الرابطة المحمدية للعلماء

فقه المجتمع.. نحو استئناف التأسيس

د. أحمد عبادي: يدعو إلى بلورة فقه مجتمعي انطلاقا من نصوص الكتاب والسنة

تذهب الدراسات الإسلامية التجديدية المعاصرة ذات المنحى المنهجي المقاصدي إلى كشف الاختلال العميق الذي شهده النظر الفقهي الإسلامي فيما يتصل بتضخم “فقه الأفراد” وغلبته على “فقه المجتمع”، وما ترتب على ذلك من اختلال ونكوص واضحين في مسيرة الأمة الحضارية..
ومن أحدث الدراسات التي رأت النور في هذا السياق دراسة الأستاذ أحمد عبادي الموسومة بـ: “فقه المجتمع نحو استئناف التأسيس”، وذلك في العدد الأخير من مجلة “حراء” (13)، أكتوبر2008.

وهي الدراسة التي انطلقت من التأكيد على أن “فقه المجتمع في أمتنا، لم ينل من الحظ تنظيرا وبسطا، ما ناله فقه الأفراد” مبرزة أن” تراثنا الفقهي، يشهد بأن الثاني كان الاهتمام به ضافيا، بخلاف الأول، مما جعل البعد التنظيمي للمشاركة في هموم المجتمع، وتحمل مسؤولياته يكون ضامرا، الأمر الذي ترك هذه الممارسة لأريحية الأفراد، دون أن يضبطها ضابط، من تنظيم وتقنين، يجعلها أكثر فاعلية واستمرارية..”

وتفسير ذلك، من وجهة نظر الأستاذ أحمد عبادي، أن المجتمع المسلم كان بسيطا في تركيبته؛ بحيث كان الناس عادة ما ينتظمون في أسرهم، وعشائرهم، وقبائلهم، التي تعد بمثابة مؤسسات طبيعية “لا يستوي الفرد إلا وقد تعلمها مع المشي والكلام وانضبط لها، كما ينضبط لقوانين الجاذبية والنمو..” ومن ند عنها يكون مصيره الإقصاء والنبذ الاجتماعي على غرار ما حدث بالنسبة لـ ” الصعاليك”.

وفي هذا الإطار فقد عملت الدراسة على إبراز مدى عجز المجتمع الإسلامي، وفي مقدمته العلماء،على “تلقي الإشارات الكثيرة الموجودة في الكتاب والسنة، والتي تؤصل لبلورة فقه المجتمع والدولة من مختلف التوجيهات، كالأمر بالشورى، والحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكافل، والانتصار من بعد الإصابة بالبغي…إلخ.” وهي توجيهات تحتاج، حسب الدراسة، إلى “هيئات وقوانين من أجل تنزيلها على واقع الناس، والحفاظ عليها وتنميتها، مما يحتاج إلى جهد مستأنف لاستدراك النقص الذي فيه.”

كما أن الركون إلى “البعد العقيدي في النفوس، أزهد المسلمين في ضبط المؤسسات، وبلورة فقه خاص لها، يُستنبط من الأحكام التي تؤطرها” لتحتل الثقة، تبعا لذلك، مكانا أكبر مما ينبغي، “فلما ضعف الوازع العقيدي، وكثرت الكوارث، طفت الأزمة على السطح، وبحدة كبيرة، مما جعل المسلمين يقبلون في العصر الحديث كثيرا من القوانين، والتنظيمات الدخيلة عليهم، لسد الفراغ الذي تركه قصورهم، وقعودهم عن الاجتهاد، لبلورة فقه المجتمع ومختلف مؤسساته”
   
ومع ذلك، فقد “شهد عهد الخلافة الراشدة تطورا في المجتمع الإسلامي، وفي فقهه” وقد أورد الأستاذ أحمد عبادي، كمثال على ذلك، كتاب عمر لأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، في القضاء” مبرزا أن مؤسسة القضاء “كانت مؤسسة مجتمعية محضة مستقلة عن الدولة قائمة بذاتها، وماتِحَة مباشرة من المرجعية العليا للأمة” المتمثلة في الكتاب والسنة والاجتهاد القضائي..

غير أن الدراسة تسجل حدوث انحراف تاريخي كبير في هذا المجال؛ إذ ما أن “تقلص ظلِّ الرشد عن الدولة الإسلامية” حتى “طغى على الانشغال بالمجتمع وقضاياه، انشغال المسؤولين بإخماد الثورات، والتمكين للدولة القائمة، على أنقاض دولة، وتتبع بقايا الدولة المسقطة وجذورها، وبناء الهيبة، وجمع الخراج، والسقوط في وِهاد مشاريع وهمية منحرفة، ثم انشغال جهاز الدولة من الداخل بالمؤامرات، والمؤامرات المضادة..”

وهكذا تخلص الدراسة إلى أن الاشتغال بالدولة والانشغال بها كان أكبر وأهم من الاهتمام بالمجتمع، حيث “أُسلم المجتمع إلى نفسه بخلاف الشأن حين كان الرشد معانقا للدولة..”أما ” خارج فترات الرشد كانت جهود الفقهاء منصبة على تطوير فقه الأفراد وتفصيله؛ لأن الدولة انتهجت بعد الفترة الراشدة، نهجا غير شوري، محيّدا لعموم المسلمين عن تحمل مسؤولياتهم، في النصح والتسيير..” مع ما يقتضيه تدبير أمر الدولة والجماعة من تضافر للطاقات والجهود..

فساد، تبعا لذلك، “أنموذج للمواطن الصالح، بعيدا كل البُعد عن الأنموذج القرآني.” وهو النموذج الذي أضحى بمقتضاه “أصلح الناس أنآهم عن تحمل المسؤوليات، وأبعدهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..وأكثرهم إقبالا على خويصة نفسه..” وهو ما اعتبره الأستاذ أحمد عبادي “تجانفا صارخا عن قيم الإسلام، الذي جعل هذه الأمة كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله [آل عمران 110] خير أمة أخرجت للناس لأنها أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله..”

كما تخلص الدراسة إلى أن من أهم العوامل التي حالت دون تبلور ونضج “فقه المجتمع ومؤسساته” نشوؤه “بعيدا عن المجتمع، وانطلاقا من الرأي الواحد، والفهم الواحد، فقه الدولة، وفهم الدولة، فلم يُبْرَد ويشحذ بالمناظرات والحوارات والرسائل، شأن فقه الأفراد “فقه العبادات بشكل عام”، إذ لم يكن همُّ التنظير للحياة في المجتمع، والممارسات بشتى أنواعها، التي تجري فيه، وهمُّ استنباط الأحكام الخاصة بذلك، همَّ المجتمع، وفقهائه، بل بقي همَّ الدولة، وفقهائها فقط”.

الأمر الذي يفسر دعوة الأستاذ أحمد عبادي إلى تجاوز هذا المنظور الفقهي السائد واستدراكه، وهو الاستدراك والتجاوز الذي لا يمكن أن “يتم خارج المعترك السياسي، وخارج إطار تحمل أمانات ومسؤوليات حقيقية من مسؤوليات الأمة، من قِبَل مؤمنين بهذا الدين، معتقدين بصلاحية شريعته لتأطير حياة الناس في كل مصر وعصر، حتى تكون المواكبة لمستأنفات الأحوال بكل الكسب الفقهي اللازم موازنة وتسديدا وتقريبا وتغليبا.”بعيدا عن كل تجريد مثالي منبث الصلة عن الواقع وإشكالاته الفعلية..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق