وحدة الإحياءقراءة في كتاب

رحلة طيور القلب لدائرة ملك القاف

تتناول هذه المساهمة الجمالية التعريف بصاحب كتاب منطق الطير فريد الدين العطار، ثم تقدم الكتاب، وأخيرا يجمل الباحث الطلب في استنتاجات رحلة الطيور إلى جبل قاف المحيط بالأرض قصد ملاقاة السيمرغ أو العنقاء من أجل اتخاذه ملكا أو إلها.

ولد فريد الدين العطار ما بين عام 545 و550 هجرية. عرف بالعطار لأنه كان يعمل بالعطارة والطب. وقد ورث هذه المهنة عن أبيه الذي خلف له ثروة طائلة في نيسابور.

دخوله في طريق الصوفية

يقول عبد الرحمن جامي في نفحات الأنس “ذات يوم كان العطار في دكان عطارته فجاءه هناك فقير، وقال له عدة مرات: أعطني شيئا لله، فلم يأبه بالفقير. فقال الفقير: أيها السيد كيف تموت؟ فقال العطار: كما ستموت أنت. فقال الفقير: أيمكنك أن تموت مثلي؟ فقال العطار: نعم. فوضع الفقير قدحه تحت رأسه وقال: الله! وأسلم الروح. فتغير حال العطار وتخلص من متجره توا، وجاء إلى هذا الطريق”.

يظهر من هذه الحكاية أن تحول العطار إلى طريق الصوفية كان فجائيا، والحق غير ذلك مما يدعونا إلى الشك في هذه الرواية. فقد كان العطار منذ طفولته مولعا بمحبة الصوفية. يقول في مقدمة كتابه تذكرة الأولياء “وباعث آخر لتأليف الكتاب هو أنني بلا سبب كنت أشعر منذ الطفولة بمحبة زائدة تجاه هذه الطائفة تموج في قلبي، كما كانت أقوالهم تسعدني في كل آونة. كما أنه يذكر بأنه ألف كتابيه مصيبة نامه (حسرة العالم) وإلهي نامه (الأسرار المشهودة) في دكانه، يقول “وقد بدأتهما في الصيدلية وسرعان ما فرغت من كليهما”. فلقد كان صوفيا قبل أن يهجر دكانه.

شيوخه

يذكر جامي في نفحات الأنس أن فريد الدين العطار كان أويسيا، أي أنه لم يكن له شيخ مرب حي سوى روحانية النبي عليه السلام أو شيخ معين. ويظهر أن هذا الشيخ كان هو أبو سعيد ابن أبي الخير المتوفى عام 440ﻫ. كما تأثّر كثيرا بالإمام أبي حامد الغزالي حتى لقد اقتبس منه رسالة الطير في منطق الطير. وقد درّس الغزالي مدة في بلد العطار نيسابور، وترك هناك تأثيرا واضحا.

ثقافته

كان فريد الدين العطار عالما بالطب، وكان يزوره بصيدليته يوميا حوالي500 شخص ليجس نبضهم. وكان عالما بالفقه، حافظا للقرآن والحديث والتاريخ، حيث كتب عن أخبار الملوك والسلاطين أمثال محمود الغزنوي وسنجر وخوارزمشاه والإسكندر. كان العطار مناهضا للفلسفة متابعا في ذلك الغزالي. والسبب في ذمه للفلسفة هو أن أكثر المشتغلين بها في ذلك الوقت كانوا قد جمدوا على آراء الفارابي وابن سينا وأترابهم من اليونان. أما مذهبه الفقهي، فلقد كان العطار سنيا شافعيا.
توفي فريد الدين العطار النيسابوري في بلده نيسابور ودفن بها عام 627ﻫ على الأرجح.

منظومة منطق الطير

ألف العطار كتبا كثيرة أوصلها بعضهم إلى 114، وحدّدها الأستاذ سعيد نفيسي في 66 كتابا منسوبا إليه. ومع ذلك، فعدد كتبه الصحيحة النسب التي وصلتنا تسعة فقط. وجميع هذه الكتب شعرية عدا كتاب تذكرة الأولياء. وأعظم مؤلفاته كتاب منطق الطير الذي استوحى عنوانه من قوله تعالى: ﴿وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين﴾ (النمل: 16).

جميع الطيور التي تحدث عنها العطار حقيقية ما عدا ملك الطيور الذي رمز له باسم السيمرغ الذي هو طائر وهمي لا وجود له في الحس. وأصل تسمية هذا الطائر الخرافي في الأوفستا “سين مورغ” أو “مورو” في البهلوية. وقد ذكر هذا الطائر في الأوفستا وفي البهلوية مرتبطا بشجرة الحياة التي تنمو في ماء بحر فاركاش. وأن عش هذا الطائر على شجرة طيبة (طوبى)، وهي تعطي بذورا كثيرة وأغصانها تنثر بذورا تحيل الأرض خصبة إذا ما وقعت عليها”. وعليه فهو طائر عرف عند الفرس قبل الإسلام. أما عادة إنطاق الطير فقديمة. ففي القرآن نجد الهدهد يكلم سليمان عليه السلام، كما أن كتاب كليلة ودمنة يصور لنا مجموعة من الطيور التي تتكلم. والعطار حين إنطاقه للطيور كان يتكلم من داخل الثقافة الإسلامية مستندا إلى قصة سليمان وكذا إلى قوله تعالى في سورة النور: ﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والاَرض والطير صافات، كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون﴾ الآية: 40.
البحر الشعري الذي اختاره العطار في صوغ منظومته هو بحر الرمل لما يتيحه من مرونة وسهولة.
أما عدد الأبيات فيبلغ حوالي 4650 بيتا. وقد أنهى العطار كتابه عام 583.

بنية الكتاب

يبدأ الكتاب بمقدمة يفتتحها بالمناجاة، ثم ينتقل العطار إلى مدح النبي، عليه الصلاة والسلام، ثم يمدح الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. بعدها يذكر أمورا في ذم التعصب بين السنة والشيعة. ويسوق حوارا بين عمر وأويس القرني، ثم يذكر ما حدث بين علي بن أبي طالب وقاتله. وأخيرا يختم الحديث عن الشفاعة المحمدية. وهنا تنتهي المقدمة.

بعد ذلك يبدأ في سرد قصة الطير ويقسمها إلى خمس وأربعين مقالة. الأولى في جمع الطيور للبحث عن إله واحد يتوجهون إليه بالعبادة، والأخيرة في طريق الطير صوب السيمرغ ومثولها بين يديه. في المقالة الثانية يركز العطار على حديث الهدهد مع الطير في طلب السيمرغ. وفي المقالة الثامنة والثلاثين يعرض العطار للأودية السبعة التي يجب أن يقطعها الطيور وهي: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التوحيد، وادي الحيرة، وادي الفقر والفناء.

فالكتاب ينقسم إلى مقدمة وموضوع وخاتمة. وخلال هذه الأقسام الثلاثة كان العطار يورد حكايات وقصصا بلغت مائة وإحدى وثمانين.

قصة منطق الطير من القصص الشعبية المعروفة والمألوفة في الثقافة الفارسية. وقد عرض لها ابن سينا بكيفية فلسفية في رسالة الطير حيث نجد الشيخ الرئيس يطير مع الطيور بخلاف العطار. والغاية عند ابن سينا من رحلة الطير هو أن يخلصهم الملك من الشّباك. أما عند العطار فالغرض هو الفناء في الله.

وهذه الاختلافات تجعلنا نؤكد على عدم تأثر العطار بابن سينا في منطق الطير، فتوجههما مختلف تماما، زيادة على مقت العطار للفلاسفة حيث يقول في كتابه منطق الطير “وكاف الكفر هنا بحق المعرفة أفضل كثيرا من فاء الفلسفة”. والتشابه بين الرسالتين صوري فقط.

قد يكون العطار تأثر بالشاعر الصوفي  سنائي الذي عاش قبله، خاصة من خلال مثنويته “سير العباد إلى المعاد” وكان يجله كثيرا، لكن سنائي كان حاضرا في سير العباد كما حدث مع ابن سينا في رسالة الطير. أما العطار فقد توارى خلف الطيور التي هي أرواح السالكين. والفرق واضح بينهما، فالصفات البشرية عند سنائي مذكورة بأسمائها كالكبر والطمع والحقد والبخل. أما عند العطار فمرموز لها بالطيور. كما أن الدليل عنده هو الهدهد، أما لدى سنائي فهو يجعله من البشر. ثم إن سير العباد هي رحلة ثنائية، وهي جماعية في منطق الطير. وأخيرا فإن سنائي يذكر في كتابه الطير والحيوان والبشر، على عكس العطار الذي لا يخص بالذكر إلا الطيور.

لم يبق أمامنا إلا رسالة الطير للإمام أبي حامد الغزالي. وواضح أن التأثير واضح لدى العطار، حيث نجد أبا حامد يتكلم عن ملك الطيور وهو العنقاء؛ أي السيمرغ. ثم يذكر اجتماع الطيور للبحث عن ملك والتصميم على الوصول إليه رغم مخاطر الطريق وهلاك الكثير منهم في الرحلة ووصول القلة إلى الحضرة. إلا أن العطار قد أضاف الكثير مما أخذه عن الغزالي، فلم يكن مجرد ناقل، بل كان مبدعا فذا. ورسالة الغزالي لا تتعدى وريقات محدودة بالقياس إلى منطق الطير التي هي كتاب ضخم حيث توسع في ذكر الطيور بأسمائها وجعل لها هاديا هو الهدهد. وذكر المخاطر التي تعرضت لها الطيور في السير، كما ذكر المتقاعسين عن السير والقاعدين. ونهاية الغزالي في رسالة الطير هي المثول أمام الحضرة. أما النهاية عند العطار في منطق الطير فهي الفناء في الحضرة. وقد حدد العطار عدد الطيور التي حظيت بالقبول في ثلاثين (سي) مورغ (طيور)، واستخدم هذا الجناس البديع بين سيمرغ المتصلة وهي اسم الإله بالفارسية؛ وسي مورغ المنفصلة وهي تشير إلى ثلاثين طيرا.

تبدأ منظومة منطق الطير باجتماع طيور العالم للبحث عن طائر تتخذه ملكا. فالطلب والبحث والإرادة جاء منها، فهي مريدة. ثم يتقدم الهدهد ويعتلي المنبر ويوضح لهم السير والسلوك للبحث عن هذا الملك ومكانه. ثم يتم إجراء القرعة لاختيار المرشد والدليل فتقع على الهدهد فتتم مبايعته على الطاعة ويلتزم هو بخدمتهم وإيصالهم إلى السيمرغ. فهم المريدون وهو الشيخ والقصد الملك العلام.

مراحل الطريق

يقسم العطار السير في الطريق إلى سبع مراحل أولها:
1. وادي الطلب؛ هو واد مترع بالتعب والنصب، وفيه الجد والجهد، وهو طهارة وتخلية. وعلى المريد السالك أن يجد في الطلب ولا ينكص على عقبيه وإلا فهو مرتد. والصبر لازم من لوازم الطلب.
2. وادي العشق؛ هو أيضا تخلية مطلقة؛ لأن السالك يتخلى عن كل ما يملك ويتبرأ من كل حول وقوة. فالعاشق مفلس في هذا الوادي. ومهره وصداقه هو روحه التي بين جنبيه.
3. وادي المعرفة؛ هذا الوادي ثمرة من ثمار الوادي السابق حيث تبدأ الأسرار في الظهور، إلا أن عليه أن لا يقنع منها باللوائح واللوامع بل يطلب المزيد دائما. وليس لهذا الوادي نهاية. والسالك قائم ليله ونهاره لتحصيل المعارف في هذا الوادي.
4. وادي الاستغناء؛ هذا الوادي تخلية أيضا، فكل ما في الدنيا لا قيمة له وأتفه من أن يضيع الإنسان فيه عمره. ويجب على السالك أن يستغني عن كل شيء حتى عن قلبه وروحه.
5. وادي التوحيد؛ في هذا الوادي يغرق السالك في الوحدة حيث تؤول الكثرة إلى القلة، وهذه إلى الوحدة. فكل شيء هو كل شيء. وهنا يفنى السالك عن نفسه وعن الزمان والمكان، وتتحد الصفة بالموصوف.
6. وادي الحيرة؛ بعد جوازه لوادي التوحيد وإثماره لديه نتائج التماهي مع كل شيء يحصل للسالك الإضطراب والقلق والحيرة، فلا يفرق بين نفسه وبين ربه فتنهال عليه المصائب في كل لحظة، ولا يدري أهو موجود أم غير موجود. فلا معرفة له بكنهه. والعشق مازال يدفعه إلا أنه يجهل معشوقه، بل قد يصل إلى حافة الجذب فيستوي لديه الكفر والإيمان.
7. وادي الفقر والفناء؛ نهاية السالك هي في هذا الوادي حيث يفنى عن ذاته ويفنى في ربه، وله مرتبة أولى وهي الفناء عن ذاته وعن كل شيء؛ ثم هناك مرتبة ثانية وهي الفناء عن الفناء وهو البقاء بعد الفناء. فلا إرادة للسالك ولا شعور بالذات ولا وجود للأنا. فليس في الوجود سوى الله، ولا مشهود سوى الله، بل ليس هناك سوى، يقول الششتري:

طهر العين بالمدامع سكبا *** من شهود السوى، تزل كل عله

والطيور حين وصلت إلى السيمرغ أو العنقاء في قمة جبل قاف، وهي في غاية الفناء والمحو، جاءها حاجب العزة “فرأى أمامه ثلاثين طائرا غاية في العجز، وقد أصبحت مجرد ريش وأجنحة بلا أرواح”، ومعناه أنها تلطفت وتجوهرت وزالت عنها كثافتها الحاجبة لها عن الوصول.

ثم “فنت أرواح الطيور فناء محضا… وانمحى من صدورهم كل ما صنعوه وما لم يصنعوه، وأضاءت من جباههم شمس القربة، فأضاءت أرواح الجميع من هذا الشعاع، وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائرا طلعة السيمرغ في مواجهتهم، وعندما نظر الثلاثون طائرا على عجل رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائرا. فوقعوا جميعا في الحيرة والاضطراب، ولم يعرفوا هذا من ذاك، حيث رأوا أنفسهم السيمرغ بالتمام… فإذا نظروا إلى كلا الطرفين، كان كل منهما السيمرغ بلا زيادة ولا نقصان… فهذا هو ذاك، وذاك هو هذا… وأخيرا غرقوا جميعا في الحيرة، وانخرطوا في التفكير بلا عقل ولا بصيرة… (ف) سألوا صاحب الحضرة بلا حروف سؤالا، حيث طلبوا كشف هذا السر القوي، وطلبوا معرفة الإنية والأنتية.
جاءهم الخطاب من الحضرة قائلا بلا لفظ، إن صاحب الحضرة مرآة ساطعة كالشمس، فكل من يقبل عليه يرى نفسه فيه” (ص:421).

استنتاجات

بعد هذا التقديم لكتاب منطق الطير للعطار أحد شعراء الفرس الثلاثة الكبار إلى جانب سنائي وجلال الدين الرومي، ماذا نفهم من هذا الكتاب؟
إلى ماذا ترمز الطيور، ومن هو الهدهد ومن هي العنقاء أو السيمرغ، وأين يوجد جبل قاف، وما معنى الرحلة إلى السيمرغ على جبل قاف؟ أسئلة كثيرة، سنحاول أن نضيء بعضا من جوانبها لأول مرة.

إن كتاب منطق الطير يخبر عن سلوك الأرواح المرموز لها بالطيور في طريق المحبة والمعرفة للوصول إلى الحقيقة. إن الدوائر متعددة ولكنها تنحل إلى خمس يسميها البعض بالحضرات. ولفهم ذلك لابد أن نقول: إن للوجود من حيث هو مرتبتين: الأولى مرتبة بطون؛ والثانية مرتبة ظهور. والأولى تنقسم كذلك إلى مرتبتين: الأولى منهما مرتبة الذات المحض والهوية الصرفة، وهذه مرتبة اعتبارية فقط، ولا تتعقل الذات فيها إلا بتجردها عن جميع القيود, حتى عن قيد الإطلاق. وتسمى هذه المرتبة بالهو أو الله في أحد إطلاقاته الثلاث. والمرتبة الثانية من مراتب البطون هي مرتبة الأحدية المطلقة، وهي مرتبة اعتبارية أيضا تتجرد فيها الذات عن كل القيود والنسب إلا عن قيد الأحدية. وهي نفسها مرتبة الهو إلا أن حكمها نزل عن السذاجة المحضة بنسبة الأحدية. وتسمى الذات في هذا الاعتبار بالأحد الذي هو اسم للموجود الذي ليس معه غير.

أما المرتبة الثانية من مراتب الوجود التي هي مرتبة ظهور، فإن كلياتها تنحصر في خمس وتسمى بالحضرات الخمس أو المجالي الكلية أو المطالع أو المنصات أو غير ذلك من الأسماء. وأول تلك الحضرات الكلية حضرة الغيب المطلق وفي مقابلتها حضرة الشهادة المطلقة. فعالم الغيب المطلق هو عالم الأعيان الثابتة، وعالم الشهادة المطلقة هو عالم الملك. أما الحضرة الثالثة فهي حضرة الغيب الإضافي، وينقسم إلى قسمين، فمنه ما يكون أقرب إلى عالم الغيب المطلق، وهو ما يسمى بعالم الجبروت أو الملكوت، ومنه ما يكون أقرب إلى عالم الشهادة المطلقة وعالمه عالم المثال. أما الحضرة الخامسة والأخيرة فهي الجامعة لكل الحضرات السابقة، وعالمها العالم الإنساني الجامع لجميع العوالم. فعالم الملك هو مظهر عالم الملكوت أي العالم المثالي المطلق الذي هو مظهر الجبروت أي عالم المجردات، وهو مظهر الأعيان الثابتة، وهو مظهر الأسماء الإلهية والحضرة الواحدية وهي مظهر الأحدية، وهي أول نسبة للذات.

بعد هذه السباحة في رداء الكبرياء وإزار العظمة، يحق لنا أن نتساءل عن موقع منطق الطير في هذا البناء، وفي أي دائرة يمكننا أن نتكلم عنه؟
إن الدوائر كثيرة وأول تلك الدوائر في عالم الملك أي في الشهادة لذلك كان جبل قاف محيطا بالأرض وكانت الحية تطوقه، إشارة إلى أن الحياة تبتدئ من هذا الجبل ثم يعرج الإنسان حتى يصير روحا محضا بين نعم ولا، أي بين الوجود والعدم، وبين الأمر والنهي وبين الحياة والموت وبين الجنة والنار على سور الأعراف والمعرفة. إن دائرة الملك التي يتحدث عنها كتاب منطق الطير هي في هذه الدائرة الأولى على جبل قاف وعالمها عالم الملك ومنها يصعد السالك للملكوت وما وراءه من بحار وسماوات. ولكن عليه أن يقطع عدة مراحل وعدة أودية. فأول تلك الأودية كما ورد هو واد الطلب، يقول الحراق في تائيته:

أتطلب ليلى وهي فيك تجلت *** وتحسبها غيرا وغيرك ليست
فذا بله في ملة الحب ظاهر *** فكن فطنا فالغير عين القطيعة

الطلب جهد وتعب، وهو دافع محرك من لوازم البدايات. ولا يكون الطلب إلا إذا كانت المحبة وهي ميل عن الجادة لذلك قومت بالمعرفة التي هي ثمرتها. فأنت لا يمكنك أن تحب إلا إذا عرفت، وإذا عرفت أحببت. فهل المعرفة الأولى التي أنتجت لك المحبة الأولى هي عين المعرفة الثانية التي أنتجت محبة ومعرفة ثانية وثالثة وهكذا؟ بدون شك لا. لأن معرفة الطلب محدودة ولكنها أنتجت محبة مالت بك لكي تعرف محبوبك. فأثمرت هذه المحبة معرفة أعمق. وهكذا، فالسالك والواصل متقلب أبدا بين المحبة والمعرفة. والوديان السبعة تنحل إلى هذين الواديين في الأخير. ولكن المعرفة أعلى من المحبة لأن هذه الأخيرة تطلب المجانس ولست بمجانس لمحبوبك، فهو ربك ومعروفك وحسبك ذاك، لذا كانت هذه الطيور تجد في السير وقائدها هو هذا الهدهد الهادي. فهو المربي والموصل والمرشد. ولم ينل ذلك إلا بفضل استعداده ومعرفته. وحتى عندما اقترعوا لم تصب القرعة إلا ما كتب في اللوح. صار بهم الهدهد مربيا ومرشدا وناصحا يحيي قلوبهم فهو حية جبل قاف، يقطع بهم الفيافي والوديان والصحاري والقيعان حتى هلك الكثير منهم، ولم يبق معه حين أشرفوا على جبل قاف إلا ثلاثون طائرا. وهذا العدد يرمز للمعرفة التي جاءوا يطلبونها. إنهم جاءوا للبحث عن السيمرغ؛ أي الإله أو الملك كما قلنا. فعددهم ثلاثون وإذا أضفنا إليهم ملكهم العنقاء صار عددهم واحدا وثلاثين، وهو عدد كلمة إل التي هي الإله بالعربية، كما أنه عدد أداة التعريف “أل” التي تعرف الأسماء.

والقصد هو معرفة الإل؛ أي الإله. فما جاءوا يطلبون إلا ذواتهم ولكنهم حجبوا عنها. فلما عاينوا مرآة قلوبهم ظهر السيمرغ  فيها. والقلب هو محل المعرفة ولكنهم ذهلوا عن هذه الحقيقة بكثرة العلائق والصدأ، فلما جليت مرآة قلوبهم عاينوا محبوبهم ومعروفهم فيها ” ما وسعني قلبي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن”. والطيور ما هي في حقيقة الأمر إلا الإنسان ذاته؛ أي أن آدم لما بدأ في التلطف تنازعته طيوره المتعددة وغطت أسرابها قلبه الموحد عن معاينة طائر قلبه العنقاء فوق جبل قاف. قد يقول القائل، ومن أين لنا بإسقاط رحلة الطيور على الإنسان؟ لقد ذكرت لكم سابقا أن مقالات هذا الكتاب خمسا وأربعين. والسورة الوحيدة التي آياتها خمس وأربعون هي سورة قاف. كما أن عدد آدم خمس وأربعون. فهو قاف هذه الرحلة العرفانية. وجبل قاف ليس جبلا من تراب وصخر. وكونه محيطا بالأرض معناه أرض الإنسان والإحاطة لا تكون إلا للعلم والمعرفة ومحلها القلب. فمن لم يتحقق بألف التوحيد التي في قلب قاف لن يصل إلى ذلك الجبل، فيقول له حاجب العزة قف فلقد أسقطت ألفك من قاف. إننا لا يجب أن نفهم من قولهم أن جبل قاف محيط بالأرض بأن ذلك جغرافية بدائية ساذجة. فالجبل إذن هو القلب والأرض التي يحيط بها هي الإنسان أي آدم الكامل. وبعبارة هو رمز لجبل القلب في منزل القرب. هو جبل القلب، بل هو جبلة القلب المحمدي الذي جُبل على التوحيد. وسورة قاف هي سورة القرآن المجيد التي تتحدث عن الخلق الأول؛ أي آدم ﴿أفعيينا بالخلق الاَول، بل هم في لبس من خلق جديد﴾ الآية: 15. ولبس الخلق الجديد هو الصورة المحمدية المحتجبة في آدم. كما أن ق سورة هذا القلب المحمدي المنيب: ﴿من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب﴾ الآية: 33. وقوله: ﴿إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب اَو اَلقى السمع وهو شهيد﴾ الآية: 37.

فهو صاحب القلب المنيب دائم الشهود. ودليل آخر هو أن عدد الحكايات التي ساقها العطار في المقالات المذكورة واحد وثمانون ومائة، وهذا هو عدد كلمة “قاف”. وهذه الأعداد لم تكن اعتباطية بل كانت لها رمزيتها الكبرى في فهم هذه الرحلة. فالقلب هو الملك والإله على أمة الطيور ودائرة ملكه هي الأرض وسرير ملكه وعرشه على قمة جبل قاف. والأمة هي الجوارح كلها التي فارقت عنصريتها وتلطفت فصارت طيورا. هذه هي مملكة منطق الطير، مملكة لغة الأرواح. ودواوين الملك سبعة هي أعضاء التكليف في دائرة الشريعة، وهي وديان السير في دائرة الطريقة، وهي الأسماء السبعة الأمهات في دائرة الحقيقة. أما العنقاء أو السيمرغ فهو التماهي الأعظم، والهوية العارية عن كل شيء والسارية في كل شيء.

رحلة طيور القلب لدائرة ملك القاف

المراجع:

ـ فريد الدين العطار، منطق الطير، بيروت: دار الأندلس، لبنان 2002.
ـ عبد الإله بنعرفة، جبل قاف (رواية)، الدار البيضاء: دار النجاح الجديدة، المغرب 2002.

Science

د. عبد الإله بنعرفة

• نائب المدير العام للإيسيسكو.

• خريج جامعة السربون بباريس، فرنسا.

• دكتوراه في علم الدلالة من جامعة السربون، باريس.
• من مؤلفاته:
– نشأة المفاهيم (بالعربية والفرنسية).
– رواية جبل قاف.
– رواية بحر نون.
– رواية بلاد صاد (تحت الطبع).
• وله مجموعة من الأبحاث في قضايا الجمال والتصوف والسماع والموسيقى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق