مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

في علامة محبته صلى الله عليه و سلم

         قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى:

      “اعلم أن من أحب شيئاً آثره و آثر موافقته ، و إلا لم يكن صادقاً في حبه، و كان مدعياً . فالصادق في حب النبي صلى الله عليه و سلم من تظهر علامة ذلك عليه، و أولها الاقتداء به ، و استعمال سنته ، و اتباع أقواله و أفعاله ، و اجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره و يسره ، و منشطه و مكرهه ، و شاهد هذا قوله تعالى : )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله([ سورة آل عمران 31].
وإيثار ما شرعه و حض عليه على هوى نفسه تعالى و موافقة شهوته ، قال الله تعالى : )والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة([ سورة الحشر9]، و إسخاط العباد في رضا الله تعالى.

         حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسن الصيرفي ، و أبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا مسلم بن حاتم ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أبيه عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال أنس ب ن مالك رضي الله عنه : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : “يا بني ، إن قدرت أن تصبح و تمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل”.

ثم قال لي : “يا بني ، و ذلك من سنتي، و من أحيا سنتي فقد أحبني ، و من أحبني كان معي في الجنة” .

          فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله و رسوله ، و من خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ، و لا يخرج عن اسمها .

و دليله قوله صلى الله عليه و سلم للذي حده في الخمر فلعنه بعضهم ، و قال : ما أكثر ما يؤتى به !

         فقال النبي صلى الله عليه و سلم : “لا تلعنه ، فإنه يحب الله و رسوله” .
و من علامات محبة النبي صلى الله عليه و سلم كثرة ذكره له ، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره.  و منها كثرة شوقه إلى لقائه ، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه .

        و في حديث الأشعريين عند قدومهم المدينة أنهم كانوا يرتجزوون :

غداً نلقى الأحبة  محمداً و صحبه.

و تقدم قول بلال، و مثله قال عمار قبل قتله . و ما ذكرناه من قصة خالد بن معدان .

          و من علاماته مع كثرة ذكره رسول الله تعظيمه له و توقيره عند ذكره و إظهار الخشوع و الإنكسار مع سماع إسمه.

           قال إسحاق التجيبي : “كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم و بكوا”.

         و كذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له و شوقاً إليه ، و منهم من يفعله تهيباً و توقيراً .

         و منها محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه و سلم ، ومن هو بسببه من آل بيته و صحابته من المهاجرين و الأنصار ، و عداوة من عاداهم ، و بغض من أبغضهم و سبهم ، فمن أحب شيئاً أحب من يحبه ، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحسن و الحسين : “اللهم أحبهما فأحبهما”.

         و في رواية في الحسن : “اللهم إني أحبه فأحب من يحبه” .  و قال: “من أحبهما فقد أحبني ، و من أحبني فقد أحب الله ، و من أبغضهما فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض الله”.

         و قال : “الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم و من أبغضهم فببغضي أبغضهم، و من آذاهم فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى الله، و من آذى الله يوشك أن يأخذه”.

         و قال في فاطمة رضي الله عنها : “إنها بضعة مني ، يغضبني ما أغضبها”.
و قال لعائشة في أسامة بن زيد : “أحبيه فإني أحبه” .

         و قال : “آية الإيمان حب الأنصار، و آية النفاق بغضهم” .

         و في حديث ابن عمر : “من أحب العرب فبحبي أحبهم، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم”، فبالحقيقة من أحب شيئاً أحب كل شيء يحبه، و هذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس.

         و قد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه و سلم يتتبع الدُّباء من حوالي القصعة : فما زلت أحب الدباء من يومئذ .

         و هذا الحسن بن علي و عبد الله بن عباس وابن جعفر أتوا سلمى و سألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و كان ابن عمر يلبس النعال السبتية، و يصبغ بالصفرة، إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل نحو ذلك.

         و منها بغض من أبغض الله ورسوله، ومعاداة من عاداه ، ومجانبة من خالف سنته و ابتدع في دينه ، و استثقاله كل أمر يخالف شريعته ، قال الله تعالى : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) [ سورة المجادلة 22 ] .

و هؤلاء أصحابه صلى الله عليه و سلم قد قتلوا أحباءهم ، و قاتلوا آباءهم و أبناءهم في مرضاته، و قال له عبد الله بن عبد الله بن أبي : لو شئت لأتيتك برأسه، يعني أباه .

        و منها ان يحب القرآن الذي أتي به صلى الله عليه و سلم ، و هدي به و اهتدى، و تخلق به حتى قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن، و حبه للقرآن تلاوته ، و العمل به و تفهمه . ويحب سنته ، و يقف عند حدودها .

         قال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه و سلم ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه و سلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يدخر منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة .

        وقال ابن مسعود : لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله .

        ومن علامات حبه للنبي صلى الله عليه و سلم شفقته على أمته ، ونصحه لهم ، وسعيه في مصالحهم ، ورفع المضار عنهم ، كما كان الرسول صلى الله عليه و سلم بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً .

         ومن علامة تمام محبته زهد مدعيها في الدنيا ، وإيثاره الفقر ، واتصافه به، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد الخدري : (إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي، أو الجبل إلى أسفله). وفي حديث عبد الله بن مغفل : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم يا رسول الله ، إني أحبك . فقال: “أنظر ما تقول”. قال: والله إني أحبك، ثلاث مرات . قال : “إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافاً” . ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه”.

“الشـفـا بتعـريف حقـوق المصطـفى”

تحقـيق وتقـديم عـامر الجزار

طبعة 1425 هـ -2004م

دار الحديث القاهرة

ص278

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق