مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.

قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

ومن لطائف الحكايات ما في نفح الطيب: “أن يهوديا أتى المسجد في خلافة أبي بكر الصديق، فقال: أيكم وصي محمد، فأشاروا إلى الصديق، فقال: إني سائلك عن أشياء لا يعلمهن إلا نبي أو وصيُّ نبي، فقال: سل، قال: أخبرني عن ما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله، فقال: هذه مسائل الزنادقة وهم بقتله، فقال ابن عباس: ما أنصفتموه، إما أن تجيبوه أو تصرفوه إلى من يجيبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي  اللهم اهد قلبه وثبت لسانه. فقام أبو بكر معه إلى علي، فقال علي: أما ما لا يعلمه الله فقولكم: عزير ابن الله، والله لا يعلم لنفسه ولدا، وقول المشركين: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قال تعالى: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) [يونس، الآية: 18]. وأما ما ليس عند الله فالظلم، وأما ما ليس لله فالشريك، فأسلم، فقبل أبو بكر رأس علي وقال له: يا مفرج الكربات.

ولا حاجة له تعالى إلى المؤثر، وهو قوله: (ولم يولد)، أي لم يتولد وجوده عن شيء، أي لا سبب لوجوده، ومنه يؤخذ القدم، ويؤخذ البقاء من العلم بالقدم، لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه، أو يؤخذ من قوله: (لم يلد)؛ إذ أقوى الأغراض من الولد لاسيما في حق من له ملك أن يكون وارثا لوالده بعد فنائه وقائما مقامه، ومن لا يفنى ولا يخشى على ملكه الضيعة لا حاجة له إلى الولد، ويؤخذ وجوب الوُجُودِ من القدم، إذ القديم لا يكون وجوده إلا واجبا، إذ لو كان جائزا لاحتاج إلى مرجح له على مقابله من العدم فيكون حادثا، وقد فرض قديما هذا خلف، وقوله: (ولم يكن له كفؤا أحد) [سورة الإخلاص، الآية: 4] دال على المخالفة للحوادث. ومن وجوب هذه الصفات يعلم استحالة أضدادها، وجواز ما لا ينافيها، ثم نقول، ليس الغنى المطلق قاصرا على انتفاء الاحتياج إلى المحل والمخصص كما تُوهِمُه عبارة الصغرى، بل هو شامل لانتفاء جميع وجوه الانتفاع وجميع الأغراض عن أفعاله وأحكامه، نعم تنبني عليها حكم ومصالح ترجع إلى منفعة الخلق تفضلا وإحسانا لا إليه تعالى، وبذلك تعلم أنه لا منفعة له في طاعة العباد، كما لا ضرر عليه في معصيتهم، وما أحسن قول ابن عطاء الله في مناجاة الحكم: “أنت الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنيا عني”، وقال قبل ذلك: “لا تنفعه طاعتك، ولا تضره معصيتك، وإنما أمرك بهذه ونهاك عن هذه لما يعود عليك”. وشواهد ذلك من الكتاب والسنة مستفيضة، وفي قضاء العقل أيضا، قال تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين)[العنكبوت، الآية: 6]، (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)[فصلت، الآية: 46]، (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)[ النمل، الآية: 40]، (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) [الروم،الآية:44]، (وماتقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) [المزمل،الآية:20]، (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)[البقرة، الآية: 272]، (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم)[ الإسراء، الآية: 7.]. وفي الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، ثم قال: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، رواه مسلم وغيره. وفي آخر: (إنما خلقت الخلق ليربحوا عليّ ولم أخلقهم لأربح عليهم) ، ومن الأدعية النبوية: (يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، هب لي ما لا ينقصك، واغفر لي ما لا يضرك). ومن الأدلة العقلية في ذلك أنه لو انتفع بطاعة عبيده لما خلق فيهم سواها؛ لأنه الخالق لأفعالهم بدليل برهان الوحدانية المطابق لآية: (والله خلقكم وما تعملون)[ الصافات، الآية: 96.]. وأما قول الشيخ أبي الحسن: “وليس من الكرم ألا تحسن إلا لمن أحسن إليك وأنت المفضال الغني، بل من الكرم أن تحسن إلا من أساء إليك”، فقد حذر الشيوخ منه؛ لأن أحدا لا يحسن إلى الله ولا يسيء إليه كما تقرر، فينبغي لقارئه إسقاط لفظ إليك. (عم) ماض بتقدير قد، أو اسم مقصور من عام كَبَرَّ في بار، وعلى كلٍّ فهو حال مؤكدة لصاحبها أي الغنى المطلق أو لعاملها إذا جعل صاحبها المستتر في المطلق، وعلى أنه اسم فوقف عليه بالسكون على لغة ربيعة، وعلى كلِّ تخفيف الميم للوزن.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 50-51.

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق