سليل الخطباء ونتيجة العلماء ابن عباد الرندي (733-792ﮪ)
هو من كبار الشيوخ والأولياء، والزهاد الأتقياء، شيخ عصره، وسراج زمانه، ذو مشرب شاذلي، تميز بتواضعه وحيائه وكرمه، وبعلمه وحُسن خِلْقَته وخُلُقه، العارف الرباني، والعالم الصوفي، سيدي: "ابن عبد الله محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى ابن عباد النفزي الحميري الرندي، الذي ولد برندة جنوب الأندلس سنة: 733ﮪ/1333م، نشأ في أسرة اشتهرت بالصلاح والزهد والاشتغال بالعلوم الدينية"،[1] كما حفظ القرآن وعمره لا يتجاوز السبع السنوات، "... وتشاغل بعدُ بطلب العلوم النحوية، والأدبية، والأصولية، والفروعية...، ثم أخذ في طريق الصوفية، والمباحث على الأسرار الإلهية، حتى أشير إليه، وتكلم في علوم الأحوال، والمقامات، والعلل، والآفات، وألف فيه تآليف وتصانيف عجيبة...، وله أجوبة كثيرة في مسائل العلوم، نحو مجلدين"،[2] جامعا بذلك بين علمي الشريعة والحقيقة.
نهج ابن عباد الرندي، منهج الصوفية في السلوك والاعتقاد، فسلك طريقهم، وشرب من مشربهم، وجاد بعلمه الذي نال منه التصوف الحظ الوفير، حيث لقي كبار الصوفية والمشايخ، الذين سقَوه من علمهم، وأحوالهم، ومقاماتهم. ومما ساعد على ذلك، زهده وصلاحه، وحماسته واستعداده، لاستيعاب العلوم والمعارف، والأذواق والحقائق.
يقول أحمد القسنطيني الشهير «بابن قنفذ» في كتابه أنس الفقير: "... ولأبي عبد الله هذا عقل وسكون، وزهد بالصلاح مقرون، كان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه أبي عمران موسى العبدوسي...، وله كلام عجيب في التصوف، وصنف فيه مما هو الآن يقرأ على الناس مع كتب التذكير"،[3] ويقول سيدي أحمد زروق: "...كان ذا سمت وصمت، وزهد وعفاف، وتجمل، متبرئا من الدعاوي".[4]
ويضيف ابن الخطيب القسنطيني قائلا: "الخطيب الشهير العالم الكبير، من أكابر أصحاب ابن عاشر وخيارهم، له كلام عجيب في التصوف، وله فيه قلم انفرد به، وسُلم له فيه بسببه...، وكان يحضر السماع ليلة المولد"،[5] ويقول تلميذه أبو يحيى ابن السكاك: "أما شيخي وبركتي أبو عبد الله ابن عباد رضي الله عنه، فإنه شرح الحكم، وعقد درر منثورها في نظم بديع، وجمعت من إنشائه مدارُها على الإرشاد إلى البراءة من الحول والقوّة، فيها نبذ كأنفاس الأكابر، مع حسن التصرف في طريق الشاذلي...، فقرب بها حقائق الشاذلية تقريبا لم يسبق إليه".[6]
لقد كان سيدي ابن عباد الرندي رحمة الله عليه، يحب طلب العلم، "... حيث حطَّ بمدينتي تلمسان وفاس، قرأ بهما الفقه والعربية والأصول"،[7] فتولى بهذه الأخيرة، والتي حظي بمحبة أهلها وبتقديرهم واحترامهم له، منصِبيْ الإمامة والخطابة بجامع القرويين، لمدة خمسة عشر عاما، حتى اعتبر" "بمثابة الإمام الشافعي بمصر"،[8] مؤكدا بذلك "... أنه لم يكن متجردا ومنقطعا إلى العبادة والزهد، وإنما كان ممارسا لحياة اتخذت من مبدأ عدم التعارض بين الاشتغال بالأسباب الدنيوية، وسلوك طريق الصوفية منهجا علميا مقتديا في ذلك بالمدرسة الشاذلية.[9]
فبعد مكوثه في مدينتي فاس وتلمسان، عاد سيدي ابن عباد الرندي لمدينة سلا، "فصحب أفضل أهل زمانه علما، وعبادة، سيدي أحمد بن عاشر رحمة الله عليه"،[10]والذي كان بدوره "... يشيد بذكره، ويقدمه على سائر أصحابه، ويأمره بالأخذ عنه والانتفاع به، إذ يقول: "ابن عباد أمة واحدة".[11]
بعد سنين عديدة، بصحبة ابن عاشر، رحل ابن عباد بعد ذلك إلى طنجة، حيث لقي بها الشيخ الصوفي أبا مروان عبد الملك، يقول سيدي ابن عباد الرندي: "لازمته كثيرا وقرأت عليه وسمعت منه...، وانتفعت به عظيما في التصوف وغيره، وأجازني إجازة عامة...، إضافة إلى شيوخ وعلماء كبار آخرين، فقد أخذ عن خاله الشيخ الفقيه عبد الله الفريسي العربية وغيرها، وعن أبي الشيخ المقري كثيرا من المختصر الفرعي وعن عبد النور العمراني الموطأ والعربية، وعن الإمام العالم أبي عبد الله الآبلي الإرشاد..."،[12]إضافة إلى علماء وشيوخ آخرين درس على يدهم العقيدة، والتهذيب، والفقه..."كالعلامة أبو عبد الله الشريف التلمساني، والشيخ أبو مهدي المصمودي، والشيخ أبو محمد الفشتالي، وغيرهم...".[13]
لقد أثمر هذا التكوين العلمي الصوفي لابن عباد تآليف، وشروح، ورسائل، أنارت رفوف الخزانات المغاربية، فخُزّنت في صدور محبيه ومريديه، حيث كانت تلك الثمار، صورة عاكسة للتصوف المغربي، ولكبار علمائه وشيوخه في ذلك العصر، حتى داع صيته ببلاد المغرب والمشرق "...، إذ تميز عصره بنشاط مدارس صوفية، عملت على التقَيُّد بالكتاب والسنة، وابتعدت عن تيار التصوف الفلسفي، واهتمت أكثر بالجانب التربوي العلمي من التصوف...، وقد اعتبر ابن عباد الرندي، رمزا من رموز المدرسة الشاذلية الصوفية، وأحد أهم أعمدتها بالمغرب، حيث ساهم إلى حد كبير في نشر الطريقة الشاذلية بالأندلس والمغرب من خلال تآليفه".[14]
ولشيخنا ابن عباد مؤلفات عديدة، "كالرسائل الكبرى والصغرى في التوحيد والتصوف والسلوك وغير ذلك"،[15]والتي احتوت في طياتها آداب التصوف والمتصوفة، كما له كتاب: «غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية»، وكتاب: «شرح أسماء الله الحسنى»، وكتاب: «فتح التحفة»، إضافة إلى بعض المخطوطات، وله مجموعة من الخطب التي ألقاها بجامع القرويين، حيث لازالت تدرس لحد الآن في جوامع ومدارس بلاد المغرب.
ومن أقوال سيدي ابن عباد الرندي رحمه الله:
* "معرفة الله تعالى هي غاية المطالب، ونهاية الآمال والمآرب، فإذا واجه الله عبدا ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرف له منه، وأوجد له سكينة، وطمأنينة فيها، فذلك من النعم الجزيلة عليه.
* إخلاص كل عبد في أعماله على حسب رتبته ومقامه.
* مداواة أمراض القلب واجبة على المريد، إنما تكون من غلبة أحكام الطبع عليه من صحبته للأضداد، ووقوفه مع المعتاد، وانقياده إلى هوى النفس، وأنسه بعالم الحس.
توفي رحمة الله عليه عام 792ﮪ، بكدية البراطل من داخل باب فتوح".[16]
الهوامش:
[1] - معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 2005، 17/5867.
[2] - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: احسان عباس، دار صادر، بيروت، ص- ص: 5/ 341-342.
[3] - أنس الفقير وعز الحقير، أحمد ابن الحسين القسطنني(740)، تحقيق: نجاح عوض صيام، ط:1/2002، دار المقطم للنشر والتوزيع، ص:123.
[4] - المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي (950ھ)، دار الأمان للنشر والتوزيع، ودار البشائر الإسلامية، الرباط، ط: 4/2003، ص :140.
[5] - المصدر السابق، ص:140.
[6] - نفح الطيب، ص:346
[7] - المطرب، ص:140
[8] - غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، محمد بن إبراهيم النفزي(ابن عباد)، تحقيق: عبد الجليل عبد السلام، دار الكتب العلمية بيروت، ط:2/2007، ص:1.
[9] - معلمة المغرب، 17 /5868 .
[10]- المطرب، ص:140.
[11]- نفح الطيب، ص ص:436/437.
[12]- المصدر السابق، ص:342
[13]- المطرب، ص:141.
[14]- معلمة المغرب، 17/5868.
[15] - المطرب، ص:141.
[16] - غيث المواهب، ص ص: 1-19