الرابطة المحمدية للعلماء

رواية “الحواميم” بمقهى أدبي بالرباط

“المغامرة الإشارية في روايات ابن عرفة” موضع أمسية أدبية بمسرح محمد الخامس بالرباط

في إطار أنشطة المقهى الأدبي التابع لمسرح محمد الخامس بالرباط، لشهر دجنبر 2010، خصص اللقاء الثالث منذ افتتاح هذا الفضاء، للأديب والباحث الدكتور عبد الإله بن عرفة. وقد قدمت الأستاذة جميلة كزير، المتخصصة في السرديات والأدب الأندلسي، قراءة عنونتها “المغامرة الإشارية في روايات ابن عرفة”. دام اللقاء ساعتين ونصف استهلته الباحثة ببيتين شعريين لابن وضاح :

                          فما كنتُ إلا طائراً بثنائكـمْ         في دَوْحِ مجدكمُ أقومُ وأقعُدُ
                          إن تسلبونا ريشَكُمْ وتُقَلِّصُو        عَنِّي ظِلالَكُمُ فكــيفَ أُغَرِّدُ

طبعا كل أديب وكل كاتب لا يمكن أن يصدح ويعيد الغناء إلا إذا احتضنته تلك الأشجار الوارفة الظلال المكنى عنها بشجرة النقد والقراءة…. وعليه وجب الالتفات إلى قضية أساس تحكم هذا النص وتتحكم فيه إنها قضية تأمل الكتابة ذاتها موضوعاً للكتابة، ولعل هذا ما جعل من الحواميم بالنسبة لنا نصاً مركزياً في الكتابة المغربية… غير أن المثير في هذا المقام هو إصرار ابن عرفة من خلال اصطناع شكل جنس تعبيري خاص به يكسر عبره وبواسطته نمطية بعض النصوص الروائية العربية والمغربية في نسجها خيوط الشبكة الدلالية لتيمة الغرب والآخر داخل عوالمها السردية التخيلية، وهو ما حدا ببعض النقاد العرب ونقصد يحيى القيسي بالأردن أن يعلق على تجربة ابن عرفة الروائية قائلا “منذ قراءتي الأولى (لبحر نون) وأنا أشعر بانشداد عجيب إلى طريقة ابن عرفة السردية الشائقة التي تورط القارئ في النص من أول كلمة إلى آخر نقطة”. ثم يقول: “وبنفس واحد فهو يكتب نصوصاً متوجهة نابضة بالحياة .. تجر القارئ إلى عوالمها فتنسف طمأنينته بلا هوادة” ويتابع قائلا “فرواياته هي بحث معرفي عميق في النفس البشرية وفي أسرار الوجود تأخذ من الصوفية لغتها ومن الخيال والتحليق جموحها ومن الديانات روحها”.

ابن عرفة كروائي ابتغى من هذا الخروج عما هو محمول ومعروف إخصاب التجربة الروائية والإبداعية بالمغرب، بعلم المنطق الإشاري ليمثل أعز ما يستبطنه من مكنون معرفته وأخص خصائص وطنه الوجداني ومقامه الجمالي.

وهذه الوجهة الإشارية التي تطالعنا بها رواياته لتعبر كذلك عن لسان حال عاشق صوفي، بل وعارف خبر دلالة هذه الحروف والرموز والإشارات، وأحاط بفنونها حيث استيقن أنه “لا حرف، ولا كلمة ولا سمة ولا علامة ولا اسم ولا رسم ولا ألف ولا ياء إلا وفي مضمونه آية تدل على سر مطوي وعلانية منشودة، وقدرة بادية، وحكمة مخبورة”، على حد قول أبي حيان التوحيدي في إشاراته…. إلا أن الكاتب لم يقنع بهذا اليم الإشاري الذي يحمل دلالات قرآنية باطنية والذي حقق له بياناً مجازياً، فطلب مظاهر أخرى لفكره وإبداعه، تجلت في النقد والتنظير والتثقيف…

لقد خلق هذا المبدع كذلك معجماً فنياً، وأودعه بوح جوانيته فأتى بلسان تفرَّد به، إذ راح يبحث عن صيد كشفي ندعو من خلاله كل القراء والنقاد والباحثين ليشدوا رحالهم إليه، ويوقفوا همهم لدراسة هذه الإضافات على مستوى المعمار الروائي وعلى مستوى البناء الدلالي…. كما شرعت هذه الروايات كذلك في تحقيق نقلات نوعية تؤهلها لحيازة شارات الابتكار والخلق والإبداع خاصة وقد تحررت من القوالب الموروثة المستلبة عبر العودة إلى منابع التراث التي شكلت عوالمه التخيلية، لذلك فخطابه الروائي يتشكل على خلفية الانفتاح على التراث في صياغة التراث كسؤال في الواقع ؟

بعد هذه القراءة المستكشفة لعوالم الكاتب، أخذ الكلمة الأديب عبد الإله بن عرفة للتعليق على بعض ما أوردته الناقدة المبدعة من إشكالات، وتحدث أولا عن أهمية إنشاء مثل هذا الفضاء في قلب العاصمة الأدبية الرباط، في شارع كانت تطرقه الحافلات التي تنفث دخانها الملوث القاتم، لكي يتحول إلى شارع أدبي وفني وثقافي بامتياز حيث أكشاك باعة الورد واللوحات الفنية ومسرح محمد الخامس، ومعهد الفنون الموسيقية الذي هو في طور التشييد، إضافة إلى هذا المقهى الأدبي، ووزارة الثقافة والحديقة الجميلة على الجهة اليمنى للشارع. وتمنى أن تتحول الكثير من المقاهي من فضاءات للثرثرة واللغو إلى مقاهي يتم فيها تناول الأدب وتداول الفن والنقاش في المعرفة والحديث عن الكتب.

ثم تحدث عن واقع المشهد الأدبي في المغرب بصفة خاصة، وأفاض في الحديث عن مفاهيم جديدة يجب أن تؤثث لقيام أدب مغربي وعربي جديد من خلال دعوته لتأسيس ما أسماه بـ دولة الأدب، وقدم بعض الشروط المادية والأدبية لقيام هذه الإيالة الثقافية. ثم تحدث عن مفهوم النفوذ الثقافي، والرأسمال الثقافي، وعواصم الثقافة والأدب، والمركز الذي ينتج الكونية، والأطراف التي تتصارع عبر الترجمة لتلامس هذه الكونية. وبعد أن قدم مسحاً لهذه المواضيع، تطرق إلى مشروعه الروائي وأجاب عن بعض الأسئلة التي طرحت خلال التقديم، وبيَّن أن كتابته لا تنطلق من استراتيجية محددة لحظة ولادة الإبداع، وإنها تحاول هذه التجربة الروائية الحفر في مفهوم الحضور Da sein كما أوضحته الفلسفة الوجودية الألمانية، ومفهوم الحضرة كما تكلم عنه المحققون من أمثال الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي. كما أكد على أهمية أن يكون الكاتب شاهداً على حضوره، وبيَّن أن المعنى ينكشف بمقدار ذلك الحضور، فكلما كان المبدع أو الناقد أكثر حضوراً كلما كان أكثر فهماً ووجوداً. وبقدر حضوره يكون فهمه ووجوده. ثم أجاب عن سؤال الأستاذة الباحثة في قصور النقد عن متابعة الأعمال الإبداعية الجديدة رغم عمقها وفرادتها، فأجاب بأن السر يكمن في ضرورة أن يبدع النقد أدوات جديدة يقرأ بها هذه الأعمال الجديدة ويسمو إلى مستواها، وإلا فإن تلك الآلة النقدية القديمة ستكون قاصرة عن إدراك عمق التجربة الجديدة. وأكد أن وطن الإبداع هو الغربة، بل إن الأديب الحق هو من يكون غريباً حتى عن غربته. ثم بيَّن أن موضوع روايته الأخيرة “الحواميم” بتعرضها لمحنة طرد وتغريب الموريسكيين، تطرح علينا أسئلة في غاية الراهنية من قبيل أن تحالف الحضارات لا يمكن  أن ينجح إلا إذا قدمت إسبانيا صاحبة هذه المبادرة الاعتذار عن جرائم الماضي.

وقد كان هذا اللقاء درة فريدة وسمراً أدبياً حضره جمع وازن من المهتمين والباحثين وعموم رواد المقهى الأدبي، لعله يشكل نطقة انطلاقة لتأسيس تلك الدولة الأدبية التي بشَّر بها المبدع في بداية مداخلته، من خلال تحويل فضاءات الثرثرة واللغو لتصبح شيئاً فشيئاً، فضاءات للمعرفة والفن والذوق والأدب في عاصمة المغرب.

عبد الإله بن عرفة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق