
إن من بين أشكال التصنيف في عصرنا الحاضر إعادة بناء مؤلَّف قديم صار في عداد المفقود، فتُجمع نصوصه ويُعمل على ترتيبها وتحقيق نسبتها، ومن هذا الصنف؛ تلك الأعمال التي رامت جمع ما تناثر من فتاوى ونوازل العلماء في بطون الكتب ممن نقل عنهم، أو تركوه في بطاقات ولم تسعفهم الأيام لتحريرها، وغاية هذا الجمع حفظ هذه الفتاوى أو النوازل -على اختلافها بين البسط والاختصار- من الضياع، ولتكون مرجعا لكل من احتاجها، ومن الأمثلة على ذلك ما قام به د.محمد أبو الأجفان حين جمع فتاوى الإمام الفقيه قاضي الجماعة ومفتي حضرة غرناطة أبي القاسم محمد بن محمد بن السِّرَاج الغرناطي (المتوفى على الأرجح سنة 848هـ)، الذي شهد له مترجموه بعلو الكعب في باب الاجتهاد وترك التقليد، في فترة عاشت فيها غرناطة تحت وطأة الحرب بين المسلمين والنصارى في أواخر الحكم الإسلامي بالأندلس.
قَدّمت هذه الفتاوى -على عادة هذا النوع من التصنيف- مجموعة من المعلومات عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعادات والأحداث التي سادت في فترة ابن السراج، وقد اعتمد المؤلف في تحرير فتاويه -غالبا- على المشهور من مذهب الإمام مالك (مثاله ف 73)، ثم الشاذ مراعاةً لأحوال الناس في فترة أواخر الحكم الإسلامي بالأندلس (ف 71)، كما كان يعتمد الترجيح بين الأقوال (ومثاله أن يقول: والذي يترجح في مسألتنا: ف 103)، بل قد يختار ما جاء في مذهب آخر لتحقق المصلحة بذلك (مثاله ف 148)، أو لعدم معرفته لنص يتعلق بالنازلة (مثاله ف 28)، كما اعتمد في بعض المسائل على قول أهل الاختصاص والخبرة (مثاله ف 163)، ولم يعتمد في جميع المسائل منهج الاستدلال عليها، فكان يغيب في بعضها مقتصرا على إعطاء الحكم؛ إذ به يحصل مقصود المستفتي، ويذكر في بعضها الآخر دليله من الكتاب (مثاله ف 183) أوالسُّنة (مثاله ف 19) أو أصول المذهب (مثاله سد الذرائع: ف 183) أوالقواعد الفقهية التي اعتمدها في استخراج الحكم (ومثالها: المشقة تجلب التيسير، أو الضرر يُزال).
أما إذا عرضت له مسألة تتعلق بالقضاء، فيفتي فيها دون إلزام صاحبها بها؛ لأنها ليست من اختصاصه.
ولنفاسة فتاوى ابن السِّراج الغرناطي في بابها، وخاصة الفترة التي جاءت فيها، تصدّى العلامة المرحوم الدكتور محمد أبو الأجفان التونسي لجمعها من مجموعة من الكتب المطبوعة والمخطوطة التي أوردت هذه الفتاوى على سبيل الاستشهاد؛ فنجد المعيار المعرب للونشريسي (م)، ونوازل المهدي الوزاني، ومخطوطة فتاوى القاضي ابن طركاك الأندلسي في نسختين؛ الأولى بالمكتبة الوطنية بمدريد (طر)، والثانية نسخة الشيخ محمد أبو خبزة (خ)، ونسخة الحديقة المستقلة النضرة في الفتاوى الصادرة عن علماء الحضرة لمجهول بالأسكوريال (حد)، ونسخة أجوبة فقهاء غرناطة لمجهول بالخزانة العامة بالرباط (أج)، ونسخة شرح تحفة الحكام لأبي يحيى بن عاصم بدار الكتب الوطنية بتونس (ابن عاصم)، وقد بلغ مجموع الفتاوى التي جمعها د.أبو الأجفان قرابة 184 فتوى، رقّمها، ووزعها حسب موضوعها، فضم الفتاوى ذات الموضوع الواحد إلى بعضها البعض، مع إحالته على فتوى غير ابن السراج في الموضوع إن وُجدت، والإشارة إلى مصادر هذه الفتاوى التي اتخذ لها رموزا تدل عليها.
افتتح د.أبو الأجفان هذه الفتاوى بباب الطهارة، ثم الصلاة، ثم الصوم، ثم الزكاة، ثم الأيمان، ثم الذكاة، ثم النكاح، ثم الميراث، ثم الهبة، ثم البيع، ثم الصرف، ثم الشفعة، ثم الشركة، ثم الإجارة، ثم الرهن، ثم الضرر، ثم الأقضية، وختمها بمجموعة من النوازل المختلِفة مما لا يمكن إدراجه تحت ما سبق.
صدر الكتاب لأول مرة في إطار سلسلة الفتاوى الغرناطية عن المجمع الثقافي بالإمارات العربية سنة (1420هـ-2000م)، ثم صدر عن دار ابن حزم سنة (1427هـ-2006م).
الكتاب: فتاوى قاضي الجماعة أبي القاسم بن سراج الأندلسي (ت848هـ)
جمع: د.محمد أبو الأجفان
دار النشر: دار ابن حزم، فتاوى علماء غرناطة، الطبعة الثانية، السنة (1427هـ-2006م).
من مصادر ترجمة ابن سراج: الضوء اللامع للسخاوي (7/248)، توشيح الديباج للقرافي (ص:268)، نيل الابتهاج (ص:526)، شجرة النور (ص:248).
الثناء على ابن سِراج: وصفه السخاوي بعالم الأندلس، وقال عنه مخلوف: الإمام العلامة الفقيه الحافظ العمدة الفهامة.
إنجاز: ذة. غزلان بن التوزر