “المقدمة المنطقية، الأحكام، الأدلة، وجود دلالة الأدلة، المجتهد.”

ولعل المقارنة الأولية بين المنهجين تكشف عن وجود مقدمات منطقية تقابلها مقدمات منهجية علمية، وأقساما ثلاثة متشابهة في الأسماء[39]. تتعلق بالأحكام، والأدلة، والاجتهاد (سماه الغزالي المجتهد)، بينما انفرد الغزالي بقسم وجوه دلالة الأدلة، والشاطبي بقسم مقاصد الشريعة.

وإذا رجعنا إلى تقسيم الإمام الشاطبي، وجدناه يتميز بشيئين:

1. جانب المقاصد الشرعية.

2. وجانب المقدمات العلمية.

أما المقاصد الشرعية فقد خصص لها الشاطبي القسم الثالث من أقسام “الموافقات” الخمسة أو هو الجزء الثاني من الأجزاء الأربعة حسب التقسيم الذي يطبع عليه الكتاب عادة. وقد قسمه الشاطبي إلى قسمين: القسم الأول: عالج فيه مقاصد الشارع، وهي أربعة أنواع قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء، وقصده في وضع الشريعة للإفهام، وقصده في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، وقصده في وضع الشريعة للامتثال. أما القسم الثاني: فيعالج فيه مقاصد المكلف[40].

من باب اهتمامه بمقاصد الشريعة ولفته الأنظار إلى أسرارها بصم الإمام الشاطبي على عمل جليل ذي قيمة علمية رفيعة، بعث من خلاله الروح والحيوية في علم الأصول، وخلصه من الرؤية الجامدة التي تقف عند حد النصوص الجزئية ودلالتها اللفظية مع الغفلة عن مقاصدها وغاياتها. ثم إنه بمنهجه الكلي في تناول هذا الموضوع قدم للمجتهدين والعلماء مضامين الشريعة الإسلامية مختصرة واضحة تؤمن لها الشرط اللازم لحسن فهمها وسداد الاجتهاد فيها[41].

أما المقدمات المنهجية العلمية الهادية[42]، فإنها من بين أغنى ما قدمه الشاطبي في كتابه الموافقات، كانت قديما تحتل مكانا هامشيا في الخطاب الأصولي، فأصبحت مع الموافقات جزءا مهما يصعب بثره منها دون إخلال بالبنية الكلية للكتاب.

فعلى مدى أكثر من خمسين صفحة-في القسم الأول أو المجلد الأول من الكتاب-استعرض ثلاثة عشر مقدمة منهجية[43]، يشد بعضها بعضا، تضمنت المهاد العلمي والأخلاقي والتربوي الكلي الذي تقوم عليه العلوم الشرعية عموما وأصول الفقه خصوصا، وربما تتعداها إلى غيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية.

وإذا كانت المقدمات المنطقية للغزالي خصوصا، ولغيره من الأصوليين من بعده، تهم تنظيم العقل الإنساني وترتيبه، الشيء الذي قد يكون فطريا بديهيا عند ذوي العقول السليمة، فإن المقدمات المنهجية الهادية للشاطبي لا يستغني عنها “العوام والخواص والجماهير والأفذاذ، بل وتوفي حق المقلد والمجتهد، والسالك والمربي، والتلميذ والأستاذ على مقاديرهم في الغباوة والذكاء، والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ[44].”

ولعل دافع الشاطبي في إيرادها في مقدمة كتابه، وإيلائها من الاهتمام ما هي لائقة به، الحالة التي وصل إليها علم أصول الفقه من المطارحات الكلامية واللغوية والمنطقية ناهيك عن الحشو الذي أثقله حتى أقعده عن القيام بوظيفته الاجتهادية الاستنباطية.

وأسطر فيما يلي أهم المقدمات التي لها علاقة بموضوع أصول الفقه وتجديده:

ـ المقدمة الرابعة

هذه المقدمة ذات علاقة وطيدة بالمقدمات الثلاث السابقة إذ الدعوى إلى قطعية أصول الفقه[45] يتطلب تنقية مادة أصول الفقه مما ليس منها، فهذه المقدمة تدعو إلى التجديد في محتوى هذه المادة، وتنقية علم أصول الفقه مما ليس منه باتت ضرورة ملحة نحو منهج علمي صحيح، فيقرر الشاطبي أن “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أولا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية” معلنا بذلك رفضه للمسائل التي ليست لها وظيفة استنباطية.

ولا يلزم على هذا؛ (أي القاعدة السابقة) أن يكون “كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه، كعلم النحو واللغة، والاشتقاق، والتصريف والمعاني، والبيان، والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم التي يتوقف عليها تحقق الفقه… إذ ليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله[46].”

وبعد بيانه لملامح ما ينبني عليه أصول الفقه، وما لا ينبني دعا الشاطبي إلى تجريد أصول الفقه من بعض المسائل المقحمة فيه، “والتي تكلم عنها المتأخرون وأدخلوها فيه، كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي، صلى الله عليه وسلم، متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل”[47]

ـ المقدمة الخامسة

هذه المقدمة امتداد للمقدمة السابقة ومؤصلة ومزيلة للشبهات حولها، فعند ما قرر الشاطبي أن كل مسألة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، فموضعها في أصول الفقه عارية، أصل الشاطبي هذه باستقراء أدلة الشريعة، فقال: “والدليل على ذلك استقراء الشريعة، فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به…[48]“، ثم أتى بآيات كثيرة وأحاديث نبوية وآثار عن الصحابة تدل على ذم الخوض فيما لا ينبني عليه عمل: “عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا[49].”

وقد فند الشاطبي في هذه المقدمة، دعوى من ادعى أن العلم محبوب على الجملة ومطلوب على الإطلاق من غير قيد ولا شرط ولو كان في الخوض فيما لا ينبني عليه عمل.

وكان مما عد الشاطبي في هذه المقدمة أن السؤال عن ألفاظ لا يتوقف عليها العمل من جملة الخوض فيما لا يفيد ومن تم فهو غير مطلوب شرعا.

وكانت هذه المسألة توطئة للمقدمة اللاحقة، وهي:

ـ المقدمة السادسة

والتي تعد من أهم المقدمات التجديدية في علم أصول الفقه، ذلك أنها تندرج في تنقية علم أصول الفقه مما علق به من آثار المنطق في التعاريف والمصطلحات الشرعية[50]، فبادئ ذي بدء بين الشاطبي أن هناك منهجين لمعرفة التعاريف والتصديقات.

المنهج النبوي في بيان الألفاظ وهو منهج موافق لمقاصد وروح الشريعة، وهو البيان البسيط الذي يليق بعامة الناس، أو كما وصفه رحمه الله: “طريق تقريبي يليق بالجمهور[51]“، يعتمد على بيان الألفاظ والتعاريف بالألفاظ المترادفة والقريبة دون الخوض في طلب ماهيات الأشياء ودون لبس أو تعقيد.

والمنهج الثاني هو منهج المناطقة في طلب معرفة الألفاظ، بالخوض في ماهيتها والتعمق في كيفيتها، وصفه رحمه الله، بأنه: “تسور؛ (ي افتيات) على طلب معرفة ماهيات الأشياء، وقد اعترف أصحابه بصعوبته، بل قد نقل عن بعضهم أنه متعذر[52].”

وخير دليل مثل به الشاطبي على الفرق بين المنهجين ما ذكره في تعريف معنى الملك، فمعنى الملك عند أصحاب المسلك الثاني هو: “جوهر بسيط ذو نهاية” ونطق عقلي” أو هو “ماهية مجردة عن المادة أصلا[53].”

ففي هذه المقدمة يتضح لنا موقف الشاطبي الصريح القاضي بفرض استخدام مصطلحات المناطقة في أصول الفقه، وإحلال المصطلحات الإسلامية النابعة من الشريعة الحنفية مكانها[54].

وهكذا يكون الإمام الشاطبي قد بنى حقا بهذا التأليف هرما شامخا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق تحقق للدين تجدده وخلوده قل من اهتدى إليها قبله.

لكن المؤسف أن هذا التوجه لم يكتب له النجاح وطواه النسيان، في حين أنه كان وما يزال كفيلا بإحداث ثورة عملية وتجريبية في سائر العلوم، ومنها أصول الفقه، علما أن قبسا من هذا المنهج العلمي الذي بشر به الشاطبي، فضلا عن المنهج المقاصدي، هو الذي بنت عليه أوربا خاصة، والغرب عامة، نهضتها الفكرية بعد فترة يسيرة من زمن الشاطبي.

 الهوامش


 1. انظر:  طه جابر العلواني، “أصول الفقه الإسلامي”، ص23.

والشروح المعروفة لرسالة الشافعي، رحمه الله، خمسة:

الأول: شرح أبي بكر الصيرفي، محمد بن عبد الله المتوفي سنة 330ﻫ، والثاني: شرح أبي الوليد النيسابوري، حسان بن محمد المتوفى سنة 349ﻫ، والثالث: شرح القفال الكبير الشاشي، محمد بن علي بن إسماعيل المتوفي سنة 365ﻫ، والرابع: شرح أبي بكر الجوزقي، محمد بن عبد الله الشيباني المتوفى سنة 388ﻫ، والخامس شرح أبي محمد الجويني، عبد الله بن يوسف والد إمام الحرمين المتوفي سنة 438ﻫ.

فهؤلاء الأئمة الخمسة هم الذين شرحوا هذا المرجع الأصولي الهام المعروف، وقد أورد السيد مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة أسماء لأعلام آخرين ذكر أنهم شرحوا رسالة الشافعي هذه، وهم:

أبو زيد عبد الرحمان الجزولي، المتوفي (سنة741ﻫ) وجمال الدين الأقفهسي عبد الله بن مقداد (توفي: 823ﻫ) ويوسف بن عمر الأنفاسي (توفي: 761ﻫ)، والفاكهاني عمر بن علي بن سالم (توفي: 734ﻫ).

قلت: وهذا سهو وغلط، فهؤلاء جميعا إنما شرحوا رسالة ابن أبي زيد القيرواني، عبد الله بن عبد الرحمان المتوفي (سنة386ﻫ)، وهو كتاب في فقه المالكية، لا رسالة الشافعي -رحمه الله- ولعل سبب هذا الوهم هو أن كلا الكتابين يسمى الرسالة وجل من لا يسهو. انظر: حاجي خليفة، “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون”، 1/873، وحاشية على العدوى على شرح أبي الحسن على رسالة القيرواني 1/5، ومنهج الأصوليين، في بحث الدلالة اللفظية الوضعة، مولود السريري ص32-33.

2. أقبل القرن الرابع الهجري والصراع الفكري على أشده بين المعتزلة والأشاعرة، وكان كل من الفريقين يلوذ بالفكر الأصولي آنذاك للمساندة والتأييد، مما نتج عنه معايشة الفكر الأصولي للتطور النوعي والتجديد الجذري، وامتدت يد في التغيير والتطور إلى جميع مباحثه في هذا القرن.

3. يعتبر الإمام الباقلاني شيخ الأصوليين، بعد الشافعي، أحد علماء القرن 4ﻫ الذي خلف لنا أثرا مهما في هذا المجال وهو كتابه: “التقريب والإرشاد إلى ترتيب طرق الاجتهاد” وقد تم تحقيق هذا الكتاب مؤخرا بعد فقدانه برهة من الزمن، وقد قام بتحقيقه الدكتور عبد الحميد أبو زيد الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بالقصيم، وصدر الكتاب عن بيروت:  مؤسسة الرسالة، ط1، 1993م.

4. هذا باعتبار القرن الذي عاش فيه العالم معظم حياته، فبناء على ذلك اعتبرته من علماء ذلك القرن.

5. انظر: الزركشي، “البحر المحيط في أصول الفقه”، 1/6.

6. انظر: ابن خلدون، “المقدمة”، 3/1065، انظر: الطاهر بن عاشور، “أليس الصبح بقريب”، ص204.

7. انظر: عبد الوهاب أبو سليمان، “الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية”، ص443-444 بتصرف.

8. انظر: علال الفاسي، “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، ص51.

9. انظر كتابه “البرهان في أصول الفقه”.

10. خلف الغزالي في علم الأصول أربعة كتب تنم عن مقدرة الرجل في هذا الباب، وهي: المنخول من تعليقات الأصول، وشفاء الغليل في بيان مسالك التعليل، وأساس القياس، والمستصفى من علم الأصول، وفي هذا الأخير تظهر شخصية الغزالي العلمية والأصولية أكثر نضجا على مستوى المنهج والمضمون.

11. انظر: عبد الوهاب أبو سليمان، “الفكر الأصولي: دراسة تحليلية نقدية”، ص299-310، 356. وانظر: عبد السلام بلاجي، “تطور أصول الفقه وتجدده، للدكتور” ص94-103.

12. مقدمة كتاب الإشراف على نكت مسائل الخلاف ص26.

13. انظر الدراسة القيمة التي أعداها الدكتور مولاي الحسين ألحيان، رحمه الله تعالى، بعنوان: “المصادر الأصولية عند المالكية: دراسة في النشأة والمدونات والخصائص” ص18.

14. المرجع نفسه، بتصرف يسير.

15. مولاي الحسين ألحيان، م، س، ص20.

16. يعلل ابن خلدون الضعف في التدوين الأصولي في بلاد المغرب بقوله: “وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية؛ لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم، كما عرفت، فهم أهل النظر والبحث، وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر، وأيضا فأكثر المغرب هم بادية غُفّل من الصنائع إلا في الأقل”.

17. مدخل إلى أصول الفقه المالكي، ص13.

18. انظر: مصطفى أحمد الزرقاء، “المدخل الفقهي العام”، 1/119، وراجع كذلك مجلة إسلامية المعرفة عدد15 السنة4 ص123. نقلا عن: مقاصد الشريعة عند الإمام الشاطبي.

19. انظر: “نيل الإبهاج”، ص49.

20. كان الإمام الشاطبي واعيا تمام الوعي بأن عمله هذا يدخل في باب “الابتكار” وأنه سيواجه كما توقع “بالإنكار”، رغم ما كابد لتقديم “نتيجة عمره” و”يتيمة دهره”، الموافقات 1/18، وراجع: عابد الجابري، “حفريات في مصطلح مقارنة أولية”، مجلة المناظرة، العدد6، السنة4، ص22، فقد أشار إلى محاولة الإمام الشاطبي لتأصيل أصول الفقه وتجديده.

21. أو طريقة المتكلمين، وهي التي سار عليها الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية وبعض الشيعة الإمامية وقد غلب عليها لقب “طريقة المتكلمين”؛ لأن الكتب المكتوبة بهذه الطريقة اعتاد أصحابها أن يقدموا لها ببعض المباحث الكلامية كمسائل “الحسن والقبح” و”حكم الأشياء قبل ورود الشرع” و”شكر النعم” وإمام هذه المدرسة هو الإمام الشافعي، وقد أبرز معالمها أبو بكر الباقلاني، ومن أشهر كتبها: “العمدة” للقاضي عبد الجبار المعتزلي، والبرهان للجويني، والمستصفى للغزالي والمحصول لفخر الدين الرازي، والإحكام للآمدي والمنهاج للبيضاوي الشافعي.

 راجع: طه جابر العلواني، “نظرات في تطور علم أصول الفقه”، مجلة أضواء الشريعة، الرياض، العدد10 ص133. وعلم أصول الفقه الإسلامي له كذلك ص27، وراجع: هبة الزحيلي، “الوجيز في أصول الفقه”، ص17-18.

22. هؤلاء الأئمة ميزتهم أنهم لم يتركوا قواعد مدونة كالتي تركها الشافعي لتلاميذه وإنما تركوا بعض القواعد المنشورة في ثنايا الفروع الفقهية التي استنبطوها والفتاوى التي أفتوا بها، وعمد فقهاء المذهب إلى تلك الفروع يؤلفونها في مجاميع يوجد بينها التشابه، ثم يستنبطون منها القواعد والضوابط لتكون سلاحا لهم حين الجدل والمناظرة، هذه الطريقة وإن بدت في ظاهر الأمر دفاعا عن مذهب معين إلا أنها كان لها الأثر الواضح في التفكير الفقهي، وربط الأصول بالفروع، وأنها مزجت بين الأصول والفقه بأسلوب مفيد، ومن أهم الكتب هذه الطريقة التي يعد رائدها أبو منصور الماتريدي:

الرازي، “أصول الجصاص”.. أبي زيد الدبوسي، “تقويم الأدلة وتأسيس النظر”.. السرخسي، “تمهيد الفصول في الأصول”.. البزدوي، “أصول فخر الإسلام”.. الحافظ النسفي، “كتاب المنار”.. راجع: محمد الدسوقي، “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، ص118-119، طه جابر العلواني، “أصول الفقه”.. الزحيلي، “الوجيز في أصول الفقه”، ص18-19.. مصطفى  شلبي، “أصول الفقه”، ص40.

23. هي عبارة عن جمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية، وتركيب تأليفي بين منهجيهما، عني أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية، منهم بعض الحنفية وبعض الشافعية.

ومن أهم كتب هذه الطريقة: كتاب مظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي الحنفي (694ﻫ)، “بديع النظام الجامع بين كتابي البزدري والإحكام”، جمع فيه بين كتاب البزدوي الحنفي والآمدي الشافعي، وكتاب “تنقيح الأصول” وشرحه كتاب “التوضيح” لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود البخاري الحنفي (747ﻫ)، جمع فيه بين ثلاثة كتب هي أصول البزدوي الحنفي، والمحصول للرازي الشافعي، ومنتهى السول والأمل أو مختصر ابن الحاجب المالكي، وقد شرحه بكتاب “التلويح” سعد الدين التفتازاني الشافعي (793ﻫ). والذي أراه أن هذه الطريقة لا يصح أن تعتبر منهجا قائما بإزاء المنهجين السابقين؛ لأنها لا تعدو أن تكون مدرسة توفيقية عملت على دراسة أصول الفقه دراسة مقارنة، وأفادت بتطعيم كل طريقة بما عند الأخرى، كما عملت على ترجيح رائد على آخر أحيانا.

راجع: أصول الفقه الإسلامي، زكي الدين شعبان ص24، الوجيز في أصول الفقه، وهبة الزحيلي ص19.

24. مع مرور الزمن تراكم التأليف في علم أصول الفقه، وتشعبت طرق العلماء في التأليف، وتنوعت معها أنظار الباحثين في تقسيم طرق تدوين أصول الفقه، فمنهم من يرى أن عدة هذه الطرق اثنتان، ومنهم من يذهب إلى أنها ثلاثة، ولكن الدراسة الفاحصة للتراث الأصولي عبر مراحله التاريخية المختلفة تقرر أن عدة هذه الطرق أو المناهج أربعة، هي:

-طريقة المتكلمين – طريقة الحنفية -وطريقة الشاطبي أو مدرسة الموافقات، وطريقة المتأخرين، مع الاحتراز طبعا، كما سبقت الإشارة، ويؤخذ على الدكتور علي سامي النشار، جعله كتاب “الموافقات” للشاطبي مما ألف على هذه الطريقة مع أنه أبعد ما يكون عنها، ونفس الرأي ذهب إليه الدكتور الربيعة، في كتابه علم أصول الفقه،ص216، وسيأتي معنا ذكر لأهم خصائص الموافقات المنهجية التي تبين أن الكتاب رائد منهج أصولي جديد.

مناهج البحث عند مفكري الإسلام، واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، د. علي سامي النشار، ص88.

هذا ومن الضروري أن أشير إلى أن هناك مسلكا آخر في التأليف الأصولي وهو مسلك المعاصرين، الذي غلب منذ أوائل القرن الخامس عشر الهجري، إلى يومنا هذا، وقد اتخذ هذا النوع من التأليف اتجاهين:

الأول؛ مذكرات ومدخل وملخصات أعدت للطلاب لتسهيل علم أصول الفقه لهم، ورغم ما لها من مزايا إلا أنها لم تحتو على مبادئ منهجية تكفي لاعتبارها منهجا مستقلا في التأليف الأصولي؛ لأن الذين كتبوا حاولوا أن يواروا تعويلهم على ما ألفه الجيل السالف عليهم، بتقديم أو تأخير في القضايا، أو تحويل في العبارات.

وهي دراسات لم تقدم لهذا العلم كثيرا فهي في أغلبها إعادة لكتابة بعض مسائل هذا العلم بلغة عصرية.

الثاني؛ كانت عبارة عن كتابة الرسائل الجامعية في بعض مباحث هذا العلم، أو تحقيق كتب قديمة من المخطوطات ولا شك أن هذا الاتجاه بشقيه قد قدم خدمات جليلة لهذا العلم، ولكن لم تزل هذه الخدمات دون الطموح المنشود؛ لأنها لم تقم بعد بأية نقلة نوعية في هذا المجال.

نسأل الله التيسير والنجاح لها إن شاء الله.

أصول الفقه الإسلامي، طه جابر العلواني، ص31، نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه، الدسوقي، ص122-23.

25. انظر: الخن، “أبحاث حول أصول الفقه”، ص323.

26. انظر: عبد السلام  بلاجي، “تطور علم أصول الفقه وتأثره بالمباحث الكلامية”، ص5. انظر كذلك: مقال الاستقراء في مناهج النظر الإسلامي نموذج “الموافقات” للإمام الشاطبي، يونس صوالحي، ص67 منشور ضمن العدد4 من مجلة إسلامية المعرفة سنة1996.

27. يونس صوالحي، م، س، ص67، حفريات المعرفة العربية الإسلامية، التعليل الفقهي، سالم يفوت، ص170 و190.

28. انظر: محمد سلام مدكور، “نظرية الإباحة عند أصوله والفقهاء”، بحث مقارن، ص288.

29. سالم يفوت، “ندوة الإمام الشاطبي”، كلية الآداب الرباط سنة1989، جريدة “العلم”06-01-1989. نقلا عن:  عبد الجليل بادو، “الأثر الشاطبي في الفكر السلفي بالمغرب”، ص43.

وقد علل موقفه بأن “وحدة المصطلح الأصولي المتداول، مؤشر قوي على وحدة الحقل وتبات الأفق والرؤية” قلت: إن الأستاذ الفاضل لو أمعن جيدا في تراث الإمام الشاطبي، سيما الموافقات، والاعتصام، أو في مجموع فتواه، لوجده عبارة عن بناء متراص من المصطلحات العلمية، رصته بدقة يد رجل قوي أمين، ولا يعكر على ما سبق أن الشاطبي استعمل مصطلحات تبث استعمال غيره لها، كالمباح، والمكروه، والفرض والواجب..؟ لأن هذه المصطلحات رغم ثبوت استعمالها لدى السابقين، فإن في استعمال أبي إسحاق لها تجديدا، من حيث تركيبها في النسق الأصولي، بدلالة علمية دقيقة تؤدي دورا داخل تصور كلي شامل هو تصور الشاطبي للفكر الأصولي، كما أنه رحمه الله، قد نحا منحى آخر في التجديد المصطلحي وذلك من حيث رفض المحتوى المفهومي للمصطلح القديم، وشحنه بمعنى جديد كما صنع في نقد تعريفات السابقين مثل التخصيص والاستحسان ومراعاة الخلاف، والقصد… فهذا في الواقع ضرب من التجديد للمفهوم، وإن لم يمس ذات المصطلح من حيث الشكل.

وللمزيد من البيان يرجع إلى كتاب الأستاذ الفريد فريد الأنصاري، “المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي” الذي أعطى لموضوع المصطلح الشاطبي ما يستحق من العناية أضحى معها هذا الأخير واضحا لمن فتح عينيه أو لقي السمع وهو شهيد.

المصطلح الأصولي عند الشاطبي157-175، حفريات المعرفة العربية الإسلامية، سالم يفوت، ص190-191.

30. انظر: عبد الجليل بادو، “الأثر الشاطبي في الفكر السلفي بالمغرب”، ص43.

31. الموافقات 1/9.

32. المرجع نفسه، 1/17.

33. لا يفهم من هذا الكلام محاولة التقليل والتنقيص والمساس بالإمام أبي حنيفة رحمه الله، ففضله لا يجحده إلا جاهل.

34. يعد كتاب الموافقات عند العديد من الباحثين مندرجا تحت عنوان فلسفة التشريع، وعند بعضهم هو كتاب في علم الأصول وكفى، في حين يكتفي البعض بأن يضعه في الإطار العام، لأصحاب التعليل وخصومه، والذي أراه أن كتاب الموافقات منفرد في سياق الكتابة عن أصول الشريعة وحكمها وأسرارها، فقد أضاف إلى علم أصول الفقه ومؤلفاته بيانا إبداعيا في مقاصد الشريعة، هو جانب كان حضه من العناية في المؤلفات الأصولية قليلا وضئيلا لا يتناسب مع عظيم أهميته في عملية استنباط الأحكام، انظر: رشيد رضا، “تفسير المنار”، 6/157، ط. المنار، مقدمة: أحمد الزرقان لفتاوي الشاطبي، تحقيق: أبو الأجفان، ص8. وانظر: علي حسب الله، “أصول التشريع الإسلامي”، ص257-259.. سالم يفوت، “حفريات المعرفة العربية الإسلامية”، ص174..  محمد الدسوقي، “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، مجلة إسلامية المعرفة، ص120.

35. الموافقات1/16.

36. انظر: “تميم الحلواني، الإمام الشاطبي والخصائص العامة لفكره”، مجلة دار الحديث الحسنية العدد 13-1996. ص232-233.

37. الموافقات 1/16.

38. ويقول عنها الإمام الغزالي: “وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لم يحط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا” المستصفى، ص10.

39. لأن لكل واحد منهجه في تحليل بنية علم أصول الفقه المصطلحية والمفهومية.

40. الموافقات، 2/3-5.

41. وقد استند بعض الباحثين إلى هذا كله للمقاربة في الفضل بين الشاطبي، والإمام الشافعي، فيما يتعلق بعلم الأصول، انظر الجيلالي عبد الرحمان، “أصالة الإمام الشاطبي في المغرب جذريا وثقافيا”. مجلة الموافقات، العدد1، ص:114، والإمام الشاطبي والخصائص العامة لفكره، للأستاذ تميم الحلواني، مجلة دار الحديث الحسنية، العدد13، ص261.

42. غرض الشاطبي من المقدمات الضوابط هو نزع الثقة من المقدمة المنطقية التي طالما أدرجها الأصوليون في مقدمة مباحثهم معتقدين لتلك المقدمة القدرة على عصمة المجتهد عن الخطأ حين النظر في النصوص، هذه المقدمات هي التي شرحها الشاطبي في الموافقات، لذلك لم يكتبها إلا بعد إتمام الكتاب.

43. الموافقات،1/19-75.

44. المرجع نفسه، 1/16 بتصرف.

45. الموافقات 1/19-28.

46. المرجع نفسه، 1/29 بتصرف.

47. المرجع نفسه، 1/29، غير أن هناك مسائل قد تندرج في المسائل الأصولية لكن طريقة تناول الأصوليين لها جعلها تخرج عن المباحث الأصولية، ومثال ذلك: مسألة وجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم، فالأصوليون عندما تناولوا هذه المسألة تناولوها بمعنى هل القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية في الأصل أو لا يشتمل؟ فإن تناولت هذه المسألة من هذا المنظور لم يعد هذا التناول من مباحث علم أصول الفقه، بل من مباحث علم اللغة التي عن طريقها تعرف أصل الكلمة. انظر: “المستصفى”، ص84، الآمدي، “الإحكام”،1/45.

48. الموافقات، 1/31-34.

49. المرجع نفسه، 1/31.

50. تغلغل المنطق الأرسطي، كما يقول الدكتور علي سامي النشار، في صميم المسائل الكلامية والأصولية نفسها، ونشأت عن هذا حركة فكرية كانت شديدة الأثر في الفكر الإسلامي، “فبدأ علماء الأصول يخرجون حدودهم عن طريقة المنطق الأرسطوطاليسي، ويحاولون تحديد مصطلحاتهم على هذا الأساس. وكان من اثر هذه الحركة، أن ذهب كثير من مفكري الأصوليين إلى أن تعلم المنطق فرض كفاية على المسلمين، متابعين في ذلك الإمام الغزالي الذي يعد أول أصولي مزج بشكل رسمي مباحث المنطق بمباحث علم أصول الفقه في قوله: “إن من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا” المستصفى، ص10..  النشار، “مناهج البحث”، ص179-180، والذي تأثر بدوره بشيخه الجويني، ولا يحتاج ذلك إلى برهان أكثر من البرهان، الذي يظهر فيه تأثر إمام الحرمين بمناهج المناطق وطرائقهم في الاستدلال والحجاج.

لكن هذا الاتجاه سرعان ما قوبل بردة فعل قوية من طرف مجموعة من العلماء أخذوا اتجاها معاكسا تماما، فهاجموا المنطق الأرسطي ودعاته هجوما عنيفا، فبرزت شخصيات هامة تمثله في الشرق الإسلامي، كابن الصلاح (توفي 643ﻫ)، وابن تيمية (توفي 728ﻫ)، وابن القيم (توفي 751ﻫ)، وابن السبكي (توفي 772ﻫ) والصنعاي (توفي 840ﻫ) والسيوطي (توفي 911ﻫ).

وعلى غرار المشرق اشتهر في الغرب الإسلامي أيضا، علماء رفضوا المنطق الأرسطي وحاربوه بشدة، حتى إن علماء الأندلس حرموا تعلم المنطق وتعليمه وتوعدوا من اشتغل به أو أراد تعلمه.

مناهج البحث، ص180-181.. الأنصاري، “المصطلح الأصولي”، ص179.

51. الموافقات، 1/38.

52. المرجع نفسه، 1/39.

53.  المرجع نفسه، 1/38-39.

54. لقد كان للرفض الذي أبداه أهل الأندلس للمنطق آثاره على مجدد الفكر الأصولي بالأندلس لأبي إسحاق الشاطبي، الذي هاجم فكرة الحد المنطقي وهو يؤصل في كتابه “الموافقات” لمناهج التعريفات الأصولية، محاولا من ناحية، أن يضع مقاييس نظرية للتعرف تخالف مقاييس المناطقة، وعارضا من ناحية أخرى نماذج تطبيقية كثيرة، لشتى صور التعريف للمصطلحات الأصولية، وقد قدم الأستاذ فريد الأنصاري صورة متكاملة لتصور الإمام الشاطبي لمسألة الحد المنطقي، وكذا التصور البديل الذي يطرحه من خلال دراسته التطبيقية لجملة من تعريفاته الأصولية، المصطلح الأصولي، ص180-220.

Science

د.محمد المنتار

• مدير البوابة الإلكترونية للرابطة المحمدية للعلماء.
• رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق