مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه:

                  “إن أحكام الشريعة أوامر ونواهي تقتضي حثاً على قرب من محاسن، وزجراً على مناكر و فواحش، وإباحة لما به مصالح هذا العالم وعمارة هذه الدار ببني آدم، وأبواب الفقه وتراجم كتبه كلها دائرة على هذه الكلمات وسنشير إلى رموز في كليات هذه القواعد ليتبين للناظر من اتبع فيها معنى الشرع المراد، أو خالف فنكب عن السداد وحاد عن سبيل الرشاد، وأن مالكاً في ذلك كله أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً وأصح تفريعاً وتأصيلاً، فنقول أول متكلَّم فيه من أبوابه الطهارة التي صرح صاحب الشرع بأنها شطر الإيمان وأمر الله تعالى بالطهارة من الحدث والخبث وخص ذلك بالماء بقوله: (ماء ليطهركم به)[1] ، (وأنرلنا من السماء ماء طهوراً)[2] ، فأبو حنيفة الذي يرى أنه تجزي الطهارة من الحدث بالنبيذ المستنبذ في السفر عند عدم الماء، مع حكم أكثر العلماء بنجاسة ما يبلغ من الأنبذة هذا الحد و تحريمه، ويجزئ منها عنده من النجاسة بكل نبيذ مائع خل ومري، وعسل ولين ويجزي منها عنده وعند الشافعي في أحد قوليه بكل ماء مضاف ومتغير بالإضافة، ولو كان بقطران وما أشبهه، ما لم يغلب على أجزائه ما أصابه.أتراهما رأيا للفظ التطهير والتنظيف قدراً وقد زاد العضو تلوثاً بذلك وقذراً، أم جعلا لتخصيص الماء حكماً أو لوصفه بالتطهير معنى؟، كذلك اشترطه الشافعي وأحمد فيما تحل فيه النجاسة، وحديثهما ليس بثابت، وتقريرهما تخمين وحدس غير متفق ولا مستقر لهما قول عليه، وإنه إن نقص منهما كوز أثرت فيه النجاسة ومتى حلت نجاسة قليلة في كيزان كثيرة كانت كلها نجسة ما دامت متفرقة، فإذا جمعت في بركة صارت طاهرة، وإنه إن غرف من ماء قدر قلتين بإناء نجس كان ما في الإناء طاهراً وباقي القلتين نجسا. وسوسة في هذا الباب بعيد كله عن مدرك الصواب، حتى قال عظيم من أصحابه: اشتراط القلتين مثار الوسواس، كذلك داود في اقتصاره في النهي عن البول في الماء الدائم على مجرد ظاهره فلا يفسده عنده، ولا بواقع النهي إلا من بال فيه، وإن من بال في كوز وصبه فيه أو أحدث فيه، أو بال بقربه فسال إليه بوله، غير داخل في النهي عنده، ولا مفسد للماء شيء من ذلك إلا بتغييره، أليس يعلم على القطع إن هذا صد عن مراد الشارع و قطع؟ كذلك فهم من تخصيص بعض الأعضاء بالوضوء ما تقدم من معنى التنظيف والتحسين الذي هو معنى الوضوء، إذ تلك الأعضاء من الوجه واليدين والرأس والرجلين هي الطهارة من ابن آدم غالباً، والتي تحتاج إلى التنظيف والتحسين أبداً أما اليدان والرجلان فلما يعاني بها من الأعمال التي تعقب الأدناس والأوساخ، وتلاقي من الأمور التي ينتج عنها الدرن والأقذار، وانظر من لا يهتبل بالوضوء والماء والطهارة من أهل البوادي وأجلاف الأعراب واسوداد القذر برواجبه وبراجمه وتراكم الدنس الموالي جوناً بكوعه ورسغه، وكذلك الوجه سمة ابن آدم و محياه، وصورته التي كرمه الله بها وسيماه، وهو نصب لفح الهواجر، ومثار نقع الأقدام و الحوافر، وفيه مسام تقذف بأوساخها من قذى عين، ومخاط أنف، وبصاق فم، وكل يحتاج إلى تنظيف، فشرع بجميعها الغسل والتكرار، ولما كان الرأس مستوراً غالباً شرع فيه المسح اكتفاء بدهنه بالماء لأن الله شعثه ولأن غسله عند كل حدث مما يشق ويهلك. فهل وفى الشافعي بعبرة هذا الأصل إذا اكتفى بصب الماء عن الدلك وبالمسح على شعرة أو ثلاث من جميع الرأس؟ وأبو حنيفة في الاقتصار على الناصية؟ والثوري في الاقتصار على شعرة؟ ولا يعترض على ما مهدناه بكون التيمم بدلاً من الوضوء عند عدم الماء، ولا تنظيف فيه ولا تحسين، بل الضد من ذلك. فاعلم أن هذا السر عجيب في الشريعة لمن عدم الماء الطهور، وهو متكرر وشاق في السبرات وكانت الصلاة دونه مع تماديه فقد تركن إليها النفوس لحبها الدعة، وخشي اتخاذها ذلك عادة، جعل الشرع التيمم تنبيهاً على أنها لا تستباح إلا بطهارة، ولتبقي النفس على استعمالها، وشرع ما لا يعدم من وجه الأرض وخفف حاله في بعض الأعضاء وفي كل حكم والله الموفق، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، وأبو حنيفة والثوري يريان أن الطهارة للصلاة تجزى بغير نية، وهي مفتتح أجل القربات، وفرقا بينها وبين التيمم بغير حجة إلا بخيالات لا تقوم على قدم. وسوّى الأوزاعي في الجميع فلم يوجبها، ثم نرتقي إلى أجل القربات المقرونة بكلمتي الشهادة، وهي الصلاة والزكاة، فأبو حنيفة يجزئ عنده من الصلاة أقل ما يجزئ في كل مذهب، وهي رياضة النفوس الجامحة وصقالة القلوب الصدية، ومظان الخشوع والمناجاة وسر العبودية المحضة”.

    ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض،    تحقيق: د. علي عمر، الطبعة الأولى 1430هـ- 2009، دار الأمان، 1/81. 

 

 

 


[1] – الأنفال 11

[2] – الفرقان 48.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق