مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامة

شكوى فاطمة والعلاج النبوي الحكيم – الجزء 2/2 –

فاطمة بوسلامة

أستاذة بمؤسسة دار الحديث الحسنية

 

 

 

رابعا: لاحظ أن فاطمة رضي الله عنها هي التي شكت وسألت خادما، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاء للنظر في شكواها لم يخاطبها بمفردها وإنما خاطب معها عليا كرم الله وجهه بعدما جلس بينهما، وقال لهما معا: (هل أدلكما على خير مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما أو آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم)

ففي هذا دلالة واضحة على أن الزوجين معا معنيان بهذا الأمر، وأن الزوج في شرع الله عليه واجب مساعدة زوجته والتعاون معها على رعاية البيت، وقد قال الرسول الكريم في مناسبة أخرى: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم مسؤول عن رعيته )[1].

وقبل أن نبتكر الآن مبدأ الرعاية المشتركة بين الزوجين ونعتبره إنجازا كبيرا في عالم الأسرة وحقوق المرأة، فقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله: سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله “[2] تعني خدمة أهله.

وقد وقع مفسرا في صحيح ابن حبان عن عائشة بلفظ:” ما كان إلا بشرا من البشر كان يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه [3].

والحديث أخرجه البخاري أيضا في كتاب النفقات باب خدمة الرجل في أهله، وفي كتاب الأدب باب كيف يكون الرجل في أهله

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته يخصف النعل أي يخرزها، ويفلي الثوب،ويستقي الماء، ويحلب الشاة…والمعنى أنه كان يساعد زوجاته ويشاركهن الأعمال المنزلية.

نعلم جميعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متزوجا من تسع نساء، ولو أن كل واحدة من زوجاته قامت بعمل من تلك الأعمال لما تكلف منها شيئا، ولو أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا بالقيام بها سيُطاع ولا شك، ولكنه عليه الصلاة والسلام خير الرجال، ومقتضى هذه الخيرية أن يكون خير الرجال لأهله، كما قال صلى الله عليه وسلم:( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )[4]، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الرجال كيف ينبغي أن يكونوا مع نسائهم ويريهم من فعله ما يقتدون به في حياتهم.

ولو أن رجلا ما اعتذر عن مساعدة زوجه بما لديه من أشغال كثيرة، فهل يا ترى يكون هذا الرجل أكثر انشغالا من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تحمل مسؤولية الدعوة وبناء الأمة.

ولو أن رجلا ما تذرع بما يعتقد لنفسه من مكانة مرموقة أو بما يتصوره عن شغل البيت باعتباره يقلل من رجولته، فهل يا ترى يكون هذا الرجل أعلى مكانة وأكثر رجولة من خير البرية صلى الله وعليه وسلم. قال ابن حجر تعليقا على الحديث السابق الذكر: “وفيه الترغيب في التواضع وترك التكبر وخدمة الرجل أهله “[5].

لا شك أن التعاون بين الزوجين له أهمية بالغة في تحقبق سعادة الأسرة، وقد أظهرت بعض الدراسات أن الأعمال المنزلية هي ثالث سبب رئيسي للخلافات الزوجية بين الأزواج بعد المال والعلاقة الحميمية.

ما زلنا مع فعل الرسول صلى الله وسلم صلى الله وسلم الذي يرويه علي كرم الله وجهه: لقد جاء الزوجين في وقت حميمي أي في وقت يأويان فيه إلى فراشهما، فهذا التعاون المطلوب بينهما ينبغي أن يأتي في إطار علاقة حميمية مستقرة، ويحصل في فضاء  معاني الرحمة والمودة والخيرية، ولا يُؤتي هذا التعاون أكله في تمتين الروابط الزوجية والمشاركة الوجدانية ومن تم السعادة المرجوة إن طولب به هذا الطرف أو ذاك ضمن قسمة جامدة في الحقوق والواجبات.

خامسا: الرسول صلى الله وسلم علم فاطمة وزوجها التسبيح في كل ليلة وجعل هذا التسبيح خيرا لهما من خادم، قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلكما على خير مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما او آويتما الى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم.

وهذا يدل على أن الذكر يعطي المرء قوة في الفعل، وطاقة زائدة تجعله يتحمل مشقة العمل ويقوم به دون  سآمة ولا ملل.

إذا الدواء الذي جلبه الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة المشتكية بالإضافة إلى ما ألمح إليه من قيمة التعاون وحث الرجال على مساعدة أزواجهن، هو الذكر.

وهذا لا يعني عدم جواز الاستعانة بالخادم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق عنده من الرقيق ما يعطيه لابنته حين طلبت ذلك، أو أنه عليه الصلاة والسلام آثر في هذا العطاء من هو أكثر حاجة منها، وهو ما تدل عليه روايات أخرى للحديث مثل حديث أبي هريرة ” أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما وشكت العمل فقال ما ألفيته عندنا “[6] أي ” ما وجدته عندنا فاضلا عن حاجتنا إليه لما ذكر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصُفة “[7].

وأخرج أحمد من وجه آخر عن علي في هذه القصة: ( والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم )[8].

ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم أراد في هذا الموقف أن يبين للزوجين أهمية الذكر في حياتهما ويعلمهما أن المداومة على الذكر والتسبيح في كل ليلة تخفف عنهما ما يتحملانه في كل يوم من أعباء كثيرة، كما أراد الرسول الكريم أن يربط الزوجين معا بخالقهما ويضعهما أمام المسؤولية الملقاة على عاتقهما فيتذكران دوما أنهما خُلقا لعبادة الله عز وجل: ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون )[9]، الزوج يعبد الله في علاقته بزوجته والزوجة تعبد الله في علاقتها بزوجها، وهذا مصدر سعادة الزوجين.

ولعل الرسول صلى الله وعليه وسلم أراد في هذا الموقف أن يقدم حلا عاما لنوع هذه المسألة، فلو كان أعطى لابنته خادما وانتهى الأمر، فماذا يُعطي من شكت بعد رحيله عليه السلام إلى الرفيق الأعلى من نساء المسلمين، وما هو الحل لمن كثرت عليها الأعباء ولم تستطع دفع أجرة الخادم.

فما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة وزوجها هو عطاء لجميع الأزواج في كل العصور، فهل يا ترى يدرك هؤلاء قيمة هذا العطاء؟

ولعل الرسول صلى الله وعليه وسلم أراد في هذا الموقف، وهو يقود أمة بكاملها، أن يربي ابنته ومعها أبناء المسلمين جميعا على تحمل المسؤوليات، ويعد جيلا قويا لا تهزمه أعباء الحياة، وهذه التربية وهذا الإعداد لا يأت من فراغ ولا بالتوجيه فقط بل بالممارسة والتدريب، وأبسط أشكال هذا التدريب أن يمارسوا مسؤولياتهم بأنفسهم ولا يعتمدوا على غيرهم في إنجازها.

سادسا وأخيرا: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستجب في الظاهر لطلب فاطمة إذ لم يعطها الخادم، ولكنه أعطاها ما هو خير من الخادم، ولنا أن نتأمل كيف صاغ صلى الله عليه وسلم كلامه وتوجيهه في إطار من معاني الرقة واللطف، وكيف أقنعها عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء البديل، فهو أولا كلف نفسه المجيء إليها ليبدي اهتمامه بها وهو ثانيا جلس بينها وبين زوجها في فراشها الذي تأوي إليه لتأكيد قربه منها ومشاركته همومها،وهو ثالثا أظهر النصح لها وإرادة ماهو الأفضل لها بقوله ( هل أدلكما على خير مما سألتما ) وقوله ( فهو خير لكما من خادم )

فندرك بهذا أن كلامه وتوجيهه للزوجين ولغيرهما لا يؤخذ بمعزل عن فضاء الرحمة العامة التي أرسل لأجلها:( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[10]، ونتعلم من تصرفه عليه الصلاة والسلام أيضا درسا في التبليغ والنصح والتوجيه: فهذا التودد والتقرب مقدمتان ضروريتان في التبليغ وإيصال الفكرة، وشرطان لازمان للاستماع وقبول النصح والإرشاد، وصدق ربنا جل وعل إذ قال: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )[11].

يا لعظمة هذا النبي الكريم وهو يقدم هذا العلاج الحكيم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حبه وحب ما أحبه من الأقوال والأفعال صلى الله وسلم وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 


[1] –  صحيح البخاري/ كتاب الأحكام

[2] – صحيح البخاري/ كتاب أبواب الأذان/ باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج

[3] – صحيح ابن حبان/ ذكر ما يستحب للمرء أن يأنف من العمل.

[4] – سنن الترمذي/ باب فضل أزواج النبي.

[5] – فتح الباري/ كتاب الآذان/ باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج.

[6] – معجم الطبراني الأوسط/ باب من اسمه إبراهيم.

[7] – فتح الباري/ كتاب الدعوات/ باب التكبير والتسبيح عند المنام. وأهل الصفة: قومً من المهاجرين لم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صُفّة المسجد، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصّفة بالليل. وصُفّة البُنْـيَانِ: طُرَّته. والصُّفَّة: الظُّلَّةُ

[8] – مسند الإمام أحمد ج1 ص171.

[9] –  الذاريات: 56.

[10] –  الأنبياء: 107

[11] – آل عمران:159

 

نشر بتاريخ: 01 / 10 / 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق