مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأخبار

سؤال الشيخ المربي في التربية (1)

شكل سؤال الاكتفاء بالكتب عن الشيخ إحدى القضايا الهامة التي أثارت نقاشا حادا في القرن الثامن الهجري، لم يقتصر مجال النقاش بين الطلبة في مسجد غرناطة، وإنما تطور الأمر ليصبح لزاما على «المثقف» أن يخوض بدوره في هذا الجدال الدائر في الأندلس، لينعكس تأثير ذلك على الواقع المغربي، مما يعطي الانطباع على مدى التأثير القائم بين العدوتين، وسرعة انتشار الأفكار بين المجالين، وهنا ينبغي الوقوف على الملاحظات الآتية:

أ‌- أن التصوف في القرن الثامن الهجري أصبح يشكل واقعا جماعيا مؤثرا داخل الحياة العامة في المجتمع الأندلسي.

ب‌- أن مجال التصوف أصبح راسخا داخل الشعور العام في الأندلس، بحيث إن بعض قضايا التصوف من مثل ضرورة الشيخ في التربية استدعت حَمية وتعنيفا بين طلبة العلم، ليخرج النقاش من إطاره الحجاجي، إلى إطار يبرز فيه العنف عاملا للدفاع عن الأفكار والمعتقدات.

ج- أن النقاش المثار حول ضرورة الشيخ المربي استدعى انخراط العلماء للإجابة عن هذا الإشكال المطروح، والذي يمكن أن يكون سببا في خلخلة وحدة الأفراد داخل المجتمع.

وقد أدى هذا الاختلاف إلى أن يرسل الإمام الشاطبي (790هـ) إلى كل من الفقيهين المغربيين: أحمد القباب (778هـ)، وابن عباد الرندي (792هـ) يستفتيهما في قضية الاكتفاء بالكتب دون الشيخ، أم أن الشيخ ضروري في السلوك التربوي؟

كما أدلى العلامة ابن خلدون (808هـ) في الموضوع في كتابه: «شفاء السائل لتهذيب المسائل»، وتكلم الشيخ زروق أيضا (899هـ) مبرزا وجهة نظره في هذه القضية في كتابيه: «عدة المريد الصادق» و «قواعد التصوف». إلا أننا في هذا المقال سنقتصر على أعلام القرن الثامن الهجري، مرجئين الكلام  عن تجليات هذا الحدث مع أعلام القرن التاسع في مقال لاحق. 

أ‌- جواب القباب[1]: جاء جواب القباب يتضمن أفكارا متعددة، يمكن إجمالها على النحو التالي: 

أن التصوف لا يكفي فيه التعلم من غير ذوق، ولا ينفع فيه تحصيل المقال دون اتصاف وتحقق بتلك الأحوال.

استحسانه من قال: أنه لابد في الطريق من شيخ، قوله: وليس فوق ما احتج به من حجة، وليس بعد بيانه بيان، فهذه كتب الطب والفقه والأصول والنحو فما يمنعك من النظر فيها والاطلاع على معانيها والتحقيق في مراسمها لتكون من علمائها، بدون مجالسة أهل تلك الفنون، ولهذا قال العلماء: كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب ومفاتيحه بأيدي الرجال.

قوله: أن اصطلاحات القوم غير مصرح بها، بل مذكورة على جهة الرمز أو الكناية، والخوف فيها أعظم، فكيف يقدر على خوض هذا العلم من الكتب بغير شيخ مع ذلك.

قوله: أن كتب القوم مشتملة على فنين: أحدهما: معرفة المقامات والأحوال، وأخذ النفس باتصاف تلك الصفات، وملاحظة تلك الخواطر ومدافعة ما يعرض في ذلك من العوارض. والفن الآخَر: معرفة ما فيه قوام المعاملة وتصفيتها من الشوائب المفسدة، ومعرفة عيوب النفس وكيف مداواة عللها. والخوض في هذا الفن الآخر متأكد لا غنى لأحد عنه، والغرر فيه أخف، لأن أكثره أمور بينة، وعللها ظاهرة، فمن وجد شيخا يهديه سبيله فليلزمه، ومن لا، فلابد له من هذه الكتب. وأما الفن الأول فلابد، إذ صاحبه طالب ربح وقاصد لأمر لم يكلف به حتما، فليس من شأن العقلاء المخاطرة في طلب ربح بسلوك طريق مخوفة بغير دليل. [2]  

  فشيخ التربية بالنسبة للقباب يتوجب الأخذ عنه خصوصا في معرفة المقامات والأحوال، وإدراك معاني اصطلاحات القوم، أما ما يتعلق بالمعاملات وتصفيتها من الشوائب، ومعرفة عيوب النفس فالشيخ فيها متأكد، فمن وجد شيخا يهديه فليلزمه، وإلا فعليه بكتب القوم. ومعنى الكلام أنه يستعين بما دَوَّنَهُ شيوخ التربية وما أثر عنهم في وصف عيوب النفس وتلوناتها، وكيفية علاج عللها وأمراضها، إلى أن يتيسر له ملاقاة الشيخ المربي، ولا يدل كلام القباب بحال من الأحوال أنه يمكن الاكتفاء بالكتب دون الشيخ.    

ب- جواب ابن عباد[3]: خلاصة ما ذكره ابن عباد يتمحور على الشكل التالي:

  – الذي أراه أن الشيخ في سلوك طريق التصوف على الجملة أمر لا زم لا يسع أحد إنكاره، وكان هذا من الأمور الضرورية.

  – الشيخ نوعان: شيخ تعليم وتربية، وشيخ تعليم بلا تربية. فشيخ التربية ليس بضروري لكل سالك، وإنما يحتاج إليه من فيه بلادة ذهن، واستعصاء نفس، وأما من كان وافر العقل منقاد النفس فليس بلازم في حقه، وتقيده به من باب أولى، وأما شيخ التعليم فهو لازم لكل سالك…إلا أنه لا يكمل كما يكمل من تقيد بالشيخ المربي، لأن النفس كثيفة الحجاب، عظيمة الإشراك، فلابد من بقاء شيء من الرعونات فيها، ولا يزول عنها ذلك إلا بالانقياد للغير والدخول تحت الحكم والقهر، ولذلك قلنا إنه من باب أولى.

  – أن ما ينبغي اعتماده بالنسبة للمريدين في بداية أمرهم، أن يصححوا قصدهم بمراعاة الصدق مع الله تعالى، ويستمروا في السلوك على النهج القويم، إلى أن يقيض الله لهم شيخا ربانيا يرقيهم بهمته في أسرع وقت، وقد قال الله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ [العنكبوت، الآية 69] .

  – لا ينبغي للعبد أن يمتنع من الأخذ في السلوك بسبب عدم وجدان شيخ يراجعه في جزئيات سلوكه، ويبقى منتظرا لوجود الشيخ، بل يبادر إلى السلوك على النحو الذي ذكرناه من قبل.

يظهر من موقف ابن عباد، أن السالك المعتمِد على شيخ التعليم لا يكمل كما يكمل مَن تقيد بالشيخ المربي، ولا يمكن الاستعاضة عنه أيضا بكتب القوم، لأن هذه الأخيرة يُحتاج معها أيضا إلى من يفتح مغاليقها، ويبين مراميها.

ج- جواب الشاطبي: لم يكن للإمام الشاطبي رد في المسالة التي أفتى فيها الفقيهين المغربيين القباب وابن عباد، ولكن يمكن تلمس موقف الشاطبي من خلال كتابيه: «الموافقات» و«الاعتصام»، اللذين يضمان فصولا مهمة في مجال التصوف، وإن كان الشيخ يتشوف إلى أن يصنف كتابا خاصا يلخص فيه طريقة القوم، حيث قال في الاعتصام: «وفي غرضي – إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله، ويسّر لي الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا، يستدلّ به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما دخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع: من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادّعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقوّلوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت في هذا الزمان الآخر كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم…، وطريقة القوم بريئة من هذا الخُباط بحمد الله».[4] 

ويقول عن الصوفية: «الصوفية الذين نُسِبت إليهم الطريقة مُجمعون على تعظيم الشريعة، مقيمون على متابعة السنة، غير مُخلِّين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها. ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فِرقة من الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السُّنة. وأكثر من ذُكِر منهم علماء وفقهاء ومحدثون، وممن يؤخذ عنه الدين أصولاً وفروعاً…».[5]

 ففي كتابه الموافقات نجد في المقدمات التي استفتح بها مؤلفه قواعد عامة للسلوك وهي:

   – كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي.

   – كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى.

   – العلم المعتبر شرعا هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان.

   – مِن أنفع طُرُق العلم المُوصِّلة إلى غاية التحقق به أخذُه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.[6]

 كما أن الشاطبي ينبه إلى أصل الإقتداء بالشيوخ المتمكنين لمن أراد التحقق بالعلم الشرعي سلوكا وأدبا. وجملة ما ذكره:  

   – العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله.

   – أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، وهكذا شأن السلف الصالح.

  – الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه أعني شدة الاتصاف به، وإلا فالجميع ممن يُهتدى به في الدين كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى، فلما ترك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله إتباع الهوى.[7]

 إن الناظر في المتون الصوفية المغربية، يجد أن هناك من المشايخ الذين كانت لهم صلات ببعض الكتب الصوفية، فقد كان الشيخ أبو النحوي قد جزأ كتاب الإحياء إلى ثلاثين جزءا، فيقرأ في كل يوم رمضان جزءا منه[8]، وكان أبو الحسن بن حرزهم يُقرأ كتاب الرعاية للمحاسبي[9]، بل منهم من كان يربي أصحابه ببعض المؤلفات كالشيخ الغزواني الذي يربي بقصيدة الشيخ الشريشي «أنوار السرائر وسرائر الأنوار»، وهناك من المشايخ المتأخرين من كان يحث على حكم ابن عطاء السكندري، ومجمل القول:

• أن الشيوخ الذين كان لهم اتصال بكتب التصوف، قد سبقت لهم صحبة ومجالسة الشيوخ، وبعد أن حصلوا استعدادا باطنيا، وتهيئا روحيا كان لهم النظر في كتب القوم على وجه الاستئناس، وإلا فإن التربية الصوفية تُأخذ من بواطن الرجال.

• أن الشيوخ الذين أدرجوا بعض الكتب الصوفية في مجال التربية لم يكن ذلك بمعزل عن الشيخ المربي، وإنما ذلك بوجوده، فطريقة جامعة بين تربية الشيخ وبكتب القوم، ويمكن الاستغناء عن الكتب، ولكن لا يمكن الاستغناء عن الشيخ.

• أن الكتب التي كان يستعملها بعض المشايخ هو ما تعلق بجانب المعاملات والسلوك ولم تكن كتب حقائق.

الهوامش

[1]  أبو العباس أحمد القباب الفقيه المفتي المشاور، الخطيب الحاج، الصالح الزاهد، أحد المحققين الحفاظ، من أكابر علماء المذهب حفظا وتحقيقا، وتقدما وإمامة وجلالة، أخذ عن أبي عبد الله الفشتالي، وأبي الحسن ابن فرحون المدني، وعنه أخذ الشاطبي وابن قنفذ، له تآليف عديدة منها: شرح قواعد عياض، وشرح بيوع ابن جماعة، واختصار أحكام النظر لابن القطان، توفي 778هـ. سلوة الأنفاس: محمد الكتاني، 3/304. الديباج المذهب: ابن فرحون، 1/162.

[2] أبو العباس الونشريسي: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف: محمد حجي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 1401ھ/1981م: 11/117.

[3]  هو سيدي محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن عباد النفزي، توفي بفاس سنة 792 م، أفرد له الشيخ عبد المجيد المنالي ترجمة في كتاب أسماه ” إفادة المرتاد بالتعريف بالشيخ ابن عباد” مخطوط في الخزانة العامة بالرباط، رقم: 2100د، وترجم له محيى الدين الطعمي في “طبقات الشاذلية الكبرى”، ص: 195.

[4] أبو إسحاق الشاطبي: الاعتصام، ضبط نصه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الدار الأثرية، عمان، الأردن، ط2، 1428ھ/2007م، 1/148-149.

[5] المصدر نفسه، 1/165-166.

[6] أبو إسحاق الشاطبي (ت790ھ): الموافقات في أصول الشريعة، شرحه وخرج أحاديثه: عبد الله دراز، وضع تراجمه: محمد عبد الله دراز، خرج آياته وفهرس موضوعاته: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط7، 1426ھ/2005م، 1/64.

[7] المصدر نفسه، 1/54.

[8]  التادلي، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق: أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، ط3، 2010م، ص 96.

[9] أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم التميمي الفاسي (ت603ھ): المستفاد في مناقب العباد بمدينة فاس وما يليها من البلاد، تحقيق: محمد الشريف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ط1، 2002م، 2/16.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق