قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى:
"قال الله تعالى: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) [ سورة التوبة 91] .
قال أهل التفسير : (إذا نصحوا لله و رسوله) : إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية.
حدثنا القاضي الفقيه أبو الوليد بقراءتي عليه ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا يوسف بن عبد الله ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر التمار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا سهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بن يزيد ، عن تميم الداري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله و لكتابه و لرسوله ، و أئمة المسلمين و عامتهم واجبة .
قال أئمتنا : النصيحة لله و لرسوله و أئمة المسلمين و عامتهم واجبة .
قال الإمام سليمان البستي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له ، و ليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها . و معناها في اللغة الإخلاص ، من قولهم : نصحت العسل ، إذا خلصته من شمعه .
و قال أبو بكر بن أبي إسحاق الخفاف : النصح فعل الشيء الذي به الصلاح و الملاءمة ، مأخوذ من النصاح ، و هو الخيط الذي يخاط به الثوب .
و قال أبو إسحاق الزجاج نحوه .
فنصيحة الله تعالى صحة الاعتقاد له بالوحدانية ، و وصفه بما هو أهله ، و تنزيهه عما لا يجوز عليه ، و الرغبة في محابّه ، و البعد من مساخطه ، و الإخلاص في عبادته .
و النصيحة لكتابه الإيمان به ، و العمل بما فيه ، و تحسين تلاوته ، و التخشع عنده ، و التعظيم له ، و تفهمه و التفقه فيه ، و الذب من تأويل الغالين ، و طعن الملحدين .
و النصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له في ما أمر به ونهى عنه ، قاله أبو سليمان .
و قال أبو بكر : و مؤازرته ونصرته وحمايته حياً و ميتاً ، و إحياء سنته بالطلب، والذب عنها ، و نشرها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة .
وقال أبو إبراهيم إسحاق التجيبي: نصيحة رسول الله صلى الله عليه و سلم التصديق بما جاء به، و الاعتصام بسنته و نشرها ، و الحض عليها ، و الدعوة إلى الله و إلى كتابه و إلى رسوله ، و إليها و إلى العمل بها .
و قال أحمد بن محمد : من مفروضات ال قلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال أبو بكر الآجري و غيره : النصح له يقتضي نصحين : نصحاً في حياته ، ونصحاً بعد مماته ، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه و معاداة من عاداه ، والسمع و الطاعة له ، و بذل النفوس والأموال دونه ، كما قال الله تعالى : (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)[سورة الأحزاب23] .
و قال : (وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) [ سورة الحشر 8] .
و أما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير و الإجلال ، و شدة المحبة له، و المثابرة على تعلم سنته، و التفقه في شريعته ، و محبة آل بيته و أصحابه ، و مجانبة من رغب عن سنته و انحرف عنها ، و بغضه و التحذير منه، و الشفقة على أمته ، و البحث عن تعرف أخلاقه و سيره و آدابه ، و الصبر على ذلك .
فعلى ما ذكره تكون النصيحة إحدى ثمرات المحبة ، و علامة من علاماتها كما قدمنا .
و حكى الإمام أبو القاسم القشيري أن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان و مشاهير الثوار المعرف بالصفار ـ رئي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي ، فقيل : بماذا ؟ قال : صعدت ذروة جبل يوماً فأشرفت على جنودي ، فأعجبتني كثرتهم ، فتمنيت أني حضرت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعنته ونصرته ، فشكر الله لي ذلك و غفر لي .
و أما النصح لأئمة المسلمين فطاعتهم في الحق ، و معونتهم فيه ، وأمرهم به ، و تذكيرهم إياه على أحسن وجه و تنبيههم على ما غفلوا عنه و كتم عنهم من أمور المسلمين ، و ترك الخروج عليهم ، و تضريب الناس و إفساد قلوبهم عليهم .
و النصح لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم ، و معونتهم في أمر دينهم و دنياهم بالقول و الفعل ، و تنبيه غافلهم ، و تبصير جاهلهم ، و رفد محتاجهم ، و ستر عوراتهم ، و دفع المضار عنهم ، و جلب المنافع إليهم .
"الشـفـا بتعـريف حقـوق المصطـفى"
تحقـيق وتقـديم عـامر الجزار
طبعة 1425 هـ -2004م
دار الحديث القاهرة
ص 2/281.