مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

فن السماع الصوفي

 ظهر في المشهد الفني والثقافي مؤخرا اهتمام كبير بما يعرف بفن »السماع الصوفي»، بحيث نُظّمت مهرجانات دولية تخص هذا النوع من الفن، وأصبحت بعض القنوات المغربية تخصص مساحة معينة لفن السماع…

وبداية يمكن القول بأن السماع الصوفي هو ذلك الفن الخاص الذي يُتداول في الزوايا، وذلك من أجل غايات تربوية وروحية محددة، وقد ارتبط ظهور هذا الفن بالتصوف منذ العهود الأولى له؛ أي منذ القرن الثالث الهجري، وكانت الغاية منه: التعبير عما يختلج في دواخل الصوفية من أحوال ومقامات، كما كان تعبيرا إشاريا عما وصلوه من أطوار في معارجهم الروحية، لذلك فهو نشاط يرتبط بالسياق الصوفي وله خصائصه وشرائطه المحددة.

والسماع أداة من أدوات ترسيخ الهوية الإسلامية، وله وظائف تربوية؛ إذ يستعمل داخل الزوايا كأداة من أدوات تأهيل المريد، وذلك للسلوك به في أطوار التجربة الروحية…، وهو مباح شرعا، يدل على ذلك امتنان الله تعالى على عباده إذ قال: ﴿يزيد في الخلق ما يشاء﴾.[1] جاء في التفسير: “هو الصوت الحسن”، قال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال: “أنت الهيثم الذي تزيّن القرآن بصوتك جزاك الله خيرا”. وقيل في الخبر في هذه الآية: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن…”.[2]وفي الحديث: “ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت”.[3]

ولا خلاف في أن الأشعار أُنشِدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان، هذا ظاهر من الحال، ثم ما يوجب للمستمع توفر الرغبة على الطاعات، وتذكر ما أعدّ الله تعالى لعباده المتقين من الدرجات، ويحمله على التحرز من الزلات، ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات، مستحب في الدين، ومختار في الشرع…[4]

ففي صحيح مسلم، عن عائشة- رضي الله عنها-، أنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يؤيد حسان بروح القدس (أي بجبريل) ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”.[5]

وعنها أيضا- رضي الله عنها- أنها قالت- كما روى البخاري في صحيحه-: “دخل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بِعاث (من أشهر أيام العرب)، فقال أبو بكر: أمزامير  الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالها مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا”.[6]

وعن سعيد بن المسيب قال: “مرّ عمر في المسجد وحسّان ينشد، فلحظه عمر [أي نظر إليه نظرة إنكار]، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك [يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم]، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: “أُنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أجب عني، اللهم أيّده بروح القدس؟” قال: نعم”.[7]

وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر، وإن لم يقصد أن يكون شعرا، فقد قال أنس بن مالك- رضي الله عنه-: “كان الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون:

 نحن الذين بايعوا محمدا        على الجهاد ما بقينا أبدا

فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة          فأكرم الأنصار والمهاجره”[8]

   

وعن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- قال: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خَيْبَر، فسِرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هُنيهاتِك؟ قال: وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم ويقول:

 اللهم لولاك ما اهتدينـا      ولا تصدّقنا ولا صلينا

 فاغفر فداء لك ما اقتفينا      وثبِّت الأقدام إن لاقينا

وألقِينّ سكينة علينـــا     إنّا إذا صيح بنا أتينــا

               وبالصّياح عوّلوا علينا

    

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من هذا السائق؟”، قالوا: عامر بن الأكوع، قال: “يرحمه الله… الحديث”.[9]

وذكر الإمام الشاطبي في الاعتصام أن أبا الحسن القرافي الصوفي يروي عن الحسن البصري- رحمه الله- أن قوما أتوا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنّى، فقال عمر- رضي الله عنه-: من هو؟ فذُكر الرجل، فقال: قوموا بنا إليه، فإنّا إن وجهنا إليه يظن أنّا تجسسنا عليه أمره، قال: فقام عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا الرجل وهو في المسجد، فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال: يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لله فأحق من عظمناه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: ويحك، بلغني عنك أمر ساءني. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتمجّن في عبادتك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسي. قال عمر: قلها فإن كان كلاما حسنا قلته معك، وإن كان قبيحا نهيتك عنه، فقال:

       وفؤادي كلما عاتبتُــــه    في مدى الهجران يبغي تعبـي

       لا أُراه الدهر إلا لاهيـــا   في تماديه فقد برَّح بــــي 

       يا قرين السوء ما هذا الصِّبا    فنِي العمر كذا في اللعــب 

       وشباب بان عني فمضــى    قبل أن أقضـي منه أربــي 

       ما أرجِّي بعده إلا الفنـــا    ضيّق اليب عليّ مطلبـــي

       ويح نفسي لا أراها أبــدا     في جميـــل لا ولا ي أدب

       نفس لا كنتِ ولا كان الهوى   راقبي المولى وخافي وارهبي

 

فقال عمر- رضي الله عنه-:

  نفس لا كنتِ ولا كان الهوى       راقبي المولى وخافي وارهبي

ثم قال عمر- رضي الله عنه-: “على هذا فليغنِّ من غنّى”.[10]

وقال العلامة النووي: “لا بأس بإنشاد الشعر إذا كان مدحا للنبوة أو الإسلام، أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد ونحو ذلك من أنواع الخير”.[11]

وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ، ويزيِّنه بالسجع، ويشوق الناس إلى الحج بوصف البيت والمشاعر ووصف الثواب عليه، جاز لغيره ذلك على نظم الشعر، فإن الوزن إذا أضيف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب، فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه وجماله…

ولما كانت الغاية من الإنشاد: الإرشاد والمواعظ والفوائد، فإن من طبيعة سماعه إثارة كوامن النفوس، وتهييج مكنونات القلوب، بما فيها من الأنس بالحضرة القدسية، والشوق إلى الأنوار المحمدية، مما اتصف به السادة الصوفية الذين لم يحجبوا بالأصوات لهوا، ولا يجتمعون عبثا، وهم في واد، والناس في واد آخر، والسر أنهم سمعوا ما لم يسمع الناس، وعرفوا ما لم يعرف الناس، فسماعهم يثير أحوالهم الحسنة، ويظهر وجدهم، ويبعث ساكن الشوق ويحرك القلب، ولما كانت قلوبهم بربهم متعلقة، وعليه عاكفة، وفي حضرة قربه قائمة، كان السماع يسقي أرواحهم، ويسرع في سيرهم إلى الله تعالى، خلافا لسماع الفسقة اللئام، يجتمعون على اللهو وآلات الطرب، فيبعث ما في قلوبهم من الفحش والفسق، وينسيهم واجباتهم تجاه الله تعالى، وعلى ذلك لا يمكن قياس الأبرار بالفجار، ولا الصالحين على الطالحين…[12]

وقد نقل محمد السفاريني الحنبلي،[13] عن إبراهيم بن عبد الله القلانسي،[14] رحمه الله تعالى؛ أن الإمام أحمد قد أقر الصوفية على ذلك وامتدح أحوالهم، فقال: “لا أعلم أقواما أفضل منهم. قيل إنهم يستمعونويتواجدون، قال: دعوهم يفرحوا مع الله ساعة”.[15]

وقال السفاريني أيضا: “والسماع مهيّج لما في القلوب، محرك لما فيها، فلما كانت قلوب القوم معمورة بذكر الله تعالى، صافية من كدر الشهوات، محترقة بحب الله، ليس فيها سواه، كان الشوق والوجد والهيجان والقلق كامنا في قلوبهم كمون النار في الزناد، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها؛ فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم فيستثيره بصدمة طروقه، وقوة سلطانه، فتعجز القلوب عن الثبوت عند اصطدامه، فتبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصعقات لثوران ما في القلوب، لا أن السماع لا يحدث في القلوب شيئا”.[16]

وقد سئل الإمام الجنيد: ما بال الإنسان يكون هادئا، فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول، بقوله: ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾.[17] استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حرّكهم ذكر ذلك”.[18]

فالسماع الصوفي إذن يعد من أكثر الفنون تعبيرا عن الشخصية الحضارية المغربية؛ وعنصرا جماليا يعيش من خلاله الإنسان ثقافته الإسلامية بمختلف تجلياتها وأبعادها…

  الهوامــــــش: 

[1]– سورة فاطر، الآية: 1.

[2]– الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي، ومحمود حامد عثمان، دار الحديث، القاهرة، ط: 1428ھ-2007م، 7/600.

[3]– الشمائل المحمدية، أبو عيسى الترمذي، تحقيق: عزّت عبيد الدّعّاس، دار الحديث، بيروت، لبنان، ط3، 1408ھ-1988م، رقم الحديث: 314، من رواية قتادة عن أنس، ص: 150.

[4]– الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط: 1426ھ-2005م، ص: 336.

[5]– صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت، رقم الحديث: 2490.

[6]– صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام، رقم الحديث: 902.

[7]– صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم الحديث:3212.

[8]– صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب حفر الخندق، ح: 2835.

[9]– صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحُداء وما يُكره منه، رقم الحديث: 6148.

[10]– الاعتصام، الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الدار الأثرية، عمّان، الأردن، ط2، 1428ھ-2007م، 1/99-100.

[11]– صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت، 8/287.

[12]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص: 139-140.

[13]– هو محمد بن أحمد بن سالم السفاريني (1114-1188ھ-1702-1774م)، ولد بقرية سفارين: من قرى نابلس ونشأ بها، عالم بالحديث والأصول والأدب، محقق، صاحب تآليف كثيرة وتصانيف شهيرة. من تآليفه: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، شرح ثلاثيات أحمد بن حنبل، كشف اللثام في شرح عمدة الأحكام، البحور الزاخرة في أحوال الآخرة…، ترجمته في: الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط17، 2007م،  6/14؛ غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، محمد السفاريني الحنبلي، د.ط، د.ت، مقدمة المحقق.

[14]– أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الزبيري المعروف بالقلانسي (ت359ھ)، الفقيه العالم بالكلام، الإمام الكامل، والرجل الصالح الفاضل. له تآليف حسنة، منها: كتاب في الإمامة والرد على الرافضة. ترجمته في: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن محمد مخلوف (ت1360ھ)، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1428ھ-2007م، 1/221.

[15]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 363.

[16]– غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، أحمد بن سالم السفاريني (ت1188ھ)، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1417ھ-1996م، 1/126-127.

[17]– سورة الأعراف، الآية: 172.

[18]– تاج العارفين الجنيد البغدادي، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط3، 2007م، ص: 131.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق