وحدة الإحياءقراءة في كتاب

قراءة في كتاب “صور ترحل عبر العالم: نقد للعولمة”

في هذا الكتاب*، يتناول “فولفجانج أولريش” Wolfgang Ullrich فن الصورة وظاهرة العولمة بالدراسة والتحليل والنقد. وقد توفق الكاتب، بفضل سعة اطلاعه على علوم مختلفة، حيث أنه درس الفلسفة، وتاريخ الفن، والمنطق، ونظرية العلوم، وعلوم اللغة الألمانية، في أن ينفذ إلى أعماق فكرية قل ما تم النفاذ إليها من قبله. وجاء عرضه لمختلف مراحل تطور فن الصورة وعلاقتها بالاستبداد عرضا مقنعا، مشفوعا بحس نقدي مميز، مدعوما بلغة سلسة واضحة.

يصدر الكاتب عن قناعة راسخة مضمونها أن “أصحاب السلطة الأقوياء لا يخشون الصور بقدر ما يخشون الكتب والخطب”. فأصحاب السلطة والقوة في العالم لا يحتاجون إلى شيء قدر حاجتهم إلى الصورة من أجل العمل على ترسيخ نفوذهم وقوتهم. لكن الصورة، وإن كانت أداة ناجعة لممارسة السلطة، تظل في اعتقاد فولفجانج أولريش سلاحا ذا حدين. فمستعمل الصورة لا يأمن تقلب دلالاتها وبالتالي ابتعادها عن خدمة الأغراض المطلوب بلوغها سلفا. فالصورة، في نظر الكاتب؛ إذ تتوفر على عناصر القوة، لا تخلو من عناصر الضعف. وتتأرجح مواقف المبدعين أنفسهم بين الاعتقاد والشك في قدرة فن الصور على تحسين سلوك الإنسان وتطهيره ومداواته. ويكبر الإيمان في سلطة الصورة بكبر الإيمان في سلطة الفن.

لا يخفى أن الخلود حلم رافق المبدعين على امتداد العصور؛ فكل مبدع يطمع في أن يكتب لأعماله البقاء بعد موته، ولذلك تجد المبدعين يكترثون أكثر ما يكترثون بالعناصر التي تمد العمل الفني بأسباب البقاء. إن الأجسام المنحوتة تدل في الثقافة الإغريقية على قدرة الجسم الصحيح على تجاوز المرض والصمود في وجه الأوبئة الفتاكة، ومن ثمة فهذه الأجسام أكثر إشارة من الأجسام العليلة إلى الاستمرار في البقاء وطول الأمد. وإلى جانب رغبة المبدعين الجامحة في تجاوز الزمن وتوسيع مدة صلاحية العمل والإبداع الفنيين، شهدت العصور الكلاسيكية اهتماما واضحا بكيفية تمديد صلاحيات العمل الفني ليشمل أحياز ثقافية أخرى فيصبح دالا فيها بقدر ما هو دال في حيزه الثقافي الأصلي. لكن العمل الفني ظل على امتداد هذه العصور يتميز بالتفرد وعدم القابلية لاستنساخ، مما ضيق من آفاق انتشاره. والواقع، في نظر أولريش، أن حلم الخروج بالعمل الفني من حدود المكان إلى رحابة الكرة الأرضية لم يظهر بشكل واضح إلا خلال القرن السادس عشر والسابع عشر، أي تزامنا مع بوادر الرأسمالية، خصوصا في هولندا، حيث سجلت أولى المحاولات الواعية لتسليع الفن ثم تسويقه خارج الحدود. أليس من المعبر أن تحمل إحدى أولى دور النشر للـ(جرافيك) اسم “Zu den vier Winden”، أو ما معناه: نحو جهات الريح الأربعة، أو جهات الأرض الأربع. وقد اهتم Rubens، الفنان التاجر، بالفن وبكيفية جعل أعماله الفنية تعبر الثقافات لتلقى رواجا خارج ثقافته الأصلية. وتجلي إحدى الصور التي تعود إلى القرن السابع عشر، إلى 1615 تحديدا، وجود زمرة من تجار الفن والعارفين بخباياه وهم يتداولون فيما بينهم وأعينهم تحذق في كرة أرضية تتوسطهم.

يمكننا القول بأن الرأسمالية أخرجت الإبداع الفني عموما، وفن الصور خصوصا، من مجال الكلية Universalismus، إلى مجال العولمة Globalizeerung، كما أنها وسعت حلم المبدعين قديما لتجاوز حدود الزمن، فجعلته يشمل الانتشار في فضاء الثقافات الأخرى ثم الهيمنة على حيزها المكاني. ويعدد الكاتب الأمثلة الدالة على شيوع المجاز في حديث الفنانين والمفكرين عن “الكرة الأرضية” وضروب الهيمنة عليها. لقد صار الإنسان في مرحلة ما بعد الرأسمالية يعي الكرة الأرضية كحيز لبسط الهيمنة الغربية والسيطرة الرأسمالية. ويتساوى في رغبة بسط النفوذ على الكرة الأرضية جميع السلطات، سواء أكانت سلطة الفن الناعمة، أو السلطة السياسية العسكرية الصلبة. فـ رتشارد فاجنر، الذي كانت الموسيقى بالنسبة إليه تمثل “بحر التناغم والهرمونية”، يشبه بتهوفن بـ كريستوف كولومبوس؛ فالقاسم المشترك بينهما هو إبحارهما في ميادين المطلق وتوسيعهما للحدود. فـ بتهوفبن، في نظر رتشارد فاجنر، فتح أمام البشرية أبواب المستقبل الفني الزاهر، كما أن كريستوفر كولمبوس وسع بركوبه أهوال المحيط من حدود القوميات الضيقة. وأما نيتشه، فيذهب إلى تشبيه رتشارد فاجنر في قدرته على إخضاع الحس الفني إلى النظام والوحدة، بقدرة الإسكندر الأكبر على تفكيك الإرث اليوناني ثم إعادة تركيبه في وحدة جديدة. تشير هذه الأمثلة إلى وجود علاقة تلازم ما بين عنف الجيوش المادي، وعنف الفنانين الرمزي.

ويعرض الكتاب إلى مختلف مراحل تطور العلاقة بين المسيحية وفن الصور، كما يقف عند أوجه الاختلاف بين الكاثوليكية والبروتستانتية فيما يتعلق باستخدام الصورة لتبليغ الخطاب الديني. على عكس الكاثوليكية التي لم تتوان في اللجوء إلى الصورة لإثارة المشاعر وإيقاظ الحس الديني، كانت البروتستانتية تصرح بموقف متحفظ من الصور وتنتصر للكلمة ودور اللغة الطبيعية المحلية في تقريب الرسالة المسيحية. وبناء على هذا الاختلاف في تصور العلاقة بين الكلمة والصورة، فقد اختلفت التجربة الفنية الكاثوليكية عن التجربة البروتستانتية اختلافا واضحا عبر مختلف المراحل التاريخية. ومن ناحية أخرى، يقف الكاتب عند مظاهر تأثير الحداثة والتطور التقني على الخطاب المسيحي وكيفية استدعائه لصور المسيح، محيلا على التدافع الذي شهده الفضاء المسيحي بين الدعاة إلى التمسك بالصور المعبرة عن آلام المسيح ومعاناته، وبين المبشرين الذين اعتمدوا أسلوب “الكيتش” Kitsch في القرن العشرين لترويج لصور تركز على الوجوه المبتسمة المسرورة، علامة على ما تعد به المسيحية من سعادة أبدية للجميع.

كذلك يتناول الكاتب بالدراسة والتحليل أهم الخطابات الإيديولوجية التي حكمت القرن العشرين وكيف تعاملت مع فن الصورة. وهكذا يعرض للصراع الذي جمع المعسكرين الشرقي والغربي أثناء الحرب الباردة، كما يحيل على التجارب الفنية النازية، مستخلصا جملة من النتائج الهامة. لقد كانت النازية، مثلا، تحارب الفن المجرد وتعتبره مسخا للثقافة المحلية؛ أما الرأسمالية والاشتراكية فقد لجأت كلاهما إلى فكرة العالمية ومن ثم إلى تجريد الصور من عوالق المكان، سعيا منهما لنشر قيمهما خارج حدودهما الإيديولوجية. فأما المعسكر الشرقي فقد اعتمد أسلوب “الكيتش” للترويج لصورة نموذج اشتراكي ناجح، يعم فيه التساوي بين الرجل والمرأة، ولا يقف فيه الطموح العلمي والتطلع إلى الأفضل عند حد. وأما المعسكر الغربي فقد تمكن بفضل “والت ديزني” أن يهيمن على العالم. ولا شيء أدل على حصول فكرة الهيمنة في أذهان والت ديزني من صور “ميكي ماوس”، الفأر الدمية، وهو يتأمل الكرة الأرضية أو يقطعها بخطى ثابتة. لقد تعددت أشكال الهيمنة واختلفت من معسكر إلى آخر، بيد أن ركوب الصورة لتحقيق هذه الهيمنة ظل هو القاسم المشترك بين المعسكرات جميعا. وقد أثبتت صور دمى والت ديزني الصغيرة قدرتها على اختراق عوالم الكبار.

ولعل من أهم ما يبرزه الكاتب في الفصول الأخيرة هو العلاقة ما بين الفن والاقتصاد. ينبه الكاتب في هذا السياق إلى الطرق المعتمدة لتحوير ألوان الثقافات المحلية وأشكالها لجعلها تتناغم ومتطلبات سوق الصور المربحة. تجلي القراءة في صور “أتباع يهو” التماهي الحاصل في أذهان المبشرين ما بين الدعوة إلى الإيمان والدعوة إلى الاستهلاك؛ حيث ارتفعت خطوط التمييز بين المؤمن والمستهلك. ويعكس اهتمام “بيل كيتس” بشراء وكالة الصور “كوربس” Corbis، واقتناء مارك جيتي Mark Getty لوكالة “جيتي للصور” Getty Images، أن تجارة الصور أصبحت تجارة مربحة. لقد صارت وظيفة هذه الوكالات هو تخزين الصور بغرض التسليع والتسويق. ويسعى أصحاب هذه الوكالات أن تنأى الصور المخزنة عن الخصوصيات المحلية وتبتعد عن الخوض في ما يمكن أن يكون مثار خلاف أو إزعاج حتى يضمنوا أوسع الأحياز لترويج بضاعتهم. لذلك فمجمل الصور المتداولة في زمن العولمة هي صور ذات استعمالات متعددة، عابرة للقارات والثقافات. باختصار، إن وكالات الصور تضيق في زمن العولمة من مجال الإدراك وتسطح الواقع، حيث أنها لا تسمح برؤية إلا ما تراه هي، من ثغور مبتسمة، وأجسام نحيفة ذات بشرة ناعمة، ووجوه مشرقة…

فقط حين تجرد الصور من عوالق المحلية وتنأى عن الخصوصيات الثقافية، يكتب له الرواج في زمن العولمة المفتقرة لكل ثقافية.

باختصار، إن كتاب فولفجانج أولرش يمثل قيمة إضافية حقيقية؛ فهو يذكر القارئ بوقائع تاريخية غائبة، وينبه إلى أبعاد خفية تفتح أمام العقل آفاق نقدية جديدة.

الهوامش


*  للكاتب الألماني فولفجانج أولريش، برلين: فاجن باخ، 2006، 144 صفحة.

د. خالد حاجي

أستاذ جامعي مغربي
مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق