قال العلامة شاه ولي الله الدهلوي:
لا يفتح باب الاجتهاد إلا لمن اقتفى الموطأ :
لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقنت أن طريق الاجتهاد وتحصيل الفقه ( بمعنى معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية) مسدود اليوم ( على من رام التحقيق) إلا من وجه واحد وهو أن يجعل (المحقق) الموطأ نصب عينيه ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ من أقوال الصحابة والتابعين ( بتتبع كتب أئمة المحدثين ) ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين (في المذاهب) من تحديد مفهوم الألفاظ وتطبيق الدلائل وتبين الركن والشرط والآداب . واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة ومعرفة علل الأحكام، وتعميمها وتخصيصها وفقا لعموم العلة وخصوصها وأمثال ذلك، ويجتهد في فهم تعقبات الإمام الشافعي وغيره ( كتعقبات الإمام محمد في موطئه وكتاب الحجج) .
ثم يجتهد ( في تطبيق المختلفات أو ترجيح الأحسن منها ) ويتمكن من تحصيل اليقين بدلالة الدلائل على تلك المسائل أو يغلب الظن والرأي بمعرفة أحكام الله تعالى .
وتفصيل هذا الإجمال أن الاجتهاد في كل عصر فرض كفاية، وليس المراد من الاجتهاد هنا هو الاجتهاد الاستقلالي مثل اجتهاد الشافعي الذي لم يكن محتاجا إلى أحد في معرفة تعديل الرجال وجرحهم ومعرفة اللغة وغيرها، وكذلك لم يكن تابعا لأحد في الدراية الاجتهادية في سائر أنواعها (بل كان مجددا ملهما في اصطلاح ذلك العصر) .
بل المقصود هو (الاجتهاد المنتسب) وهو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية و التفريع والترتيب على طريقة المجتهدين ولو كان بإرشاد صاحب مذهب .
والذي قلناه من كون الاجتهاد فرضا في كل عصر( هو مجمع عليه بين المحققين من أهل العلم) وليس الباعث على ذلك إلا أن المسائل كثيرة الوقوع غير محصورة، ومعرفة حكم الله فيها واجب، والمسطور والمدون غير كاف، والاختلافات فيها كثيرة لا يمكن حلها بدون الرجوع إلى الأدلة وطرق الرواية للمسائل المنقولة عن الأئمة المجتهدين أكثرها منقطعة لا يطمئن القلب بالاعتماد عليها، فبدون عرضها على قواعد الاجتهاد والتحقيق لا يستقيم الأمر .
وما قلناه إن طريق الاجتهاد مسدودة إلا من هذه الجهة، الباعث على ذلك أن الأحاديث المرفوعة وحدها لا تكفي جميع الأحكام بل لا بد لها من أثار الصحابة والتابعين، ولا يوجد كتاب جامع لهذا وذاك الآن ويكون مع ذلك مخدوما من العلماء ونظر فيه ونظر المجتهدين طبقة بعد طبقة غير الموطأ وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل عند من عرف الكتب المأثورة التي هي أصول الشرع، وعلم أيضا كلام أهل العلم فيها وأنظار المجتهدين في شرحها، أما المغفلون من أبناء هذا العصر الذين هم معرضون عن هذا الأمر بالكلية ومسوقون مثل الإبل المخطومة لا يدرون أين يذهبون، فهؤلاء في واد آخر، ولا يمكن تكليفهم بفهم بهذه الأمور .
خلق الله للحروب رجالا ورجالا لقصعة وثريد
يتبع
المسوى شرح الموطأ، شاه ولي الله الدهلوي، علق عليه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، ط.1/1983، دار الكتب العلمية،ج.1،صص.29ـ 30