مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

دور المرأة في صناعة التميّز- سيدات بيت النبوة أنموذجا للدكتورة جميلة زيان.

 

مونية الطراز.

 

 

يقدّم هذا الكتاب الذي صدر سنة 2014 دراسة تأصيلية تطبيقية، أنجزتها الدكتورة جميلة زيان حول موضوع صناعة التميّز عند المرأة من منظور إسلامي، وقد اجتهدت مشكورة، في الكشف عن النصوص المفيدة في الموضوع، عن طريق السبر الجاد في مختلف مصنفات السيرة النبوية، وخاصة منها ذات الصلة المباشرة بسيَر “سيدات بيت النبوة”، وقدمت ثمرة اجتهادها في مباحث متنوعة شغلت 111 صفحة، تضمنت إضافات وتنقيحات زادت من قيمة عملها السابق في الطبعة الأولى. وقد تصدّرت الكتاب مقدمة مفيدة ذات عبارات مُشيدة، تفضّل بها الأديب الدكتور عبد الحق المريني، مؤرخ المملكة المغربية ومحافظ الخزانة الملكية.

فكرة الكتاب بدرت كما قالت صاحبته، من دافع الحاجة إلى التأكيد على أن صناعة التميّز إنما هي صناعة إسلامية أصيلة، وأنها اليوم –أكثر من أي وقت مضى- ضرورة لبعث عناصر التميز في عموم الأمة، ومدخل من مداخل التأسيس لمنهج سديد يروم التماس القراءة المثمرة لنصوص السنة النبوية، بغاية تجديد الفهم والتحفيز على الإنجاز الفذ والواعي.

  من هذا الباب حاولت الكاتبة النفاذ إلى مطلوب بحثها، فقد أكدت بعد هذا البيان، أن الصناعة التي اختصت بها المرأة خلقة ووظيفة هي المورد الحقيقي لتميّز الإنسان ككل، وهذه الحقيقة –كما قالت- هي التي حركتها لإنجاز هذا البحث، عساه يسهم في توجيه المرأة إلى تلك النماذج النسائية التي أفصحت عنها السنة النبوية، وعساه يرشدها لاستمداد عناصر القوة والتميز منها، حتى تتبوأ مواقع التمكين التي تستحقها في المجتمع الإسلامي.

في مدخل كتابها، تنبّهت الدكتورة زيان إلى ما قد يعترض القارئ من إشكال وإبهام قبل مطالعة بحثها، ولذلك خصّصت مدخلا إفهاميا للدراسة وَسَمَته ب“صناعة التميّز: تعريف وتأصيل” فعرّفت بكلمتي الضميمة الاصطلاحية، ثم أوضحت الفرق بين مقصود صناعة التميّز في المنظورين الغربي والإسلامي، على اعتبار أن المصطلح قد نما في المنظور الغربي في ظل البيئة التنافسية الرأسمالية العالمية، الحريصة على تحسين الخدمة والجودة وإنشاء الثروة، بيد أنه في المنظور الإسلامي ينطوي على أبعاد إصلاحية وتنموية وحضارية، يتكفّل البحث الجاد والدؤوب في نصوص الوحي وتراث السلف بإحالتها إلى عناصر دافعة للتميّز الفردي والجماعي في الأمة.

الكاتبة لم تفوِّت الإشارة إلى أن صناعة التميّز في المنظور الإسلامي صناعة ثقيلة في الميزان الشرعي، ببعديه الدنيوي والأخروي؛ وهذا –بحسبها- تحيل عليه إفادات القرآن الكريم والسنة النبوية، كما أن الممارسة التطبيقية لصناعة التميّز تجلت كذلك واقعا في الذات المحمدية على مستوى إحسان العلاقة مع الله، وعلى مستوى إدارة الذات وتنمية المهارات الشخصية، من قبيل الثقة بالنفس وتقدير الذات وقوة الاعتقاد في الفكرة وتحديد الهدف والالتزام والإصرار، وتحسين وتطوير القدرات الذهنية والمهارات التربوية، والمحافظة على النظافة والتناسق، والشعور الإنساني الفياض. وانعكست الممارسة التطبيقية لصناعة التميّز أيضا على مستوى ما سمّته “إدارة فريق العمل”[1]، فالرسول صلى الله عليه وسلم جسد ذلك في ما عبرت عنه بفن اختيار الرجال، وفعالية التفويض وتوزيع المهام، وبإتقان فن التحفيز والتشجيع، إلى جانب مظاهر أخرى تجلت على مستوى التواصل والاتصال مع الآخرين؛ فبهذه الأخلاق والمهارات المتميزة كان صلى الله عليه وسلم يمهّد الطريق أمام الناس للتفوّق والتميّز أفرادا وجماعات، ووفق هذا المنهج تربّت المرأة كما الرجل في “مصنع التميّز النبوي”؛ فبرزت إمكانات النساء ومهاراتهن، وصنعن بذلك التميّز الذي لُمس في أنفسهن وفي مجتمعهن.

بهذه التوضيحات اختارت الكاتبة التمهيد للمبحث الأول والذي جعلته تحت عنوان، “قضية التميز عند المرأة في ضوء السنة النبوية”، حيث عالجت تميّز الصنعة الربانية، من خلال التأكيد على الوحدة الإنسانية وكمال التقدير الإلهي للمرأة الإنسان، والذي يجعلها أهلا لامتلاك تلك الطبيعة الإيجابية القادرة على التميّز والإبداع. وبالمناسبة أشارت الكاتبة إلى أن التوجيهات النبوية الواردة في حق المرأة واضحة في الدلالة على أنها مورد متميّز لصناعة التميّز وصناعة أجيال التميّز وحسن أداء وظيفة الإعداد هاته، إلى جانب حمل الدين مع الرجال تماما كما تقتضيه الأمانة والتكليف، وفي هذا الصدد بيّنت كيف كانت المرأة في أول عهود الإسلام في طليعة المتميّزين؛ “تصنع التميّز في نفسها وفي حياتها ودعوتها، دون أن ينتقص أحد حقوقها أو يتهم الإسلام بالتمييز ضدها وتهميشها وشل فاعليتها.”[2]

أما في المبحث الثاني، فقد كانت الكاتبة أكثر دقة حين عمدت إلى استظهار الأدوار الطلائعية لنساء البيت النبوي، وذلك تحت عنوان “دور المرأة في صناعة التميّز في ضوء سيرة سيدات بيت النبوة” فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تربعن -كما قالت- على قمة التميز في محضن النبوة، وكن نماذج متفردات “اشتركن في الأهداف والآمال، وتميّزن بالقدرات والطاقات الهائلة، والمعارف والمهارات الفذة، واشتهرن بالمواقف والأحداث المشرفة والكرامات والأحوال المذهلة؛ الأمر الذي جعلهن أولى النساء بالمحاكاة.”[3] ولم تقتصر الكاتبة على هذه الأحكام المطلقة، بل سعت إلى إبراز وجوه التميّز فيما قامت به المرأة المسلمة النموذج في صناعة ثقافة التميّز وتفعيلها في بيئتها، عبر استعراض مقومات هذه الصناعة وأسسها في ضوء سيرتهن ومواقفهن، وذلك من خلال عدة مستويات:

المستوى الأول: مستوى البناء الفكري والنفسي والمعرفي الإيجابي، إذ ضمن هذا المستوى تندرج قوة الاعتقاد وحسن الصلة بالله، وقد مثّلت له الكاتبة بشواهد من سيرة السيدة خديجة رضي الله عنها، والتي تعد المثل الأعلى للنساء في التميز الإيماني والروحي. ويندرج ضمن هذا المستوى أيضا السرعة في اتخاذ القرار، ومثلت لذلك بقصة سيدتنا عائشة لما نزلت آية التخيير، وبقصة سيدة بني المصطلق جورية بنت الحارث التي قبلت عرض الرسول صلى الله عليه وسلم التزوج بها بلا تردد ودون مشاورة أهلها. وأدرجت الكاتبة أيضا ضمن مستوى البناء الفكري والنفسي والمعرفي الإيجابي قوة التقدير للذات، والذكاء الفذ، وسرعة الحفظ والفهم، والقدرة على الاجتهاد والاستنباط، والقدرة على النقد والتمحيص، والفضول العلمي ومهارة التقديم والعرض، وقدمت شواهد لذلك من سيرة عائشة رضي الله عنها وبعض مواقفها، حيث كانت ذات وعي عميق بأهمية تأهل المرأة لما ينتظر منها من أدوار على جميع المستويات.

المستوى الثاني: مستوى الالتزام الأخلاقي أو (التميّز السلوكي)، منه الطهر والعفاف الذي كان يشكل سمات سلوكية ذاتية تميّزت بها جميع نساء آل البيت، ومنه أيضا الزهد الذي جسّدته السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها خير تجسيد، والعطاء الذي ينتج عن قوة الاعتقاد وكثرة الزهد، كما قالت الكاتبة، وهذا اشتهرت به زينب بنت جحش وصفية رضي الله عنهن وأرضاهن، وهذا المستوى واسع لا يحصر، منه التسامح والصدق والأمانة، وما إلى ذلك من المنازل الأخلاقية التي كانت صفات لزمت نساء البيت النبوي.

المستوى الثالث: مستوى الرعاية الأسرية، ومثلت له الكاتبة بالوفاء، فخصّت بالذكر ما كان من وفاء زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عانت مشكل التباعد الفكري والعقدي عن زوجها، فلم يثنها ذلك عن الوفاء. ويندرج ضمن مستوى الرعاية الأسرية بناء الثقة ونشر التفاؤل، وهذا كان شأن السيدة خديجة رضي الله عنها مع زوجها النبي عليه الصلاة والسلام في بداية نزول الوحي. ويندرج ضمن هذا المستوى أيضا المرونة، ومما يعكسه تنازل سودة رضي الله عنها عن ليلتها لعائشة، والتعبير عن المشاعر، ومثاله حب عائشة للنبي وغيرتها الشديدة عليه، وحسن التعهد، الذي قدّمت به أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ذلك النموذج الصالح للاحتذاء، والكفيل بالارتقاء الزوجي من الحياة العادية إلى الحياة المفحمة بالحيوية، والأحاسيس والطاقة والانطلاق.

المستوى الرابع: مستوى المشاركة في إنجاح الدعوة وبناء المجتمع، وتحت هذا المستوى أدرجت الكاتبة الالتزام القوي والذي تجلى في مواقف أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، والتي كانت صاحبة فضل وسهم في إنجاح الدعوة وضمان استمرارها، وهذا المستوى من التميّز ظهر عموما في الفعالية الفريدة لمسلمات الصف الأول. وقد أكّدت الكاتبة أن هذه الفعالية لم تكن مجرد خصال، ولا كانت مواقف عارضة، بل كانت تبنى على جهد ووعي يستتبع بإتقان ومهارات، وذلك ما تميّزت به المرأة عموما في العهد النبوي منذ التلقي الأول، حيث تشبعت النساء في تلقيهن للآيات بتحفيزات مهمة على القراءة والعمل والكسب، فكان ذلك دافعهن إلى التعلم والعمل بإصرار واستمرار، مما كان له الأثر على المهارات المتنوعة التي اكتسبنها في مختلف الميادين، فآتت أكلها في الأسرة والمجتمع. وبهذا الصدد اختصت الكاتبة أم المؤمنين زينب بنت جحش بالحديث عن أدوارها في التنمية الاجتماعية. ومما أدرجته الكاتبة ضمن مستوى المشاركة في إنجاح الدعوة وبناء المجتمع ما عبّرت عنه بضرورة المتابعة وتقويم الأداء، والذي هو شرط لازم للنجاح، وكان –كما قلت- منهجا وسكة سارت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لحمل الميراث النبوي وما يستدعيه الميراث من مهام تبعية في المسايرة والتقويم. ويندرج تحت هذا الباب أيضا تقديم المشورة في أوقات الأزمات كما فعلت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في معاهدة الحديبية.

وفي خاتمة الكتاب قدّمت الكاتبة زبدة من الفوائد العلمية المتحصّلة من سيرة سيدات بيت النبوة والتي منها:

– أن صناعة التميّز في المنظور الإسلامي أوسع مفهوما وأغنى مضمونا وأعلى جودة وأكثر تميّزا وسطوعا مما سواه.

– أن التميّز، كما جسدته التجربة النبوية، هو حصيلة عوامل أساسية، منها القدرات العقلية والسمات الشخصية والمهارات الاتصالية، والارتباط بذات أعلى وهدف أسمى، وتوفر المناخ الصحي والبيئة الملائمة.

– أن المرأة في المنظور الإسلامي مثل الرجل، لها كيان متميّز، صُمم على أساس الاختصاص بوظيفة متميّزة، هي إنتاج الإنسان وتنميته ورعايته.

– أن من أهم مميزات المرأة الصالحة في التجربة النسائية على العهد النبوي، المهارات الإنسانية والخبرات العلمية والسمات الإدارية والقيادية، التي صنعت تميّزها على مستوى التفكير والتدبير والتعبير.

ومما خلصت إليه الكاتبة في هذا البحث المتميّز حول سيدات بيت النبوة وأدوارن المتميزة ومواقفهن المشرّفة أنهن إنما كن في طليعة المتميّزين، لِما امتلكن –على تفاوت بينهن- من مؤهلات التميّز ومقومات القيادة.

– رسم البحث ضوابط منهجية في التعامل مع نصوص السنة والسيرة، تنبني أساسا على ربط الأفكار الوافدة عن صناعة التميّز بملامح الريادة والسبق والتفرد التي تألقت بها شخصيات النماذج النسائية في البيت النبوي، وما يتطلبه ذلك الربط من تحليل واستنباط وتوظيف.

وقد ختمت الدكتورة جميلة زيان كتابها بتقديم مجموعة من التوصيات الداعية إلى تحقيق الامتياز والتميّز عبر التحقق بالدين والتخلق بخلقه العظيم، ومما جاء في هذه التوصيات:

– تنمية التصور الذاتي الإيجابي للمرأة؛ كي تنمو مشاعر الافتخار والثقة في قدرتها على تربية الأجيال المسلمة، وإعدادها بما يتناسب وحجم التحديات المفروضة عليها في سباق التميّز.

– دعوة المرأة، عبر منابر التوعية والتوجيه، إلى مراجعة أهدافها واهتماماتها وأدوارها على ضوء الهدف الذي خلقت لأجله، والاستناد في مرجعيتها وقدوتها إلى ثقافة النبوة وسلوك النموذج النسائي الرسالي.

– تحفيز المرأة على التفوق في فقه الدين، بوصفه أساس كل تميّز؛ حتى تصبح في مقام القدوة وتفرض ذاتها للتأثير على غيرها من النساء، وتوجه قدراتها لبناء ثقافة دينية صحيحة.

-الاهتمام بتحويل الأم إلى أم متميّزة، مرتفعة عن اهتمامات نساء هذا العصر، مدركة لدوها الخطير في صناعة التميّز الأسري، بدءا من إيضاح معايير التميّز والنجاح للأبناء مرورا بإتقان إدارة البيت وتدبير شؤونه، ووصولا إلى توظيف مهارات التعامل مع الزواج وفهم النفسيات والحوار الدافئ وتجاوز المشكلات.

هكذا اختتمت الباحثة الدكتورة جميلة زيان كتابها صغير الحجم عظيم الفائدة، بعد أن طرقت فيه موضوعا غائر العمق عزيز المادة، وهي وإن لم تحط بكافة جوانب هذا الموضوع الكبير، إلا أنها لم تدّع أنها سعت إلى ذلك، ولكن الحقيقة أنها وضعت ما يمكن أن يكون حجرة أساس لبناء علمي فريد في طرحه، كما قدّمت ترسانة قواعد للبحث المتعمق في الموضوع لمن يرغب فيه، لغاية استخراج قواعد عملية تفيد المهتمين بتنمية القدرات الإنسانية والموارد البشرية، خصوصا في شقه المتعلق بالمرأة، في زمن كاد الحديث عن تنمية المرأة أن يوردها موارد الهلاك، وينزع عنها الخصوصية والانتماء.

وينطوي الكتاب على قضايا مختلفة أُجبرت الكاتبة على الخوض فيها، وكانت تحتاج إلى مناقشة وتمحيص، من قبيل رؤيتها لمسألة المساواة والتفاضل بين الذكر والأنثى، وقد طُرحت هذه القضايا في مواضع لم تؤثر على جوهر البحث وقضيته الأساسية، حيث بدا الكتاب في عمومه متميّزا في إبراز صناعة التميّز عند سيدات بيت النبوة.

 


[1]  دور المرأة في صناعة التميّز سيدات بيت النبوة أنموذجا، جميلة زيان، ص 42.

[2]  المرجع نفسه، ص 62.

[3]  المرجع نفسه، ص 63

 

 

نشر بتاريخ: 09 / 03 / 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق