مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةمفاهيم

ضعف النظر الإبستمولوجي 2

نظم القوافي من معادنها 

لنفكك – وهذا هو الاصطلاح الأثير عند هؤلاء القوم – السؤال الثاني: ما دلالة الكلام الإبستمولوجي في الحضارة والدين من دون تكوين في العلوم الإنسانية يعتد به؟

فنحن نعلم أن أصحاب المشاريع الكبرى من دعاة “قراءة التراث” أو “نقد العقل” العربي أو الإسلامي، و”التفكير” في النهضة والإصلاح والتنوير والتثوير والتجديد، أو “المحللين النفسانيين” للذات العربية، أو”الدارسين” للخطاب العربي المعاصر، أو للإيديولوجيات العربية المعاصرة و”خرائطها الممزقة”… أنهم يتفقون في دعوى تسلحهم بأحدث مناهج العلوم الإنسانية، في علوم التاريخ والحضارة، وعلوم النفس والاجتماع، وعلم الإناسة Anthropologie والحفريات Archéologie ، وعلوم اللغة وتحليل الخطاب… بل تجد الواحد منهم في الصفحة الواحدة – إذا كتبها – بصق في وجه قارئيه مصطلحات من كل هذه الفنون في سيل من العبارات الركيكة، التي سماها أجدادنا بالطمطمة !

ورجال العلم الذين وضعوا هذه المناهج في بلاد الغرب أكثر تواضعا، مع كونهم المبدعين.

ينفق الباحث منهم دهرا، صحبة فريق من شيوخ الفن وطلابه، في دراسة جزئية دقيقة من مجال اختصاصه، وحين يكتب ما ظفر به فريقه، يعلنه بين الناس باسم “مقال” أو “محاولة” أو “مقاربة” … بعبارات مركزة مفهومة ومتواضعة. ثم يتابع العمل، ويتابع تأثير محاولته في الأوساط العلمية، فيجمع ما كتب عنه من ملاحظات واعتراضات ونقود أو تنويهات، ليعيد سبك العمل وتعميقه وتدقيقه في ما يليه من بحوث. ثم هم في ذلك يحيلون إلى غيرهم في ما لا يعلمون. لأن مسؤولية الأفكار أعظم من مسؤوليات الأبدان والأموال. فهذه أخطاؤها محدودة في الزمان والأعيان، وتلك ممتدة في الزمان أجيالا، وفي المكان شعوبا وأقواما.

وأما أصحابنا الذين ادعوا امتلاكهم لهذه المناهج فهم أشد القوم استعلاء، مع كونهم أسوأ المقلدين.

يكتفي الواحد منهم بتحصيل درجة علمية على عجل، ثم يشرع في التبشير بمشروع فكري متسع كالبحر الذي لا ساحل له. يطرق لوحده كل موضوعات الدنيا والدين، والسماء والأرض، بكل مناهج العالمين. ثم يلقي بالمجلدات المتتالية بين الناس. لا يترك لهم فرصة التمحيص في دعاويه. فإذا لاحقة أحد بملاحظة أو توجيه أو نقد تذاكى على المعترضين واتهمهم بسوء الفهم وقلة المعرفة بمناهج العلوم الإنسانية، وربما اغتر بنفسه وأخذته العزة بضلاله، وردد في وجههم عبارة الشاعر القديم[1]:

“علي نظم القوافي من معادنها           وما علي إذا لم يفهم البقرُ

وليته نظم القوافي من معادنها. إذن لخاطبنا القوم أن يرتفعوا عن “بقريتهم” !

ولكن كيف ينظم القوافي من معادنها؟ وما هو بالصيرفي الخبير الذي يدري معدن القوافي، بل ولا يملك حتى البصر الإبستمولوجي السليم القدار على تمييز الجيد من الرديء، وخالص المعدن من مغشوشه، فعيونه تعاني من أمراض ضعف البصر العقلي التي أبرزها اللابؤرية التبصرية، التي قلنا إنها تجعل الرؤية مشوهة وضبابية في جميع المسافات.

ثم كيف؟ وأجهزة النظر التي وضعها على عينيه ليست له، ولم توضع على مقاسه ! ولم تسمح له كبرياؤه “الجهلانية” (بدل التواضع العقلاني) بأن يسأل عن سر ذلك وعلاجه خبيرا.

ثم كيف؟ ونظم القوافي يتوقف على حدس لا يملكه، وعلم لا يعرف منه إلا القشور، وخبرة علمية لم يكتسبها من محراب العلماء، وتقاليد وبراديغمات لم ينغمس فيها بكليته ليولد منها مبدعا، فعاش بثرثرته “الابستمولوجية” على هامش التاريخ: تاريخ الأفكار، وتاريخ الجماعات العلمية.

ثم كيف؟ والقوافي العلمية نفسها ليست بالمركب السهل فيرتقى من كل طالب، ولا بالمسبح الصغير فيستحم فيه بدون خوف كل راغب.

ألا إنها شجون طويلة لا متناهية، ومسالك وعرة ضيقة متداخلة كالمتاهة. وهي الخضم الخضم. وأصحابنا مستعجلون، ولم يتعلموا السباحة إلا في زبد البحر، ومسابح المنازل الهادئة، تحت أعين الرقباء المنجدين. كان أحد العارفين يقول: “لا تغضبوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله” ! ألا إن هؤلاء لم يرغبوا في أن يتدربوا على “رجل” من جماعة علمية “خشن” في دين العلم. يلقي بهم في مسالكه الوعرة، وخضمه العتي، ليتعلموا ما معنى “البحث العلمي”، أعني ما معنى “نظم القوافي” ! ..

فهل عرفنا لماذا لا يكون للكلام الإبستمولوجي في الحضارة والدين دلالة دون تكوين في العلوم الإنسانية يعتد به.

وبقيت واحدة نسيها السؤال: وهي التكوين في الحضارة والدين نفسه. فليست المشكلة في منهج البحث وحده، ولكن في موضوعه أيضا. فأنت تجد الرجل منهم يبحث في كل مجالات الفلسفة والكلام والفقه والأصول والحديث واللغة والنحو الشعر، وفي المنطق والطب والفلك والموسيقى، “دون تكوين يعتد به” في أية جزئية من جزئيات باب واحد من أبواب علم واحد من مجال واحد من هذه المجالات. يريد بمناهجه المنقوصة أن يسبر كل هذه المعادن، الموروث منها والجديد.

فليته بقي مع من وصفهم بالبقر الذين لا يفهمون. إذن لكان له عذر المواطن العادي الذي شغله عمله اليومي الشريف عن الاشتغال بالعلم العقلي الشريف. ولا ضير، ففي كل خير.

ولكنه استحقر القوم والقراء، فادعى نظم القوافي من معادنها، مع فقد قدرات الناظم، وجهل بالمنظوم، وفقر في آليات السبك والنظم والتمييز. وتلك شروط لو حصلها الناظر الإبستمولوجي، لقلنا لقرائه: “افهموا عنه ما يقول”. ولكن، والحالة على وصفنا، فمن حق فقد غدا مت المشروع تماما أن نسأله: “لماذا تعجز عن قول ما يفهم”؟ !

يتبع…


[1] – البيت للشاعر العباسي الكبير أبو تمام. فقد كان معروفا بالبراعة في صناعة النظم الشعري حتى ليتطلب الأمر جهدا عقليا لفهم ما يقول. ولذلك لما سألوه: “لماذا لا تقول ما يفهم؟” أجاب: “ولماذا لا تفهمون ما يقال؟”. وكان أبو تمام منطقيا إلى حد ما مع نفسه، وهو يريد الارتقاء بالصناعة الشعرية، وهو أيضا الخبير فعلا في نظم القوافي من معادنها.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق