وحدة الإحياءقراءة في كتاب

فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام.. مراجعة نقدية في المفاهيم والمصطلحات الكلامية للدكتور عبد المجيد الصغير

صدرت سنة 2011 الطبعة الأولى من كتاب للدكتور عبد المجيد الصغير حول موضوع كان وسيبقى مثار نقاش في الأوساط العلمية والفكرية بمختلف توجهاتها ومدارسها، يتعلق الأمر بكتاب: “فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام.. مراجعة نقدية في المفاهيم والمصطلحات الكلامية“، الصادر عن  دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة.

يتكون الكتاب من مدخل وثلاث فصول:

المدخل معنون بـ: “إشكالية التأريخ للنص وتأويله في الفكر الاسلامي”.

الفصل الأول:  في البدء كانت السياسة.
الفصل الثاني: الفقه الأكبر كلام في السياسة.
الفصل الثالث: الخلاف الكلامي: التباس المفاهيم وإشكالية المصطلح.

لا تنطلق حضارة أمة من الأمم إلا من خلال “نص مؤسس” يعد بمثابة دستور لها، تجعله منطلقا للأسس والقواعد المنظمة لحياتها والموجهة لتفكيرها وفعاليتها الحضارية.. كما تبرز سلطة النص ومركزيته  في العلوم الإنسانية بكثافة بصدد عملية التأريخ  لها ته العلوم التي لا تكاد تخلو من عوائق مصاحبة لها، نجدها حاضرة بقوة  في التأريخ للفكر الإسلامي، وبوجه خاص العائق الأيديولوجي الذي يتجلى في سيادة نزعة إقصائية نافية لكل مخالف لها؛ من فرق كلامية وطرق صوفية، ولما أمكن تجاوز هذا العائق في بداية القرن العشرين برز عائق آخر حادث، ليس أقل أثرا من سابقه، فرضه سياق المركزية الغربية..

وهو العائق المتمثل في المعرفة الاستشراقية التي فرضت نمطا جديدا من التفكير والمقاربة على الباحث في الفكر الإسلامي، حيث اعتبرت كل ما أنتجه العقل الاسلامي مجرد حلقة وصل بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الغربية الحديثة، وهو ما أثر سلبا على المدرسة الاصلاحية الاسلامية بزعامة محمد عبده وتلامذته، لتقع بذلك في رد فعل دفاعي يشدد على أصالة الفكر الاسلامي وينفي كل التهم عنه، ويمكن الحديث هنا عن كتابات مصطفى عبد الرزاق  وعلي سامي النشار وغيرهم..

ويضيف الكاتب عائقا معرفيا ثالثا حال دون قيام بحث علمي في كتابة تاريخ الفكر الإسلامي، وهو “حداثة اتصال المفكر المعاصر بالمادة الاساسية للتأريخ للفكر الإسلامي خصوصا الفكر المعتزلي الذي ظل محجوبا عن التداول إلا ما كان من حديث الخصوم عنه، وشكلت موسوعة المغني للقاضي عبد الجبار التي تم تداولها مؤخرا قفزة منهجية في هذا الأساس لتجاوز القصور الحاصل في التداول السليم للفكر الاعتزالي والذي كانت النزعة الإقصائية التي طبعت الفكر الاسلامي تجاه المخالف عاملا رئيسا فيه.

وتبرز النزعة الإقصائية بشدة في تصنيف الفرق الكلامية، في سياق التأريخ لها، إلى فرقة ناجية وأخرى ضالة مبتدعة مصيرها النار، هذا التأريخ الذي يتم “بطريقة معكوسة مع سبق الإصرار وتعمد التحريف والقراءات المغرضة في كثير من المواطن”، ومن أولئك الذين نالهم هذا التأويل التحريفي والتأويل الإسقاطي من طرف مؤرخي الملل والنحل المنتمين في اغلبهم للسلفية أو الأشعرية دون أدنى اعتبار لعوامل نشوء التيار او التمعن في مقاصده ونصوصه نجد المعتزلة والجهمية.

ونظرا لسيادة هذا المنهج الإقصائي في التأريخ للفكر الاسلامي الاحادي الرؤية، يقترح الكاتب عبد المجيد الصغير لمعالجة هاته “الخطيئة العلمية” ضرورة إعادة كتابة تاريخ المتن الكلامي، كيفما كان انتماءه في ضوء تحليل البنية اللغوية للنص، وكذا تحليل الظرفية التاريخية التي ظلت في الغالب مغيبة عند أغلب الذين يتصدرون لتأريخ وتقييم النص الكلامي، والأمر لا يقتصر على علم الكلام فقط، وإنما يشمل إعادة التأريخ للفكر الاسلامي كاملا دون إغفال للعلاقة بين نشأة العلم أو انتاجه وبين مقتضيات تلك النشأة ومقاصدها العامة، وأن يتم كل ذلك في ضوء الدراسات والمناهج المعاصرة.

وفي هذا الإطار، نجد محاولات حديثة لتجديد النظر في الفكر الاسلامي مستفيدة من المناهج المعاصرة للعلوم الإنسانية، غير أن  ذلك لم يعصمها من الوقوع في مزالق منهجية جعلت كل تلك الجهود مرهونة لرؤى أيديولوجية ضيقة، فهي وإن ادعت العلمية والموضوعية والتنوع المنهجي، إلا أن نزعتها التجديدية قد اصطدمت بهموم أيديولوجية قللت من طابعها التحديثي الذي رامت الظهور به وأصبحت تكرس تلك النزعة التي رأيناها في كتب الملل والنحل.

ولذلك فلا مخرج من هذا الوضع، حسب الكاتب، إلا بإعادة النظر في التأريخ للفكر الاسلامي انطلاقا من اعتبارات علمية ومعرفية صرفة، ومن خلال النظر الى مجمل العلوم والمعارف في أبعادها الكلية والشاملة دون التحيز لأي منها، مع الاستفادة من المناهج وطرائق البحث المعاصرة في مختلف العلوم والمعارف.
في ضرورة النقد المفاهيمي

سعيا لتجاوز حالة الفوضى في المفاهيم والمصطلحات، كان لزاما التأسيس للنقد والتأصيل للمفاهيم خاصة، وأن أي إصلاح لأوضاعنا، وأية محاولة لإحداث النقلة الحضارية عبر استئناف العقل المسلم لعطائه الفكري، يقتضي المرور عبر إصلاح مفاهيمنا وأحكامنا، مستلهمين في ذلك منهج القرآن الكريم وروح المرحلة الاولى من تاريخ الحضارة الإسلامية في تجاوز لكل التصنيفات الكلامية القديمة التي ترهننا لواقع اجتماعي وسياسي مخالف للواقع الذي نعيشه، وتحجب عنا الأسباب الحقيقية التي بررت الخلاف وسمحت به..

فالنظر إلى الأسباب السياسية والاجتماعية وحدها يظل قاصرا عن تحديد أسباب نشأة الخلاف ما لم يبحث في الاسباب اللغوية والاصطلاحية التي شكلت عاملا أساسيا  في تعميق الشرخ، فالمزج بين الاسباب السياسية والاجتماعية وكذا اللغوية أمر لازم لتجاوز الاخفاق التاريخي والتأسيس لنقد سليم.

نظرت الفلسفة اليونانية إلى الانسان باعتباره “حيوانا اجتماعيا”، ومن ثم انشغاله الدائم بالسياسة حتى قيل أنه كائن سياسي في تلازم مع بعده الاجتماعي، وهذا النظر وإن كان ناشئا في بيئة مفارقة للبيئة الإسلامية غير أنه يصدق عليها، وهو ما يفسره الجدل السياسي داخل المجال الاسلامي الأمر الذي جعل مؤرخ الفرق الشهرستاني يعتبر أن أعظم خلاف عرفته الامة حتى سلت من أجله السيوف هو المتعلق بالإمامة.

ينقل الكاتب قول الشهرستاني مبررا ومفسرا في الآن نفسه  الصراع على السلطة، بحيث “… ما كان بالإمكان أن تسل السيوف من أجل الإمامة لولا اعتقاد راسخ بضرورة، السلطة، في التغيير الاجتماعي…” والنموذج المرجعي عند الجميع هو التجربة السابقة التي جعلت من المدينة مركز الانطلاق، “من هنا أهمية الوقوف على طبيعة الظاهرة الإسلامية كظاهرة سيكون لها ما بعدها معرفيا وسياسيا”؛ بحيث ستكون مرجعا لما بعدها  كما أنها تنهض بدور تأصيلي لأغلب المصطلحات التي سيتم تداولها فيما بعد.

فالإسلام، باعتباره رسالة شاملة، أحدث تغييرا عميقا في بنية المجتمع العربي، حيث قام من جهة بعملية “ترشيد” للمفاهيم القديمة الموروثة من المجتمع القبلي، وبث مجموعة مفاهيم لا يمكن إدراكها إلا في بعدها الاجتماعي والسياسي ومن خلال نقائضها في المجتمع القبلي، من تلك المفاهيم نذكر على سبيل المثال لا الحصر؛ الأمة، الجهاد، الاستخلاف، المعروف والمنكر، والشريعة التي جاءت مناقضة للأعراف والأحلاف القبلية، كما أن الجانب الاقتصادي شهد تغييرات مهمة صاحبت مرحلة التأسيس للكيان الجديد.

فكل هاته التغييرات الشاملة التي طالت المجتمع العربي في بنياته السياسية والاجتماعية والفكرية إنما كان مردها إلى “مركزية النقد في الخطاب القرآني”؛ فالنص القرآني أسس لأسلوب جديد في طرح القضايا المجتمعية والإنسانية لم تعهده الدعوات الدينية السابقة، خصوصا في الجانب الديني حيث أن نقده “يمتزج فيه  الحجاج والمناظرة وطلب الاقناع والحرص على البرهنة”، وهو النهج الذي يعمل العديد من مفكري الإسلام على تأكيده والسير على منواله؛ ذلك  أن اغتناء النص القرآني بمفاهيم ذات بعد اجتماعي وسياسي سيكون له بالغ الأثر على المتكلمين الذين سيمتحون منه في التأسيس لمعجمهم المفاهيمي.

ومن المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي لها اثر في الواقع الاجتماعي والسياسي نجد الميزان والحكم بين الناس بالقسط، والطاعة والأمر، والتنازع والبغي، والميثاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إنها جملة مفاهيم بشرت بمجتمع جديد قائم على العدل والحرية اكتملت معالمه الأساسية في زمن النبوة حيث التأمت المعالم النظرية لرسالة الإسلام مع واقع مجتمع النبوة، فأحدث ذلك نقلة نوعية على صعيد الإنسان والمجتمع.

وهو ما يمكن تلمسه في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي قام بتنزيل تلك المفاهيم  أحسن وأتم تنزيل، من وضع القبيلة التي تدل على التجزئة والصراع إلى نموذج القبلة الموحدة لكل الأجناس والأعراق، الأمر الذي جعل القوى الاخرى تنظر إليه  باعتباره تهديدا لوجودها. ومن أهم الاجراءات التي ساهمت في بناء المجتمع وتوحيد وجهته السياسية والاجتماعية إعلانه، صلى الله عليه وسلم، على نظام المؤاخاة الذي يمثل تجاوزا لنظام القبيلة وثقافتها، ويربط الفرد مباشرة بالسلطة المركزية؛ مركز التشريع ووحدة القرار السياسي والحكم المجتمعي.

كما أن إعلانه في خطبة حجة الوداع الغاء جميع الديون  الناتجة عن النظام الربوي في العهد الجاهلي يعد إجراء اقتصاديا مهما إلى جانب تحريم الربا التي كانت وسيلة من وسائل الاغتناء غير المشروع في المجتمع الجاهلي وتركيز الثروة في يد القلة، كما أن الهجرة الى المدينة يدل على نوع جديد من الولاء للبديل العقائدي-السياسي المتمثل في النموذج الناشئ بالمدينة، فكل الروابط التقليدية في المجتمع العربي تفككت لتحل محلها رابطة العقيدة والسياسة..

ولا يعني ذلك رفض كل العناصر القديمة التي يمكن أن تسهم في خدمة المشروع الإسلامي كل ما هنالك أن الأمر يتعلق برفض العصبية القبلية أو لإبقاء على القبيلة كوحدة اجتماعية تم توظيفها “داخل فكرة الأمة كوحدة “سياسية” جامعة خاضعة لقانون وشرع واحد يعيد تنظيم الحياة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية”. ومع ذلك لم يضق المجتمع الإسلامي بالتنوع العقدي، بل حافظ عليه وأسس له بميثاق وعهد، وهو “أمر غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين الديانات”.

هكذا يبدوا لنا أن التنوع والاختلاف في التجربة الحضارية الإسلامية الأولى كان حاضرا بقوة، بل إن النصوص المرجعية تعتبر الأمر طبيعيا، وتؤصل له باعتباره عاملا اساسا من عوامل التعارف والتكامل الإنساني، وما كان الاختلاف منبوذا يؤدي الى التنازع إلا لما كان باعثه الظلم والطغيان السياسي القائم على استبداد الاقلية وهو ما وجه اليه القرآن الكريم سهام النقد في النموذج الفرعوني… باعتباره عاملا من عوامل الفناء والاضمحلال.

إذا كان من جانب في الفكر الإسلامي لم يحظ بالبحث والتنقيب الكافيين، فهو الفقه السياسي، ومنه نشأت خلافات عدة؛ حيث  لم يتمكن العقل الإسلامي من بلورة نظرية سياسية قائمة يمكن أن نتحدث من خلالها عن نظام سياسي اسلامي من شأنه أن يسهم في حسم الخلافات التي نشأت حول السلطة.

يعترف الكاتب بأن المجتمع الإسلامي، في أزهى لحظاته، عرف نقصا في المستوى السياسي، وإن الخيرية لدى السلف الصالح تكمن في “نجاح الإسلام في تكوين جيل من الأفراد والقيادات… تلتزم، قبل غيرها، بمجموعة من القيم الجديدة” وإدراكها لطبيعة المجتمع الذي يعتريه في غالب الأحيان خلط بين الصلاح والفساد.

يقف الكتاب في الفصل الثاني عند فكرة أساسية، تؤكد أن أول خلاف وصراع نشب بين المسلمين بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان حول السلطة؛ أي كان خلافا سياسيا ولم يكن خلافا فكريا أو عقديا، وفي هذا الإطار تم إبراز العوامل التي زادت من حدة الصراع السياسي وعلى رأس هذه العوامل المشكل القبلي الذي عمق “الفتنة” بين المسلمين اللتي شغلتهم ردحا من الزمن، مبرزا كذلك بأن الإطار السياسي والتدابير السياسية كانت مؤطرة للخلافات الفكرية والعقدية.

خلاصة الفصل الثاني أن الخلاف الكلامي والعقدي والفكري بشكل عام ما هو إلا نتيجة طبيعية لإشكال سياسي، وأن الممارسة السياسية كانت تتساير والشرعية الدينية العقدية، مما حال دون بلورة نظرية سياسية إسلامية ممكنة متكاملة.

الخلاف الكلامي: التباس المفاهيم وإشكالية المصطلح

يرى الكاتب أن مشكلة العلاقة الجدلية بين المفهوم والتواصل تمثلها حوارية سقراط خير تمثيل بالنسبة للفكر الغربي، بينما في المجال المعرفي الإسلامي يعد حضور المفهوم في القرآن الكريم  حضورا قويا ينطلق من شبكة مفاهيم تنحو منحى تأسيس أصول مشتركة وقواعد جامعة، وقد ورث هذا المسار علم الكلام..

وهو ما غاب عن عبد الله العروي في بحثه عن مفهوم الحرية في علم الكلام؛ حيث خلص إلى غياب المعالجة الفلسفية لمفهوم الحرية في الإسلام، في حين أن قضايا الحرية عولجت بتفصيل ويعبر عنها بمصطلح “الاختيار”، وفي هذا دليل على إمكانية انتقال المفاهيم وتواصلها، ولو عبر مصطلحات مختلفة ومتنوعة”، وهو انتقال يتم عبر مختلف الحقول المعرفية.

غير أن المصطلح، كما يؤكد الكاتب، يعاني إشكالية التباس بفعل الخلاف القائم داخل علم الكلام، حيث نجد أن استقراء الأسباب إنما يتم حصرها في الجوانب السياسية والاقتصادية بينما منشأ الخلاف الحقيقي هو “عدم توحيد الرؤية اللغوية، وعدم الانطلاق من ارضية مشتركة تحدد المجال المصطلحي المستعمل أثناء الحوار والمناظرة الجدلية”.

وفي هذا السياق يحاول الكاتب جاهدا دفع التهم عن جهم بن صفوان وهي التهم التي نسبها إليه خصومه من خلال قراءتهم لآرائه في جملة القضايا العقدية المرتبطة بذات الله وصفاته بعيدا عن سياقها الدلالي ومنشئها اللغوي، بل إن مجموعة آراء الأشاعرة التي توصف بأنها معتدلة تبطن رأي الجهم، فما غاب عن منتقدي الجهم هو هذا الجانب اللغوي في تحديد موقفه الفكري” ولم يقدروا مقاصده الأساسية الدائرة بين الدفاع عن التوحيد الإسلامي ونفي الحشو والتجسيم وإنقاذ النص الاسلامي من السقوط ضحية تفسير سطحي للغة الطبيعة.”

وحين الوقوف عند أصول الأشاعرة فإن تأثير المصطلح اللغوي كذلك له مداه في صياغة الاصل الكلامي، ذلك أن الخلاف بين  الأشاعرة والمعتزلة لا يعدو أن يكون مجرد خلاف لفظي، ويقف الكاتب ناقدا موقف الأشاعرة ومبينا أوجه اشتراكه مع المعتزلة في مسائل تبدو، من حيث الشكل، على تناقض جوهري، ومن خصائص الموقف الأشعري أنه يأتي غالبا ما يأتي  توفيقيا في أغلب القضايا المثار حولها الجدل.

وبعد أن يسجل الكاتب أن  الخطاب العربي المعاصر غاص بالمفاهيم والمصطلحات التراثية المتداولة من مختلف الأطراف والتوجهات لأغراض أيديولوجية مختلفة إلا أنه يعتبر أن القراءات المغربية للتراث تمتاز عن نظيرتها المشرقية بإعادة النقد والتقويم لمفاهيم لها منزلة الأصول من التراث، ومن هؤلاء محمد عابد الجابري وعبد الله العروي..

وبوجه خاص هذا الأخير الذي ينتقد الكاتب مفهومه للحرية كاشفا أن مفهوم الحرية لديه لا ينفصل عن الرؤية الاستشراقية المتمركزة حول ذاتها النافية للآخر، كما ينتقد مسلمته الخاطئة التي بنى عليها خلاصاته بهذا الصدد وبوجه خاص علم الكلام الذي اعتبره مفصولا عن واقعه الاجتماعي ومجرد معرفة نظرية، وذلك منزلق منهجي وقع فيه العروي حال بينه وبين استعمال منهجية اجتماعية المعرفة في تحليله لمجموعة مفاهيم يطفح بها التراث الكلامي، فكانت معالجته للمفهوم داخل الفكر الإسلامي قاصرة مفتقدة للنضج ومرهونة بالموقف الاستشراقي..

الأمر الذي يتبدى أكثر حين مقابلته لعلم الكلام بعلم اللاهوت الغربي، كما أن إثبات العروي انزواء الحرية في البداوة والصوفية راجع الى نفي هاته الأخيرة عن الثقافة الإسلامية، بينما نجد مفهوم الاختيار ذي الدلالة السياسية والاجتماعية والبعيد عن الجدل الميتافيزيقي حاضرا بقوة، لكن العروي حسب عبد المجيد الصغير أهمل كل ذلك، رغم أنه ادعى أنه لن يبقى سجين مصطلح واحد في البحث عن مدلول مفهوم الحرية..

خاتمة

شرعية الاختلاف في التجربة الإسلامية شرعية أصيلة لا غبار عليها، وغير مانعة لإمكانية النظر العقلي في النصوص وتأويل المضامين العقدية بما يتفق ومقاصدها الشرعية دونما جمود، ولعل أبو الحسن الأشعري الذي وقف موقفا وسطا خير مثال على ذلك.

وهو الأمر الذي ينسجم مع طبيعة رسالة الإسلام التي تجعل من الخلاف أمرا طبيعيا ومقبولا، كيف لا؟ ورسالة الإسلام بما تسمح به من تعدد وتنوع في جو من التكامل والتعارف، وبما تسمح به اختلاف  في جو من الرحمة والتآلف التأمت مع واقع الجزيرة العربي قادرة على استعادة فعاليتها الحضارية كرسالة للعالمين في زمننا المعاصر.

فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام.. مراجعة نقدية في المفاهيم والمصطلحات الكلامية  للدكتور عبد المجيد الصغير

ذ. عبد الخالق بدري

باحث بمركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق