رسالة في التربية الصوفية للشيخ اليوسي
هذه الرسالة[1] عبارة عن جواب على كتاب بعثه بعض الطلبة. وهي تتناول الشيخ وسلوك المريد. والكرامات وغير ذلك من المواضيع التي تناولتها رسالة السائل.
فأجابه -رضي الله عنه- وبرد ضريحه، وأسكنه من الجنان فسيحه، بما نصه بعد البسلمة والصلاة على النبي ﷺ بقوله:
أما حكم الشيخ، فاعلم أن كل مكلف جهل مسألة في دينه، فلابد أن يطلبها ويسأل عنها، وكل من علَّمَهُ إياها فهو شيخه فيها مباشرة أو بواسطة وهذا واجب. وأما الشيخ المذكور في طريق التصوف فهذا لابد منه في حق المريد السالك إن لم يكتف عنه بأخ صالح. وقد اختلف المتأخرون في الاكتفاء عنه بالكتب، فقيل: نعم إن كان ذكيا، وإن كان غبيا فلابد له من شيخ وهو أكمل على كل حال، فقيل يختلف ذلك باختلاف المجاهدات؛ ففي مجاهدة التقوى لا يجب، ولكن وجوده أحسن، وفي مجاهدة الاستقامة كذلك، وهو فيها أوكد، وفي مجاهدة الكشف؛ أعني طريق تجريد النفس عن رذائلها ورعوناتها لتتمكن فيها الحقيقة، واجب، اللهم إلا أن يغني الله تعالى عنه بالجذب، والتراخي (في طلب الشيخ) لا يذكر في الدين، والتوسط عند الضرورة لا غنى عنه.
وأما الزيارة فليست من ذاتها واجبة، وإنما المراد ملاقاة الشيخ ومشاهته، للاستفادة منه، وكان من حق المريد إذا صحب شيخا ألا يفارقه طرفة عين، لأنه يستفيد من قوله وفعله، ويستمد من مشاهدته، فلا ينبغي له أن يفارقه لو أمكنه ليلا ونهارا، حتى يكمل ويأذن له في الفراق. كما أن الرضيع لا يفارق أمه حتى ينفطم، ولكن ضرورات المعاش تلجئ المريد إلى الفراق، فمتى أمكنه الاجتماع فلا يفلته طلباً للمعاش الروحاني الذي يبقى له، ولا يعد ذلك بمنزلة فاضل من المسلمين، أوأخ، أو قبر، مما يقول: هل زيارته واجبة أو مستحبة كما قررنا لكم، فافهموه.
نعم لو كمل وانفصل عن شيخه له، ولم يبق له إلا التبرك والمكافاة وقضاء الحقوق، كانت الزيارة إذ ذاك متأكدة لذلك، وتختلف باختلاف الناس قوة وضعفا، قربا وبعدا، وبعد الموت إن قام في نفسه بيان أنه باق على التربي والاستمداد منه، كحال الحياة فهو كالأول وإلا فكالثاني.
وأما صحبة المريد شيخا آخر بعد موت الأول، لتكميل ما بقي عليه فهو على أصل الجواز، كما يتخذ للرضيع ضئر إن ماتت أمه، ولكن من المشايخ (من لا يقبل) ذلك، حماية (لقلب) المريد أن يتزلزل أو يضعف، فمن علم من شيخه ذلك فليمسك، وحينئذ إن كان شيخه متصرفا بعد الموت أو ناب عنه قطب الوقت فلا بأس، وإلا فيرجى له ببركة الصدق والوفاء بالعهد، وحسن الأدب، أن يجعل الله له من أمره فرجا والله بكل شيء محيط.
وأما الورد هل له وقت معلوم إلى آخر المسألة. فذلك أمر موكول إلى الشيخ الذي يعطيه وعلى المريد تقليده، وأما التحدث بالورد إذا كان سرا، وهو أن يكون في طريق الأسماء، أو في طريق الذكر، فلا ينبغي مخافة أن يسمعه من لا يريده فيكون ذلك ابتذال له.
وأما الاجتماع على ذكر واحد فليس من السنة، ولكن إن جرى العمل، ظهر بشيء من ذلك من غير أن يقع معه منكر، ولا تغيير سنة متقررة فيغتفر، إبقاء روائح الدين ما أمكن، وأما تحرك المريد عند السماع فلا يكون على اختياره حتى ينظر (أيقوم به أم لا). بل يجب عليه أن يجلس متأدبا مع الحق مجاهدا قلبه في الحضور. فإن نزل عليه وارد بغير اختياره بقي حكمه حتى يرتفع، والمعصوم من عصمه الله، وفي هذا كلام لا يسعه المحل.
وأما نداء الشيخ عند الشدة فلا بأس به، وليتوسل بجاهه إلى الله تعالى، وكيف ما أمكنه التعبير فلا بأس (به) وليحافظ على الأدب.
وأما النظر إلى وجه الشيخ فحسن، ولكن كرهوا الإكثار منه مخافة زوال الحياء ...
وأما الشفاعة فلا تنضبط بل هي فضل من الله تعالى، فجائز أن يُمنحها وحده، أو له ولغيره، بخصوص أو عموم.
وأما السبحة فهي عمدة الفقير وآلته وشغله، فلا ينبغي له أن يفارقها، وأما إخفاؤها وإظهارها، فعلى حسب نيته، فإن خشي رياء فالإخفاء أولى، وإلا فإن قصد تنبيه غافل أو اقتداء مقتد به، فالإظهار أولى، وإلا فسواء الإخفاء والإظهار، ولا بأس أن يظهرها قصد الإظهار الذي دفعا للضرر، كالخوف في الطريق، ولا يجوز ذلك لاستجلاب دنيا.
وأما احضار المعنى عند الهيللة فذلك هو المراد، وهو الأدب الكامل إن أمكنه، فإن تعذر فلا يقطع الذكر بل يشتغل، فإن الغفلة في الذكر خير من الغفلة عنه، وأما إفشاء الأوراد..فلا ينبغي.
وأما الإخوان فأوصيكم أولا بالاجتماع على طاعة الله تعالى والتعاون على البر والتقوى، وأن لا تفوتهم مكتوبة في الجامع الأعظم إلا لعذر مانع. ثم بعد أداء المكتوبة فيجتمعون في أي مكان يجدون في قلوبهم، ولا يرون فيه مانعا شرعيا ولا طبعيا، ومن رأوا فيه نتيجة علمية أو حكمة فليجتمعوا عليه وتعيينه متعذر إذا لم يظهر.
وأما الأذكار فوردهم جميعا تلاوة القرآن، والصلاة على النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام فيه الكفاية، والكتب كلها صالحة بحسب قوة الفقراء، فالمبتدؤون تصلح لهم في عقائدهم «بداية الهداية» الإمام الغزالي. وفي تصرفاتهم في الظاهر كتاب «المدخل» لابن الحاج، وفي الوعظ كتاب ابن الجوزي [2]، وبعد ذلك كما قال شيخ المشايخ، أبو العباس المرسي، كتاب «القوت» يورثك النور، وكتاب «الإحياء» يورثك العلم، وكتاب ابن عطاء الله مع شرح الشيخ ابن عباد عليه مشهود النفع، ولكن لا يكون في الابتداء.
وأما الأيام فبحسب التيسير، ويوم الجمعة يوم مبارك.
هوامـش
[1] رسالة في التربية الصوفية: من كتاب رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة: فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة –الدار البيضاء- 408/2.
[2] كتاب المدهش في المواعظ.