الرابطة المحمدية للعلماء

في محاضرة بعنوان: “الإسلام بين الاستشراق والاستغراب”

د. زكرياء غاني: موضوع الاستشراق ينبغي تناوله تناولا منهجيا يفي بغرض تفكيك عناصر بِنْيَته بما يليق بقواعد المعرفة والمنهج..

 

برحاب دار الحديث الحسنية بالرباط، وبحضور باحثين ومهتمين ألقى الدكتور زكرياء غاني، أستاذ الأنثربولوجيا بجامعة مونتريال بكندا، يوم الاثنين 22 نونبر 2010 محاضرة حول موضوع "الإسلام بين الاستشراق والاستغراب".. فبعد كلمة الترحيب التي تقدم بها الدكتور أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية، استهل الدكتور غاني محاضرته بقوله أن موضوع الاستشراق ينبغي تناوله تناولا منهجيا يفي بغرض تفكيك عناصر بِنْيَته بما يليق بقواعد المعرفة والمنهج..

وركز الدكتور غاني في مداخلته على الإسهام البارز للدكتور إدوارد سعيد صاحب كتاب "الاستشراق" في ميدان الدراسات الاستشراقية مشيرا إلى أن دراستين سابقتين زمنيا حاولتا أيضا مقاربة موضوع الاستشراق.. يتعلق الأمر  بمقالتين مؤسستين لكل من عبد الله العروي وأنور عبد المالك نشرتا في مجلة Diogène  . نشر أنور عبد المالك مقالته في 1963 تحت عنوان "Orientalisme en Crise" بينما نشر عبد الله العروي مقالته  في 1973 بعنوان : "Pour une méthodologie des études islamiques : l’Islam au miroir de Gustave E.von Grunebaum "

و أبرز الأستاذ المحاضر أن العروي آخذ على Von Grunebaum والمستشرقين عموما تقزيم التاريخ وتناولهم الماهوي "essentialiste" للثقافات الإسلامية. وبالتالي فوفقا لهذا المنظور الاستشراقي تغدو الأمثلة التاريخية المتباينة والمختلفة في الزمان والمكان  حينما تفرغ من خصوصياتها براهين للتدليل على حقائق ثقافية مسلم بها مسبقا...

و بين الأستاذ غاني أن أنور عبد المالك سعى من خلال دراسته المراجعة والتقييم النقدي لمناهج وأدوات المستشرقين في دراستهم للشرق، وقد لخص الأستاذ المحاضر  استنتاجات أنور عبد المالك  مبرزا أن الاستشراق، سواء في شقه العلمي أو في بعده الامبريالي، اعتبر الشرق والمشارقة كموضوعات  (objets) بحيث حُكم عليه بالغيرية الملازمة التي أضحت ماهية  إنسان الشرق، وأن ثمة ماهية تكَوِّن جوهر الشرق وساكنته بشتى  تجاربها و اختلاف مشاربها. وهذه الماهية هي في الوقت نفسه تاريخية، ضاربة بجذورها في التاريخ، ولا تاريخية، لأنه لا يعتريها التطور التاريخي والاجتماعي.

وأوضح الأستاذ المحاضر أن هذا يفضي حسب أنور عبد المالك إلى نوع  من التقسيم أو الترتيب النوعي بمفهوم علماء الحيوان(Zoologie): فهناك Homo africanus Homo islamicus, و Homo religiosus، أما الإنسان الأوروبي فهو الإنسان لا غير..

لا محالة- يستنتج الدكتور غاني-أن التبعات المنهجية لهذه النظرة المتعالية كانت رهيبة جدا حيث أن تاريخ أمم الشرق- والتاريخ هنا يؤخذ في مجالاته المتفرعة، اللغوية  والدينية والأركيولوجية- أصبح أكثر مجالات البحث للتنقيب عن اللغة البدائية ومقتضياتها الميثولوجية لدرجة أن التاريخ -المنفصل عن أي تطور اجتماعي وثقافي- أضحى البنية التي تؤسس وتحكم الحاضر الذي يعتبر بدوره امتدادا باهتا لتاريخ عريق..والنتيجة المنطقية لهذا التجميد التاريخي هي المرور من التأريخ  العلمي إلى الغرائبية Exotisme، وكنتيجة لهذا كله فإن العمل العلمي والفكري للباحثين والدارسين من بلدان الشرق سيُتجاهل ويُسكت عنه بشكل فظيع....

وخلص الأستاذ المحاضر إلى أن دراستي العروي و أنور عبد المالك مهدتا الطريق أمام ادوارد سعيد، الذي يشير إليهما مرارا في كتابه الاستشراق.

ثم استفاض الدكتور غاني في إبراز الرؤية المنهجية لإدوارد سعيد في تفكيكه لبنية الخطاب الاستشراقي، مبرزا أن  إدوارد سعيد حدد في كتابه المؤسِّس "الاستشراق" إطار دراسته النقدية في البحث عن الأنساق التي تُكوِّن الاستشراق وتُظهره كعلم منسجم رغم غياب أي تطابق فعلي مع شرق حقيقي، فهو إذن انسجام مركب ووهمي. وإن  الدرس الكبير الذي يخُطُّه سعيد في كتابه هو أن كل فكر هو بالضرورة مخاض و نتيجة تراكم وفعل تاريخي، حيث يتقاطع فيه الثقافي بالاجتماعي، السياسي بالاقتصادي، الديني بالنفسي، الجيوستراتيجي بالعسكري..

أكيد-يضيف الأستاذ المحاضر- أن كتاب "الاستشراق" يعتبر المؤسس ليس فحسب لما يمكن أن نسميه "علم تفكيك إديولوجية الاستشراق"، ولكن لعلوم كثيرة أخرى، بيد أنه لم يكن الأول،لأنه سبقته دراسات نقدية عميقة لا يمكن الاستهانة بها. إن ما سمي علم الاستشراق حسب  إدوارد سعيد هو في الحقيقة أداة إيديولوجية لنشر أفكار عن الشرق متبناة سلفا، في ميادين الاقتصاد والدين والسياسة و العلوم أكثر منها دراسة تحليلية لمجتمعات مختلفة تمتد على ساحات متباينة. فالشرق من هذا المنحى ليس مجالا جغرافيا بل سلسلة من المنافع التي تخلقها وتزكيها الاستكشافات العلمية و التحليلات النفسية و الوصفات الجغرافية والاجتماعية...

إن الاستشراق في بعده البنيوي إرادة ورغبة قوية في فهم و حصر ودمج، وربما تركيب، عالم مختلف تماما. وخلاصة الكتاب –حسب الدكتور غاني- تعتبر عَصْفا  بكل التصورات الإيديولوجية الاستعلائية التي ساهمت في ترسيخ هيمنة الغرب على الشرق مفككا أسس الامبريالية  الفكرية التي تختزل الحضارات إلى تعميمات مطلقة وسرديات كبرى تحصر الآخر في كليشهات ماهوية  تلخص جوهر الوظيفة النفسانية العربية. فالعربي-حسب القراءة الاستشراقية- بطبيعته إمّعي، يعيش في مجتمع تنبني علاقاته على الزبونية وثقافة العار والخلاف، حيث المجد لا يتأسس إلا على عقلية الهيمنة على الآخرين و حيث أن الثأر يعتبر فضيلة والموضوعية رذيلة...

و أضاف الأستاذ المحاضر أنه لما احتكت أوربا بالإسلام قوّت نسقها بتمثلات Représentations  حول الشرق إلى درجة أنها جعلت من الإسلام الماهية الخارجية، الغيرية، التي بمواجهتها ومجابهتها تكونت الحضارة الأوروبية كنسق مغلق وذلك ابتداء من القرون الوسطى...ذلك لأن الإسلام مثَّل بالفعل استفزازا حقيقيا، إذ أنه انتشر علميا و سياسيا و ثقافيا بسرعة مذهلة، و أنه قريب جغرافيا وحتى ثقافيا،  فقلب الإسلام هو ما اصطلح عليه المستشرقون proche orient  : الشرق القريب...

ومن ناحية أخرى بسط الدكتور غاني المداخل المنهجية التي اعتمدها إدوارد سعيد في تحليله وتركيبه لبنية الاستشراق، مبرزا أن  سعيد استفاد من ميشيل فوكو باعتباره بنيويا تفكيكيا دون أن يكون فوكًوِيا خالصا، لكنه بعيد كل البعد عن التحليل الوظيفي Fonctionnalisme  الذي انتقده بشدة باعتباره تائها عن النص وبعيد عن الميدان.. وخلص الدكتور زكرياء إلى أن سعيد ينتمي أنثربولوجيا إلى المدرسة التحليلية/التفسيرية  Théorie interprétative التي أرسى دعائمها الأنثربولوجي الأمريكي كليفورد جيرتز..

 وختم الدكتور غاني مداخلته بالتأكيد على أن الاستغراب  يبقى رهين الاستشراق.. مبرزا أن دراسة الإنتاج الغربي من طرف علماء الشرق يستدعي عُدّة منهجية صلبة متكافئة مع تلك المتوفرة عند المستشرقين.. وبهذا المعنى يمكن اعتبار إدوارد سعيد نفسه  مؤسسا لعلم الاستغراب باعتباره نافذا متمرسا لبنية التفكير الغربي عبر دراسة مناهج المستشرقين وتحليل البنيات المحدِّدة لرؤيتهم لعالم الشرق...

وخلاصة القول أن القيمة المضافة التي اجتهد الأستاذ المحاضر في إبرازها هي ضرورة التناول المنهجي لظاهرة الاستشراق وعدم الاكتفاء بأحكام القيمة، وقد أعطى المثل في محاضرته بإبراز أسس التفكير الاستشراقي كما أبرز الأسس المنهجية التي اعتمدها إدوارد سعيد كأهم مفكِّك للعقل الإستشراقي، وقد توفق الدكتور زكرياء غاني في ذلك إلى حد كبير...

                                                                                           إعداد: د. جمال بامي   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق