ب ـ درجته بين كتب السنة:
يقول السيد محمد بن علوي المالكي الحسني -رحمه الله-:
«وإذا كنا قد بحثنا ـ فيما سبق ـ هل "الموطأ" من الأصول الستة؟ وناقشنا هذه القضية، فإنه ينبغي أن تعلم: أن المقصود من ذلك هو: أنه هل يدخل تحت هذا الاسم الاصطلاحي الذي تعارف عليه أهل الحديث، وأطلقوه على هذه الكتب، فقالوا: الكتب الستة، أو لا ؟ .
وإذا كانوا قد اختلفوا في دخول "الموطأ" تحت هذا الاصطلاح المعروف بـ: الكتب، أو: الأصول الستة، فإنهم لم يختلفوا في أنه أحد الكتب الإسلامية المعتمدة، وأنه الأصل الأول الذي عليه المُعول .
ولذا، فلا بد من التنبيه على هذه المسالة المهمة التي يقع فيها كثير من أهل العلم، فإنهم إذا رأوا اختلاف العلماء في "الموطأ" هل هو من الأصول الستة أو لا؟، يظنون أن هذا يدل على اختلافهم في كونه أصلا من الأصول الإسلامية التي يُرجع إليها، أو يظنون أن هذا يدل على اختلافهم في درجته بين كتب السنة كلها، أهو بعد الكتب الستة في الدرجة، أم معها؟
مع أن اختلافهم ليس إلا في تعيين أفراد مسمى هذا الاصطلاح المتفق عليه، وليس في تعيين درجة "الموطأ" بين كتب السنة عامة.
أما درجته بين كتب السنة ـ من غير نظر لذلك الاصطلاح ـ فإنه في الطبقة الأولى والدرجة العليا، قال في "كشف الظنون": «الكتب المصنفة في علم الحديث أكثر من أن تحصى، إلا أن السلف والخلف قد أطبقوا على أن أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى "صحيح البخاري"، ثم "صحيح مسلم"، ثم "الموطأ"، ثم بقية الكتب الستة ».
ويقول الإمام الشيخ شاه ولي الله الدهلوى: «وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة، فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث، فنقول: هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات، فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان في كتاب؛ كان من الطبقة الأولى، والطبقة الأولى منحصرة في الاستقراء في ثلاثة كتب: "الموطأ"، و"صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم".»
ونقل الشيخ المباركفوري نحو هذا عن الشاه عبد العزيز الدهلوى من كتاب "العجالة النافعة"، وذكر ذلك السيد محمد بن جعفر الكتاني أيضا.
وقال الشيخ محمد زكريا السهارنفوري: «إن الجمهور عدوا "الموطأ" في الطبقة الأولى من طبقات كتب الحديث »
قلت: وهذا ثابت لا شك فيه، لأنه لا يعارض أحد أن "الموطأ" قد حاز الفضائل التي يكتسب بها حائزها التقديم والتكريم، والأولية والأولوية، إذ فضل كل كتاب ـ كما يقرره علماء هذا الفن ـ إما أن يكون باعتبار المؤلِّف، أو من جهة التزام الصحة، أو باعتبار الشهرة، أو من جهة القبول، أو باعتبار حسن الترتيب واستيعاب المقاصد، وكل ذلك يوجد في "الموطأ".
قلت: فأما اعتبار المؤلف: ففضله وإمامته وجلالته؛ لا يجهلها من له أدنى إلمام بعلم الحديث، فضلا عن العلماء المتخصصين، وقد بينا في ترجمته شيئا من ذلك.
وأما جهة التزام الصحة: فإن من يُنكر تشدده، والتزامه الصحة، وبُعدَه عن غريب العلم وشواذ الحديث؛ فقد أتى منكرا من القول وزورا، وقد بينتُ ذلك مفصلا في الكلام على (منهج مالك في الموطأ وقاعدته في اختيار الأحاديث وترتيبه لها) في هذا الكتاب.
وأما اعتبار الشهرة: فقد اشتهر في عصره حتى بلغ جميع ديار الإسلام، تم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة وأقوى به عناية، وضرب إليه الناس أكباد الإبل، ورحل إليه الأمراء والخلفاء، وقد بينت هذا في مباحث (فضل الموطأ وعناية الأمة به) في هذا الكتاب.
وأما جهة القبول: فإن آثاره تدل عليه وتشير إليه، وتلقي أصحاب الكتب الستة له؛ أظهر من أن يذكر، والإمام البخاري إذا وجد حديثا متصلا مرفوعا برواية مالك، لا يعدل عنه إلى غيره؛ إلا إذا لم يكن على شرطه، فيورد له شواهد، وفي كثير من المواضع يستشهد لآثار "الموطأ" بإشارات الحديث وإيمائه، وقد صنف كثير من العلماء مواطاءات في زمنه، فشاركوه في التسمية والعمل والزمن، حتى قال له بعضهم:
«شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب.
فقال: لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله ».
فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمع بشيء منها بعد ذلك يذكر، وقد بينا هذا في الكلام على (فضل الموطأ وثناء الناس عليه) في هذا الكتاب.
وأما حُسن الترتيب والاستيعاب: فلا يخفى أنه في عصر الصحابة والتابعين ما شاع تدوين العلم بالكتابة، إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وأمر فقهاء عصره بتدوين سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عمر رضي الله عنه، فشرع في ذلك ابن شهاب الزهري ؛ لكن بدون ترتيب وتبويب، ثم بعده اشتغل بالتبويب والتصنيف كبار أهل الطبقة الثالثة، فدون ربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة طرفا من العلم، وبعدهم دون الإمام مالك ما يتعلق بالأحكام، وتكلم على جميع أبواب الفقه، وجمع من أحاديث أهل الحجاز ما كان قويا، ثم شرحها بمراسيل وبلاغات وأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين ».
(يـتـبـع)
"فضل الموطأ وعناية الأمة الإسلامية به"، ص 135 وما يليها، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1429هـ -2008م.