شرح “موجز البلاغة”للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (الحلقة الثانية عشرة)
منهج المؤلِّف
قال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ :"...ووضعته وضعَ من يقصد إلى تثقيف طلبة هذا العلم بالمسائل النافعة المجردة عن المباحث الطفيفة في فنون البلاغة الثلاثة، فإن هم أتقنوه فهماً ضمنتُ لهم أن ينطقوا بلسانٍ فصيحٍ، ويملؤوا أوطابَ أذهانهم من المحض الصريح".قلت: التثقيف في الأصل: تسوية الرمح أو القوس بالثِّقافِ، وهي حديدة يُقَوَّمُ بها الشيء المعْوَجُّ. وقد سمي الشعر المحكك مثقفا، تشبيها له بالرمح الذي عولج بالثقاف. وسمي الجديد الذي لم يثقف مخشوبا. وفي هذه المادة أيضا معنى الحذق، وسرعة التعلم. وفي حديث أم حكيم بنت عبد المطلب فيما أجابت به أمَّ جميل بنتَ حرب، زوجَ أبي لهب:" إني حصان فما أُكَلَّم، وثَقَافٌ فما أُعَلَّم".
فيكون المعنى أنه يقصد تقويم أودهم، وسرعة تعليمهم. وقد استُعمل هذا اللفظ في عصرنا هذا للدلالة على مفهوم هو أوسع مما ذكرناه، غير أن المؤلف هنا لا يقصد غير الصقل والحذاقة.
وقد ذكر عمدته في تثقيفهم: وهي إسقاط المباحث الطفيفة، وعدم الالتفات إليها، والاقتصار على المسائل النافعة. ويقصد بالمباحث الطفيفة التي قيمتها ضعيفة. فإن الطفيف هو القليل، والخسيس، وغير التام. وهي قوله: "..ووضعته وضعَ من يقصد إلى تثقيف طلبة هذا العلم بالمسائل النافعة المجردة عن المباحث الطفيفة في فنون البلاغة الثلاثة". فكأنه شذب مباحثه، وهو معنى التجريد هنا، واقتصر على ما فائدته بينة.
وبعد أن ذكر المؤلف الذي عليه، وهو التشذيب طلبا للتثقيف، ذكر الذي على الطالب، وهو إتقان الفهم، ثم تكفل له، (وهو معنى الضمان، في قوله: ضمنت لهم) إن فعل ذلك، أن يتقن قواعد الفصاحة، وهو الجانب النظري فيها، وأن ينطق بلسان فصيح، وهو الجانب العملي فيها. أو هو ثمرتها المرجوة.
وهذا يُحمل محمل إغراء طلبة العلم بالنظر في هذا الكتاب. لأن اللحان لا يسمى فصيحا، فاللحن خلل في الفصاحة، إذ الفصاحة لا تكون إلا بتمام آلة البيان. وفي بعض ذلك يقول الجاحظ:"وممن كان لا يلحن البتة، حتى كأن لسانه لسانُ أعرابي فصيح: أبو زيدٍ النحويُّ، وأبو سعيد المعلِّمُ". وسبيل تقويم اللحن ومعالجته علم النحو. وليس شيء من هذا الكتاب في هذا العلم.
وأيضا فإن الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. ويسمى كلامهما فصيحا. وإنما وُصف هارون بأنه كان أفصح من موسى لعقدة كانت في لسان موسى. وهو قوله تعالى في القصص:" وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردا يصدقني". وقد كان زياد الأعجم فصيح الشعر لتمام بيانه، ناقصَ آلة النطق عن إقامة الحروف. كان يعبر عن الحمار بالهمار. فاعتبر شعره فصيحا، وهو في نفسه غير تام الفصاحة.
فالفصاحة لا تكون إلا بتمام آلة البيان. ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحا، إذ كانت الفصاحة تتضمن معنى الآلة، ولا يجوز على الله تعالى الوصفُ بالآلة، ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان.
فعُلم من هذا أن إعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة مما لا يستطيع مؤلف أن يتكفل به لقارئ مطلقا. إلا إذا حملنا الأمر على مثل قولهم: القلم أحد اللسانين. فيكون قوله: : ضمنت لهم أن ينطقوا بلسان فصيح..". من هذا الباب.