مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

صحبة الصوفية العارفين بالله تعالى: أيّةُ فائدة ؟

إن للصحبة أثرا عميقا في شخصية المرء وأخلاقه وسلوكه، والصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثر الروحي والاقتداء العملي، والإنسان اجتماعي بالطبع، لابد أن يخالط الناس ويكون له بينهم أخلاء وأصدقاء، فإن اختارهم من أهل الفساد والشر والفسوق والمجون انحدرت أخلاقه، وانحطت صفاته تدريجيا دون أن يشعر، حتى يصل إلى حضيضهم ويهوى إلى دركهم…، أما إذا اختار صحبه أهل الإيمان والتقوى والاستقامة والمعرفة بالله تعالى، فلا يلبث أن يرتفع إلى أوج عُلاهم، ويكتسب منهم الخُلُق القويم، والإيمان الراسخ، والصفات العالية، والمعارف الإلهية، ويتحرر من عيوب نفسه، ورعونات خلقه، ولهذا تعرف أخلاق الرجل بمعرفة أصحابه وجلسائه، وصدق من قال:

     إذا كنت في قوم فصـــاحب خيارهم
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
  ولا تصحب الأردى فتردى مع الردِي
فكــــــــــــــــل قرين بالمقارن يقتدي[1]

وما نال الصحابة رضوان الله عليهم ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة، – بعد أن كانوا في ظلمات الجاهلية- إلا بمصاحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالستهم له، وما أحرز التابعون هذا الشرف العظيم إلا باجتماعهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم…، وبما أن رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خالدة إلى قيام الساعة، فإن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وُرّاثا من العلماء العارفين بالله تعالى، ورثوا عن نبيهم العلم والخلق والإيمان والتقوى، فكانوا خلفاء عنه في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الله، يقتبسون من نوره ليضيئوا للإنسانية طريق الحق والرشاد، فمن جالسهم سرى إليه من حالهم الذي اقتبسوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نصرهم فقد نصر الدين، ومن ربط حبله بحبالهم فقد اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم…، هؤلاء الوُرّاث هم الذين ينقلون للناس الدين، ممثّلا في سلوكهم، حيّا في أحوالهم، واضحا في حركاتهم وسكناتهم…[2]

وهؤلاء هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”.[3]

والمؤمن الكامل هو المرشد الصادق الذي صقلت مرآته بصحبة مرشد كامل، ورث عن مرشد قبله، وهكذا حتى يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المرآة التي جعلها الله تعالى المثل الأعلى للإنسانية الفاضلة، قال تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾.[4]

وعليه، فإن الطريق العملي الموصل لتزكية النفوس والتحلي بالكمالات الخلقية هو صحبة الوارث المحمدي، والمرشد الصادق الذي يزداد المرء بصحبته إيمانا وتقوى وأخلاقا، ويُشفى بملازمته وحضور مجالسه من أمراضه القلبية وعيوبه النفسية، وتتأثر شخصيته بشخصيته التي هي صورة عن الشخصية المثالية، شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا يتبين خطأ من يظن أنه يستطيع بنفسه أن يعالج أمراضه النفسية، وأن يتخلص من علله النفسية بمجرد قراءة القرآن الكريم، والاطلاع على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،[5] وذلك لأن الكتاب والسنة قد جمعا أنواع الأدوية لمختلف العلل النفسية والقلبية، فلا بد معهما من طبيب يصف لكل داء دواءه، ولكل علة علاجها…

فقد كان عليه الصلاة والسلام يطبب قلوب الصحابة ويزكي نفوسهم بحاله وقاله، من ذلك ما حدث مع الصحابي الجليل أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه قال: “كنت في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسّن النبي عليه السلام شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشِيني ضرب في صدري، ففِضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا”.[6]

فلم يستطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطببوا نفوسهم بمجرد قراءة القرآن الكريم، ولكنهم لازموا مستشفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هو المزكي لهم، والمشرف على تربيتهم كما وصفه الله تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾.[7]

وللأهمية العظمى للصحبة في حياة الإنسان، فقد مثّل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصاحب الصالح وصاحب السوء، فقال عليه الصلاة والسلام: “إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذِيك “يُعطيك” وإما تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد فيه ريحا خبيثة”.[8]

       ولهذا كان السادة الصوفية أحرص الناس على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاشوا بذلك حياة تعبدية خالصة، تقوم أُسُسها على السمع والطاعة، والإذعان لنصيحة ناصح، أو توجيه مرشد، فنشأت بينهم تلك المدارس الروحية التي قامت على أعظم أساليب التربية والتقويم، وأقوى صلات الروح بين الشيخ والمريد.
ونظرا لهذه الفائدة العظيمة للصحبة، فقد أوصى العارفون بالله تعالى كل من أراد سلوك طريق الحق الموصل إلى معرفة الله ورضاه بالصُحبةِ، وروحُها الاعتقاد والتصديق بهؤلاء المرشدين الدالين على الله تعالى، الموصلين إلى حضرته القدوسية. وهذه بعض أقوال علمائنا الأجلاء في أهمية صحبة الدالين على الله تعالى، الوارثين عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما في ذلك من الآثار الحسنة والنتائج الطيبة:

الإمام أبو حامد الغزالي (ت505ھ): 

تحدث في كتابه: “المنقذ من الضلال” بعد أن صحب الصوفية وعرف سلوكهم وطريقتهم، قال: “علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يُستضاء به”.[9] 

وقال أيضا رحمه الله تعالى: ” الدخول مع الصوفية فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام”.[10]  

وقال رحمه الله: “كنت في مبدأ أمري منكراً لأحوال الصالحين، ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي (يوسف النساج)، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله تعالى في المنام، فقال لي: يا أبا حامد، دع شواغلك، واصحب أقواماً جعلتهم في أرضي محل نظري، وهم الذين باعوا الدارين بحبي، قلت: بعزتك إلا أذقتني برد حسن الظن بهم، قال: قد فعلت، والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحب الدنيا، فاخرج منها مختاراً قبل أن تخرج منها صاغراً، فقد أفضت عليك أنواراً من جوار قدسي، فاستيقظت فرحاً مسروراً وجئت إلى شيخي (يوسف النساج)، فقصصت عليه المنام، فتبسم وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بأثمد[11] التأييد … الخ”.[12]

ومن قوله أيضا: “يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه، قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة…[13]

الإمام ابن عطاء الله السكندري (ت709ھ):

قال ابن عطاء الله السكندري- رضي الله عنه-: “وينبغي لمن عزم على الاسترشاد، وسلوك  طريق الرشاد أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق، سالك للطريق، تارك لهواه، راسخ القدم في خدمة مولاه، فإذا وجده فليمتثل ما أمر، ولينته عما نهى عنه وزجر”.[14]

الإمام ابن قيم الجوزية751ھ):

قال الحافظ أبو عبد الله محمد الشهير بابن القيم: “فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل، فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين، وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟.. فإذا كان الحاكم عليه الهوى، وهو من أهل الغفلة كان أمره فُرُطا…، إلى أن قال: فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى، واتباع السنة وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره، فليستمسك بغرزه”.[15] 

الإمام الشاطبي (790):

وصف الإمام الشاطبي الصوفية بأوصاف حميدة، فقال: “الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة؛ مجمعون على تعظيم الشريعة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها، ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرقة من الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السنة. وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون، وممن يؤخذ عنه الدين أصولا لا فروعا، ومن لم يكن كذلك؛ فلا بد من أن يكون فقيها في دينه بمقدار كفايته”.[16]

والإمام الشاطبي لا بد وأنه قد قال هذا الكلام بعد صحبته للصوفية، وأيضا بعد معرفة سلوكهم وأخلاقهم…، ولا شك أن موقفه هذا من التصوف والصوفية يعتبر شاهد صدق، وحجة بالغة لما عرف عنه من نفوره الشديد عن أهل البدع والزيغ ومحاربته للطوائف والفرق الضالة…

وقد أثنى عليهم بوصفهم: “أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية، فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على مناهجهم…”.[17]

وقد كان في نيته أن يخصص مؤلفا للإشادة بطريق التصوف، وتحصينه من أهل البدع والأهواء، حيث قال: “وفي غرضي- إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله، ويسّر لي الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا، يُستدل به على صحتها، وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما دخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع: من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادّعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقوّلوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت في هذا الزمان الآخر كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم…، وطريقة القوم بريئة من هذا الخُباط بحمد الله”.[18]

الشيخ أحمد زروق (ت899ھ):

قال الشيخ أحمد زروق- رحمه الله- في قواعده: “أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذه دونهم، ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾.[العنكبوت/49]، وقال تعالى: ﴿واتبع سبيل من أناب إليّ﴾.[لقمان/15]، فلزمت المشيخة، سيما والصحابة أخذوا عنه عليه الصلاة والسلام، وقد أخذ هو عن جبريل، واتبع إشارته في أن يكون عبدا نبيا، وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكلٍّ أتباع يختصون به كابن سيرين وابن المسيب والأعرج لأبي هريرة، وطاوس ووهب ومجاهد لابن عباس، إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل فأخذُه جليّ فيما ذكروا كما ذكروا، وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: “ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا”. فأبان أن رؤية شخصه الكريم كانت نافعة لهم في قلوبهم، إذ من تحقق بحالة لم يخلُ حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبة الصالحين، ونهى عن صحبة الفاسقين”.[19]

الإمام عبد الواحد بن عاشر (ت1040ھ):

قال الفقيه المالكي عبد الواحد بن عاشر في منظومة العقائد وعبادات فقه مالك المسماة: “المرشد المعين” مبينا ضرورة صحبة الشيخ المرشد وما تنتج من آثار طيبة:

        يصحب شيخا عارف المسالك
يـــــــــــــــــذكِّره الله إذا رآه
يحاســب النفس على الأنفاس
ويحفظ المفروض رأس المال
ويُكثر الــــــــــذكر بصفو لُبه
يجــــاهد النفس لرب العالمين
يصــــــــير عند ذاك عارفا به
فـــــــــــــحبَّه الإله واصطفاه
  يقـــــــيه في طريقه المهالك
ويـــــــوصل العبد إلى مولاه
ويــــــزن الخاطر بالقسطاس
والنفــــــــــل ربحه به يوالي
والـــــعون في جميع ذا بربه
ويتــــــــحلى بمقامات اليقين
حرّا، وغـــــيره خلا من قلبه
لحــــــضرة القدوس واجتباه[20]

فمن نتائج صحبة الشيخ السالك، ما يحصل لمريده من أنه يذكّره الله، أي يكون سببا قويا في ذكر المريد ربّه إذا رأى الشيخ لِمَا عليه من المهابة التي ألبسه الله إياها، ويشهد لذلك ما أخرجه الحاكم عن أنس رضي الله عنه: “أفضلكم الذين إذا رؤوا ذُكر الله تعالى لرؤيتهم”.[21] كما أن من نتائج هذه الصحبة أن الشيخ يعمل جاهدا على إيصال العبد إلى مولاه بسبب ما يُريه من عيوب نفسه، فيتعلق قلبه بالله تعالى، وبالتالي فلا يرى لنفسه ولا لمخلوق نفعا ولا ضرا، بل يرى جميع الانقلابات والتصرفات في الحركات والسكنات لله تعالى…

الأمير عبد القادر الجزائري (ت1300ھ):

قال في كتابه: “المواقف”، الموقف المائة والواحد والخمسون: قال الله تعالى حاكيا قول موسى للخضر عليهما السلام: ﴿هل أتبعك على أن تعلمن مما عُلمت رُشدا﴾.[الكهف/66]: اعلم أن المريد لا ينتفع بعلوم الشيخ وأحواله إلا إذا انقاد له الانقياد التام، ووقف عند أمره ونهيه، مع اعتقاده الأفضلية والأكملية، ولا يغني أحدهما عن الآخر، كحال بعض الناس يعتقد في الشيخ غاية الكمال ويظن أن ذلك يكفيه في نيل غرضه، وحصول مطلبه، وهو غير ممتثل ولا فاعل لما يأمره الشيخ به، أو ينهاه عنه…، فهذا موسى عليه السلام، مع جلالة قدره وفخامة أمره، طلب لقاء الخضر عليه السلام، وسأل السبيل إلى لُقيِّه، وتجشم مشاق ومتاعب في سفره، كما قال: ﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا﴾. [الكهف/62]، ومع هذا كله لمّا لم يمتثل نهيا واحدا، وهو قوله: ﴿فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾.[الكهف/70]، ما انتفع بعلوم الخضر عليه السلام، مع يقين موسى عليه السلام الجازم أن الخضر أعلم منه بشهادة الله تعالى، لقوله تعالى عندما قال موسى عليه السلام: لا أعلم أحدا أعلم مني: [بلى، عبدنا الخضر] وما خصّ علما دون علم، بل عمّم، وكان موسى عليه السلام أولا ما علم أن استعداده لا يقبل شيئا من علوم الخضر عليه السلام، وأما الخضر عليه السلام فإنه علم ذلك أول وهلة فقال: ﴿إنك لن تستطيع معي صبرا﴾. [الكهف/67]، وهذا من شواهد علمية الخضر عليه السلام، فلينظر العاقل إلى أدب هذين السيدين: قال موسى عليه السلام: ﴿هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا﴾. [الكهف/66]، أي هل تأذن في اتباعك لأتعلم منك؟ ففي هذه الكلمات من حلاوة الأدب ما يذوقها كل سليم الذوق. وقال الخضر عليه السلام: ﴿فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾.[الكهف/70]، وما قال: فلا تسألني، وسكت، فيبقى موسى عليه السلام حيرانا متعطشا، بل وعده أن يحدث له ذكرا، أي علما بالحكمة فيما فعل…، فأكملية الشيخ في العلم المطلوب منه المقصود لأجله لا تغني عن المريد شيئا، إذا لم يكن ممتثلا لأوامر الشيخ، مجتنبا لنواهيه. وقد قيل في ذلك:

                     وما ينفع الأصل من هاشم   إذا كانت النفس من باهلة

وإنما تنفع أكملية الشيخ من حيث الدلالة الموصلة إلى المقصود، وإلا فالشيخ لا يعطي المريد إلا ما أعطاه له استعداده، واستعداده منطوٍ فيه، وفي أعماله، كالطبيب الماهر إذا حضر المريض وأمره بأدوية فلم يستعملها المريض فما عسى أن تغني عنه مهارة الطبيب؟ وعدم امتثال المريض دليل على أن الله تعالى ما أراد شفاءه من علته، فإن الله إذا أراد أمرا هيّأ له أسبابه. وإنما وجب على المريد طلب الأكمل الأفضل من المشايخ خشية أن يلقي قياده بيد جاهل بالطريق الموصل إلى المقصود، فيكون ذلك عونا على هلاكه”.[22]

وخلاصة القول في موضوع الصحبة، أنه لابد لمريد الطريق أن يقصد- عند إرادة إنابته وتوبته واستيقاظه من نوم الغفلة- شيخا من أهل زمانه يكون مترقيا في مقامات الرجال الكُمّل، شرعيا حقيقيا، سلوكه على الكتاب والسنة والاقتداء بالعلماء، ثم يكون سيره إلى الله وسلوكه قد كان على يد مرشد واصل قبله إلى تلك المقامات العلية مسلسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مأذونا له من شيخه بالإرشاد والدلالة على الله تعالى، لا عن جهل ولا عن حظ نفس، فالشيخ العارف الواصل وسيلة المريد إلى الله، وبابه الذي يدخل منه إلى الله، والصوفية في ذلك لم يبتدعوا منهجا، ولم يبتكروا أسلوبا، ولكنهم ساروا متبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وأخلاقا.

الهوامـــــش:

 [1]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، ط: 1426ھ-2005م، ص: 42.

[2]– المرجع السابق، ص: 42.

[3]– أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ آخر، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق”، رقم الحديث: 7311.

[4]– سورة الأحزاب، الآية: 21.

[5]– قال عبد القادر عيسى في توضيح لهذا الكلام: “تسرع بعض القراء ففهم هذه العبارة على غير مرادها، وظن أننا نقّصنا من أهمية القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وزهّدنا في تلاوتهما، والحقيقة أن رجال التصوف هم أكثر الناس تعظيما لهما وتمسكا بهما…، ففي عبارة: “بمجرد قراءة القرآن الكريم…” بيان إلى أنه لا يكفي الاقتصار على قراءة القرآن الكريم والسنة الشريفة بل لابد أيضا من الفهم والعمل، وفي عبارة: “فلابد معهما…” تصريح واضح بلزوم قراءة القرآن الكريم والسنة الشريفة، ثم يضاف إلى ذلك صحبة المرشدين الذين يزكون النفوس ويحضون الناس على قراءة وتطبيق الكتاب والسنة”. [حقائق عن التصوف، ص: 44].

[6]– أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، رقم الحديث: 820.

[7]– سورة الجمعة، الآية: 2.

[8]– صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، رقم الحديث: 5534.

[9]– قضية التصوف المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، ص: 377.

[10]– إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن عجيبة، ص: 27.

[11]– أثمد: حجر للكحل. القاموس المحيط، مجد الدين الفيروزآبادي (817ھ)، تحقيق: أبو الوفا نصر الهوريني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 1430ھ -2009م، مادة: تلد.

[12] – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان، محمد الكسنزاني الحسيني، 13/90.

[13]– إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي (ت505ھ)، تحقيق: سيد عمران، دار الحديث، القاهرة، ط: 1425ھ-2004م، 3/84.

[14]– مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح في ذكر الله الكريم الفتاح، ابن عطاء الله السكندري (ت709ھ)، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د.ط، ص: 33.

[15]– الوابل الصيب من الكلم الطيب، ابن القيم الجوزية (ت751ھ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، وإبراهيم الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، ط: 1393ھ-1973م، ص: 68.

[16]– الاعتصام، الشاطبي (790ھ)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الدار الأثرية، عمان، الأردن، ط2، 1428ھ-2007م، 1/165-166.

[17]– المصدر السابق، 1/165-166.

[18]– نفسه، 1/148-149.

[19]– قواعد التصوف، أحمد زروق، تحقيق: عثمان الحويمدي، وحسن السماحي سويدان، دار وحي القلم، بيروت، لبنان، ط1، 1425ھ-2004م، قاعدة: 65، ص: 73.

[20]– الدر الثمين والمورد المعين شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، أحمد ميارة المالكي الشهير بابن عاشر، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1428ھ-2007م، ص: 540.

[21]– سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له، رقم الحديث: 4119، 2/542.

[22]– المواقف، عبد القادر الجزائري، موفم للنشر، طبع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1996، 1/100.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق