مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

رأي في كتاب”الإبانة” للنقاش

جاء في كتاب”أهل السنة الأشاعرة” شهادة علماء الأمة وأدلتهم، قوله:
« كتاب الإبانة هو دليل ومعتمد من يقول بمرور الإمام الأشعري بثلاث مراحل في حياته، والذي لا ريب فيه أن الإمام قد سلك في هذا الكتاب وفي غيره من الرسائل التي نسبت له أسلوبا مختلفا في التأليف، فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور السلف في المتشابهات، نعني بذلك أنه قد أخذ بطريق التفويض، ففهم البعض من ذلك أن الإمام قد رجع عن طريق ابن كلاب الذي كان عليه إلى طريق السلف..»
ثم يضيف: «إن كتاب الإبانة الذي هو معتمد أصحاب هذه الدعوى، وهو الدليل عندهم على رجوع الإمام عن طريق ابن كلاب، نقول: إن هذا الكتاب بذاته ينقض دعوى رجوع الإمام عن هذا الطريق، لأنه مؤلف على طريقة ابن كلاب وعلى منهجه، فكيف يرجع عن طريق ابن كلاب ثم يؤلف آخر كتبه على طريقته؟
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان[1]:« وعلى طريقته-يعني ابن كلاب- مشى الأشعري في كتاب الإبانة»اهـ.
وهذا يزيدنا يقينا على يقين بأن الإمام ابن كلاب كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم، لأن الإبانة التي ألفها الإمام الأشعري في آخر حياته على منهج السلف هي مؤلفة على طريقة ابن كلاب، وهذا يقتضي قطعا أن السلف وطريق ابن كلاب هما في حقيقة الأمر طريق واحد، وهو ما كان عليه الإمام الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال.
أي أن الإمام لم يمرَّ  بثلاث مراحل في حياته، بل هما مرحلتان فقط، مرحلة الاعتزال ثم أعقبتها مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابن كلاب والمحاسبي والقلانسي والكرابيسي والبخاري ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم، وهي المرحلة التي ألف الإمام فيها كتاب الإبانة.
ويروى أن الإمام الأشعري عندما ألف الإبانة رفضها بعض حنابلة بغداد تعصبا ولم يقبلوها منه[2].. ولعل هذا يؤيد ما مرَّ من أن الإبانة مؤلفة على طريقة ابن كلاب الذي هجره بعض الحنابلة فيمن هجروه من الأئمة لأجل مسألة اللفظ وأخذهم بعلم الكلام للرد على المخالفين من المعتزلة وغيرهم.
وهذا الذي ذكرناه عن كتاب الإبانة، إنما أردنا به الإبانة التي صنفها الإمام، وليست الإبانة المتداولة والمطبوعة اليوم، وذلك لما حدث على هذا الكتاب من التحريف والنقص والزيادة.
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب”تبيين كذب المفتري”: «والنسخة المطبوعة في الهند من الإبانة نسخة مصحَّفة محرَّفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة، فيجب إعادة طبعها من أصل موثوق»اهـ[3].
وقال أيضا: «ومن العزيز جدّاً الظفر بأصل صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة، وطبع كتاب الإبانة لم يكن من أصل وثيق، وفي المقالات المنشورة باسمه وقفة)اهـ .
وهذا أيضا ما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي مؤيدا للعلامة الكوثري[4] قال: «وقد لاحظ الكوثري بحق أن النسخة المطبوعة في الهند تلاعبت بها الأيدي الأثيمة..)اهـ.
كما لاحظ ذلك غيرهم من الدارسين[5].
وللشيخ وهبي غاوجي حفظه الله رسالة في هذا الموضوع بعنوان”نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه إلى الإمام أبي الحسن” أتى فيها بأدلة موضوعية تدل على أن قسما كبيرا مما في الإبانة المتداولة اليوم بين الناس لا يصح نسبته للإمام الأشعري.
وقد طبع كتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين، وهي طبعة وإن كانت أحسن حالا من المطبوعة قبل، إلا أنها لم تخل من التحريف والنقص والزيادة أيضا، وهذا لعله يصحح ما ذهب إليه العلامة الكوثري..
وقد نقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتاب”تبيين كذب المفتري” فصلين من الإبانة، وعند مقارنة الإبانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية مع الفصلين المنقولين عند ابن عساكر يتبين بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب».
[ثم أورد بعض هذه المقابلات، وعلق عليها بقوله]: «فإذا ثبت – كما مرَّ معنا – تاريخيا أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على منهج السلف وأهل السنة، وإذا ثبت أيضا أن الإمام ابن كلاب كان من أئمة السلف وعلى نهج السنة، وإذا ثبت أيضا أن كتاب الإبانة الذي بنيت عليه هذه الدعوى من أساسها هو في حقيقة الأمر مؤلف على طريقة ابن كلاب التي هي ذاتها طريقة السلف، إذا ثبت ذلك ثبت بناء عليه أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل في حياته، وإنما هما مرحلتان: مرحلة الاعتزال في بداية حياته ثم مرحلة عودته ورجوعه إلى طريق السلف. و لا نعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليلا على ما ذهب إليه إلا الاعتماد على أسلوب الإبانة  وبعض الرسائل الأخرى والطريقة التي كتبت عليها، لأن الإمام قد سلك في الإبانة طريق التفويض، وهي طريقة جمهور السلف، وهي في حقيقتها لا تنافي بينها وبين طريق التأويل بشرطه، والأشاعرة يعتقدون كل ما في الإبانة-نعني الإبانة الصحيحة التي كتبها الإمام وليست الإبانة المحرفة- ويعقدون عليه خناصرهم، إذ كل من التفويض والتأويل حق لا اعتراض عليه، وكلا الطريقين مأثور عن الصحابة والسلف كما سيأتي بيانه، وكلا الطريقين  متفقان على التنزيه بعد إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وكلاهما متفقان على استبعاد الظاهر وما يعهده الخلق من عالمهم»..
ويقول في الختام:« ومهما عظم قدر القائل بهذه الدعوى فإنه لن يغير من شأن الحقيقة شيئا، لأن أي دعوى إنما هي تبع للبراهين والأدلة التي إما تثبتها فتكون حقيقة أو تنفيها فتكون خطأ ووهما يجب الرجوع عنه، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، والحق أحق وأثمن ما يطلبه المسلم. وإذ علمت هذا-وفقنا الله تعالى وإياك- فدع عنك من قال، إذ الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، وعليك بما قيل إن كان حقا، وإلا فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل».  

كتاب: “أهل السنة الأشاعرة”( شهادة علماء الأمة وأدلتهم)

جمع وإعداد: حمد السنان وفوزي العنجري- دار الضياء للنشر والتوزيع (د.ت)-ص:58-79

 

 

الهوامش:

[1] لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني- الناشر : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت-الطبعة الثالثة ، 1406 – 1986-تحقيق : دائرة المعرف النظامية – الهند- ج3/290-291
[2] انظر سير أعلام النبلاء-15/90 وطبقات الحنابلة-2/18 والوافي بالوفيات-12/146
[3-4] تبيين كذب المفتري-للكوثري-تحقيق: أحمد حجازي السقا-دار الجيل/بيروت-الطبعة الأولى/1995، وانظر مقدمته على كتاب إشارات المرام للبياضي، وتعليقه على السيف الصقيل-ص:155-196
[5] مذاهب الإسلاميين –عبد الرحمن بدوي –دار العلم للملايين/بيروت-الطبعة الأولى/1996-ص: 515/516

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. دعوى أن كتاب الإبانة قد حرف وأن الإمام أبا الحسن لم يمر بثلاث مراحل دعوى قديمة أكل منها الدهر وشرب، ولا يعقل أن يستمر من يسمى بالباحثين بتكرارها تعصبا لمذهبهم وفكرهم

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق