وحدة الإحياءدراسات عامة

دور المحتسب في حماية المستهلك ومراقبة الأسعار

دور المحتسب في حماية المستهلك ومراقبة الأسعار

إدريس أجويلل

(العدد 21)

 حماية المستهلك ومراقبة الأسعار من المواضيع التي بدأت تعرف تطورا إعلاميا في السنوات الأخيرة، فقد أصبحنا نسمع ونقرأ عن جمعيات انتصبت كطرف مدني لحماية الإنسان الطرف الضعيف في العلاقة بين المنتج والمستهلك والوسيط، لأن حماية المستهلك حق من حقوق الإنسان يجب مراعاته وأخذه بعين الاعتبار في التطور الاقتصادي وحماية الأمن داخل المجتمع.

وفي هذا الصدد لا يخفى على أحد المهمة التي يقوم بها المتحسب في هذا الباب، إذ مهمته عسيرة؛ فهو يتمتع باختصاصات موسعة منها ما هو ديني، ومنها ما هو دنيوي، لذلك حظي باهتمام بالغ من طرف فقهاء التشريع في التاريخ الإسلامي وخصصت له كتب الفقه الإسلامي حيزا هاما، وجاء نظام الحسبة في التشريع المغربي امتدادا طبيعيا لما كان معمولا به في التشريع الإسلامي عبر تاريخ طويل.

وفي هذا المقال المتواضع سأحاول تحديد دور المحتسب من خلال المحاور التالية:

المحور الأول: التأصيل الشرعي والقانوني لمؤسسة المحتسب.

المحور الثاني: الاختصاصات المسندة للمحتسب من خلال ظهير 1982.

المحور الثالث: الدور المجسم للمحتسب في مراقبة الأسعار وحماية المستهلك.

المحور الرابع: هل يمكن استمرار دور المحتسب في المغرب في ظل بعض التغيرات التي يعرفها المجتمع؟

المحور الأول: التأصيل الشرعي والقانوني لمؤسسة المحتسب

يعتبر نظام الحسبة من الأنظمة المتأصلة في التاريخ الإسلامي، ظهر هذا النظام مع قيام الدولة الإسلامية، وكان يوصف عبر صيرورته التاريخية بولاية الحسبة أو خطة السوق[1]، هذا إلى جانب خطة القضاء وخطة الشرطة وخطة المظالم، وهذه الخطط كانت تسمى بالولايات الإسلامية التي ينبثق عنها حكم شرعي.

وكان لنظام الحسبة الفريد من نوعه دورا رياديا في الحفاظ على استقرار المعاملات والمهن بمختلف أنواعها، حيث كان المحتسب يراقب حسابات الدولة والمكاييل والموازين وشرطة الأسواق، وكل ما يتعلق بحسن الآداب والنظام العام، عموما إن دور المحتسب كان ينحصر بالأساس فيما يسمى شرعا بواجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[2]Commandite du bien et interdiction du mal.  من هنا يمكن القول إن مؤسسة المحتسب في المغرب تجد صداها في التشريع الإسلامي أولا وفي التقنين الوضعي ثانيا.

التأصيل الشرعي للمحتسب 

من المعلوم أن الشريعة الإسلامية شريعة الله الخالدة في هذا الكون، جاءت شاملة وجامعة لجميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وكما أمرت بالصلاة والزكاة والصيام والحج، ألزمت الناس كذلك بعدم الإهمال والتفريط في شؤون الدنيا ومصالحها الضرورية[3] والحاجية[4] والتحسينية[5] فأمرت الناس بحفظ النفس والمال والنسل والعقل، قال تعالى: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ [القصص: 77]. وقال، صلى الله عليه وسلم: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم”[6] فقرن الأموال بالنفوس والدماء، كما روي عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، ثم قال: “من غشنا فليس منا”[7] وقال: “لا يحتكر إلا خاطئ”[8]، لأن الاحتكار حرمه الشارع ونهى عنه لما فيه من الجشع والطمع وسوء الخلق والتضييق على الناس”[9].

من هنا شرع نظام الحسبة الذي هو نظام إسلامي أصيل لحماية البائع والمشتري، والحفاظ على استقرار المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، واشترط الفقهاء في من يقوم بمهمة الحسبة شروطا منها الإيمان والتكليف والعدالة، وأن يكون معينا من طرف الإمام[10] حتى يقوم أحسن قيام بمهامه المنوطة به والمتجلية أساسا في جلب المصالح للناس أثناء معاملاتهم ودرء المفاسد عنهم بالنظر في أمور الصنائع من حيث الغش والتدليس والأخذ بأيدي الناس في معاملاتهم وصناعاتهم؛ فكانت مهمة المحتسب في هذا جامعة بين نظر ديني شرعي ونظر سياسي حكومي، كما قال الشيخ المرير في كتابه: “الأبحاث السامية”[11].

ونجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، أولى اهتماما بالغا بهذه المهنة حيث استعمل سعيد ابن العاص واليا على سوق مكة، وعمر بن الخطاب واليا على سوق المدينة، كل ذلك من أجل العناية بأوضاع الناس المعيشية ودرء كل مفسدة تحيط بهم وتنغص عليهم حياتهم فلقيت هذه المهنة شأنا عظيما في عهده، صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، والعصور الإسلامية اللاحقة؛ فكان عمر بن الخطاب يشرف على شؤونها بنفسه، فيدخل الأسواق ويراقب التجار وذوي الحرف والصناعات ويعاقب كل واحد رأى منه مخالفة في هذا الشأن ولم يزل أمر المحتسب يكبر ويعظم في المجتمع الإسلامي حتى أصبحت مهمته من أكبر الولايات في الدول، وعرف استقلالا وتطورا بعد نهاية القرن الثاني الهجري، وخاصة بعد أن ظهرت المذاهب الفقهية الأربع المعروفة، وقامت المدن الإسلامية وانتظمت بها الأسواق، وما ترتب على ذلك من ازدهار التجارة، وتعدد دور الضرب، ومهارة الذهبيين[12] في التبادل النقدي، وظهور النقود الزائفة ونظام المصارف، وهذا فضلا عن طوائف أخرى من أرباب الحرف والصناع حتى صار منصب المحتسب في القرن الرابع الهجري من المناصب الوطيدة في الدولة. فدخل المغرب مع دخول المذهب المالكي واستقراره فيه وتمسك أهله به في العبادات والمعاملات واتخذوه منهجا في الحياة. فعرف تطورا في عهد دولة الأدارسة ودولة المرابطين ثم دولة الموحدين والمرينيين والسعديين إلى عهد دولة العلويين[13] التي بلغ فيها منصب المحتسب شأنا عظيما حيث خصوه بالعناية والتوجيه والمراقبة، فتميزت ولاية المحتسب بالاختصاص الواسع وكان وسيلة من وسائل استقرار المجتمع واستقرار المعاملات كذلك، وجزءا لا يتجزأ من حياة المواطنين العامة.

ولم تبق مهمة المحتسب مقصورة على مراقبة التجار في الأسواق، بل أسندت إليه مراقبة جميع مصالح الناس وقضاياهم بما في ذلك مراقبة الخطيب في الجمع والأعياد وإصلاح الطرق وأنابيب المياه، وترميم ما انهدم من أسواق المدينة ومراقبة المعلمين وطرد من يتصدى لمهنة التعليم وهو غير أهل لها، ومنع الناس من الوقوف، مواقف التهم والشك وتأديب المجاهرين بالمحرمات، وإنكار العقود الفاسدة من البيوع والأنكحة والإجارات، وإجبار أرباب الدواب والسفن ونحوها أن لا يحملوا عليها أكثر من المعتاد، وتفقد حال القضاة في مماطلة الخصوم وغير ذلك[14].

ومما سبق يمكن القول إن نظام الحسبة متأصل في الشريعة الإسلامية، شرع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كان المحتسب يحث الناس على التحلي بالتقوى والصدق في معاملاتهم فيما بينهم وفي علاقاتهم الاجتماعية والتجارية وكل ما يتعلق بحياتهم إلا أن تطور نظام الحسبة عبر التاريخ أعطى للمحتسب اختصاصات موسعة حيث كان المحتسب ينزل العقوبات[15] بكل مخالف لأعراف الأسواق أو مجاهر بالمنكرات، وكل ما من شأنه أن يحدث خلالا في المجتمع ويخالف أخلاق الناس ونظامهم وأعرافهم في حياتهم، ثم تطور مع الزمان إلى أن أخذ مكانه في التشريعات العربية المعاصرة.

التأصيل القانوني لنظام الحسبة في المغرب

لقد تطور نظام الحسبة في التاريخ الإسلامي إلى أن وصل إلى المغرب من المشرق الإسلامي عندما دخل المذهب المالكي إلى هذه الديار واستقر فيها وعمل به أهله في العبادات والمعاملات؛ فكان يعمل بنظام الحسبة في الأندلس والمغرب، إذ يعتبر المغرب الآن البلد الوحيد في العالم الإسلامي الذي يعين فيه المحتسب بظهير شريف من جلالة الملك، وهو بهذا يعتبر موظفا ساميا إلى جانب الوزير والوالي والعامل وكل موظف سامي في سلم الأجور في الدولة.

ويأخذ المحتسب اختصاصاته في التشريع المغربي من الظهير الشريف رقم 70.82.1 الصادر بتاريخ 28 شعبان 1402هـ موافق 21 يونيو 1982 والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 3636 بتاريخ 15 رمضان 1402 موافق 07 يوليوز 1982. حيث أعطى هذا الظهير للمحتسب اختصاصات واسعة في المجال الاقتصادي والتجاري والمهني، وإن كان هذا الظهير قد سلب منه بعض الاختصاصات الدينية التي كان يتمتع بها عبر تاريخ طويل، ولكنه في حقيقة الأمر حافظ على الطابع الإسلامي لمؤسسة المحتسب في المغرب. وإن كانت تلك الاختصاصات التي أنيطت به الآن لا ترقى ولا تتطابق تماما مع الاختصاصات الهامة والموسعة التي كانت عنده في العصور الإسلامية بل توجد بين مؤسسة المحتسب في التاريخ الإسلامي وفي التشريع المغربي المعاصر أوجه اختلاف وأوجه افتراق فرضهما ما يسمى بنظام الفصل بين السلطات، ومبدأ توزيع المهام والاختصاصات بين مختلف مرافق الدولة ومصالحها العمومية المتعددة.

ومن الملاحظ أن هذا الفصل لم يغب عن الدولة الإسلامية في كل مراحل تطورها ونموها واتساع رقعتها، بل ظل المحتسب يتمتع بهذه الاختصاصات الموسعة إلى أن تم فرض الاستعمار على الدول الإسلامية، فولاية القضاء مثلا وحدها كانت تنقسم في الدولة الإسلامية إلى ثلاثة ولايات:

أ‌.ولاية القضاء تفصل في النوازل والمنازعات بمقتضى وسائل الإثبات من كتابة وبينة وإقرار.

ب‌. ولاية المظالم تنظر في شكوى المشتكي ضد الأحكام القضائية وتنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه من أحكام.

ج ولاية الحسبة تختص مبدئيا بالنظر في دعاوي الحقوق الثابتة أو المعترف بها، أي التي لا تحتاج إلى حجة أو بينة، ويحكم فيها بالتعزيز دون الحدود[16].

ومن الملاحظ أن نظام الحسبة في الشريعة الإسلامية قد اقتبسته بعض الدول الغربية في تشريعاتها المعاصرة وطبقته في مجتمعاتها من ذلك مثلا، أمريكا، وألمانيا، وفرنسا وانجلترا، ففي أمريكا مثلا، عندهم ما يسمى بقاضي الحومة juge de quartier، فهو ليس قاضيا، بالفعل ولكنه يمارس مهمة القضاء في فض المنازعات بالصلح فيما بين الناس، حيث يعقد لذلك جلسات أسبوعية للمصالحة دون إصدار أي حكم، وكلمته مسموعة، وينفذها الجميع عن طيب خاطر، ونفس الشيء يوجد في ألمانيا وفرنسا وانجلترا ويسمى برجل الوفاق[17]. Homme de qualification

المحور الثاني: الاختصاصات المسندة للمحتسب من خلال ظهير 1982

جاء ظهير 1982 لتأصيل خطة الحسبة وتحديث ولايتها وإعطائها صبغة المعاصرة حتى تساير الركب الحضاري والتطور الاقتصادي الذي يعرفه المجتمع، حيث لم يبق هناك تداخل بين الاختصاصات، بل أوكلت لكل اختصاصاته المحددة له بنصوص قانونية؛ فالوزير والعامل والوالي والقاضي والأستاذ والعدل والمحامي لكل اختصاصاته ومجالاته المنوطة به حتى لا يقع هناك ما يسمى بتزاحم أو تداخل الاختصاصات.

جاء هذا الظهير ينص صراحة على اختصاصات المحتسب، وهي اختصاصات مقيدة في نظرنا لا ترقى إلى ما كان عنده من اختصاصات في العصور الإسلامية.

وبمقتضى تقنين مهام المحتسب ووفقا لهذا الظهير أصبح دور المحتسب مجسما في اختصاصات مكانية وأخرى نوعية نتعرض لهما فيما يلي:

أولا: الاختصاصات المكانية للمحتسب

لقد حدد ظهير 1982 الاختصاصات المكانية للمحتسب، والتي تتجلى أساسا في ممارسته لتلك الاختصاصات المخولة له قانونيا داخل المساحة الترابية التي هو معين في دائرتها، وقد أطلق المشرع عليه هذا في الفصل الأول “محتسب بلدية كذا”[18] أثناء تعيينه، حيث يمارس تلك المهام داخل تراب البلدية التي هو معين فيها، وهذا ما نص عليه صراحة الفصل الأول من الظهير المذكور “يعهد إلى المحتسب دون غيره من السلطات، داخل دائرة الاختصاص المكاني التي يزاول بها مهامه بمراقبة جودة وأثمان خدمات ومنتجات الصناعة التقليدية والمنتجات الفلاحية والمواد الغذائية والمشروبات ومنتجات التزيين والنظافة”.

انطلاقا من هذا لا يمكن للمحتسب أن تطال اختصاصاته أماكن أخرى خارجة عن البلدية التي هو معين فيها.

ثانيا: الاختصاصات النوعية للمحتسب

في إطار مبدأ فصل السلطات التي تعمل به جميع الأنظمة السياسية في العالم، والمغرب من ضمن الدول التي يسود فيها مبدأ فصل السلطات بشكل جلي وظاهر، بناء على هذا المبدأ أسندت للمحتسب وفق ظهير 1982 السالف الذكر اختصاصات نوعية بموجبها يمارس سلطاته المخولة له في المراقبة على ما يلي:

1.  جودة المنتوجات والخدمات وأثمانها، ومحاربة الغلاء وزجر الغش والتزوير والتدليس والاحتكار.

2.  تقريره للعقوبات المشتملة على ذعائر وإغلاقات بتفويض من الوالي أو العامل

3.  تهييئه لانتخابات أمناء الحرف لمساعدته في فض النزاعات المهنية.

4.  مراقبته للأسواق الداخلة في دائرة اختصاصاته، وكذا المحلات التجارية والمهنية

5.  مراقبته التطفيف في المكاييل والموازين، وإبداء رأيه في طلبات الرخص المهنية

6.  إخباره السلطات المختصة بجميع الأفعال المنافية للأخلاق والنظام العام

تلك هي بعض الاختصاصات النوعية التي أسندت للمحتسب في إطار ظهير 1982.

المحور الثالث: الدور المجسم للمحتسب في مراقبة الأسعار وحماية المستهلك

أقرت الشريعة الإسلامية قواعد عامة لحماية المستهلك من طغيان المنتج وجبروته، فحرمت الاحتكار بكل أشكاله، ونص القرآن الكريم صراحة على هذا حيث قال تعالى: ﴿وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ [هود: 83-84]، وقال، صلى الله عليه وسلم،: “لا يحتكر إلا خاطئ”[19] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث في الموضوع، من هنا حرم الإسلام الغبن والتدليس والغش  بكل أنواعه حماية للمستهلك، وأباح التسعير مصلحة للمستهلك عند الضرورة، حيث وضعت الشريعة ضوابط لتحقيق المصلحة من التسعير من ذلك ألا يتم إلا بمشاورة أهل الخبرة والدراية بأصول السوق والسلع والتجارة، وألا يتضمن هذا التسعير ظلما للتجار أو المنتجين، وأن يكون الهدف منه تحقيق العدل في التعامل وتوفير احتياجات الناس[20]، ويستحق المخالف التعزيز حيث يعتبر ذلك خروجا على أوامر ولي الأمر[21].

ويمتاز المحتسب في التشريع المغربي بمراقبته للأسعار حماية للمستهلك وحفاظا على استقرار المعاملات والتوازنات الاقتصادية داخل المجتمع، فبزجره للغشاشين والمرتزقة وذوي النفود، ولتجديده لسعر المنتجات التي تدخل في إطار اختصاصاته ومراقبته يحافظ بذلك على العوامل التي تؤثر على مستوى الإنفاق الاستهلاكي، والتي تتضمنها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.

وإذا كان الاهتمام بحماية المستهلك مازال حديث النشأة في مجتمعنا؛ فإن الدول الغربية قد قطعت أشواطا مهمة في هذا المجال، ففي الولايات المتحدة الأمريكية صدر أول قانون لحماية المستهلك عام 1872م بشأن الخداع والغش، ثم صدر قانون عام 1884 الذي أنشأ إدارة الرقابة الحيوانية في وزارة الزراعة للإشراف على المواصفات الصحية للحيوانات، ثم تلى ذلك قانون 1890 الذي نظم صناعة الأغذية المعلبة ووضع المواصفات القياسية اللازمة لحماية المستهلك.

وتحت تأثير جمعيات حماية المستهلك أصدر المشرع الأمريكي قانون الأطعمة والمنتجات الدوائية 1906، وقانون لجنة التجارة الفيدرالية عام 1941، كل ذلك من أجل هدف أساسي وهو حماية المستهلك وتأمين سلامته، وقد أعلن الرئيس الأمركي جون كيندي عن الحقوق الأربعة الأساسية للمستهلك وهي الحق في الأمن، الحق في الإعلام، الحق في الاختيار، الحق في التمثيل، ونفس هذا الاهتمام عرفته فرنسا وباقي الدول الأوروبية الأخرى[22].

وقد لجأت جمعيات للدفاع عن المستهلك وحمايته إلى تبني الأشكال الاجتماعية كالمقاطعة، وتوقيع عرائض احتجاجية، واللجوء الجماعي للقضاء، ترسيخا لثقافة حماية المستهلك إذ أصبحت هذه الحماية حقا جديدا من حقوق الإنسان[23].

وفي الدول النامية مازال مجال حماية المستهلك يشكو من نقص واضح: ففي المغرب مثلا حيث حماية المستهلك مازالت ضعيفة أو تكاد تكون منعدمة لم ترق إلى ما هو معمول به في هذا المجال في الدول الغربية، رغم صدور بعض القوانين المتعلقة  بزجر الغش سواء قبل الاستقلال أو بعده[24]، إلا أن هناك بادرة يمكن أن تشجع في هذا الباب والتي تتجلى في إصدار بعض النصوص القانونية التي ترمي إلى حماية المستهلك من بطش الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار من هذه النصوص  قانون 12 أكتوبر 1971 المتعلق بمراقبة الأسعار، وظهير 1982 المتعلق بنظام الحسبة، وقانون 5 اكتوبر 1984 المتعلق بقمع الغش، كما يعتبر إنشاء الجمعية المغربية لحماية المستهلك خطوة إيجابية في هذا الصدد، كما عقدت كذلك ندوات وطنية الهدف منها حماية المستهلك ولفت انتباه المسؤولين للاهتمام بالمستهلك وحمايته قانونيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا.

كان لدور المحتسب في ظهير 1982 شأن كبير حيث أصبح المحتسب ابتداءً من هذا التاريخ يتمتع بادوار هامة يمكن تجسيد أهمها فيما يلي:

1. مراقبة جودة المنتوجات والخدمات والأثمان والتحقق من توفر المواصفات المقررة في النصوص التنظيمية المعمول بها في أعراف المهنة (ف 1.2).
2. استعانت المحتسب في مهامه بالمصالح التقنية المختصة للتحقق من جودة المنتوجات (ف.3).
3. تحريره محاضر المخالفات المتعلقة بأثمان المنتجات والخدمات التي يراقبها وفق القوانين والأنظمة الجاري بها العمل في ميدان زجر الغش ومراقبة الأثمان (ف.2).
4. توجيه المحاضر التي حررها المحتسب في مدة لا تتعدى عشرة أيام ابتداء من يوم العثور على المخالفات إلى السلطات المختصة لاتخاذ قرار بشأنها (ف.5).
5. فرضه لغرامات لا يتعدى قدرها خمسين ألف درهم (ف.6).
6.  التحلي بالصدق والأمانة وإخباره السلطات المختصة بجميع الأفعال أو الأعمال المنافية للآداب العامة والأخلاق والفضيلة (ف7).
7. يستشار المحتسب فيما يتعلق بتجديد أثمان المنتجات والخدمات التي يراقبها، ويشارك لهذا الغرض في لجنة الأثمان التابعة للعمالة أو الإقليم (ف8).
8. إجراء مسطرة التوفيق بين الحرفيين وتجار المنتجات والزبناء، واستعانته بأمناء الحرف في مزاولة مهامه (ف10).
9. فض المنازعات بين الحرفيين والتجار وتثبيت ذلك بمحضر يحرره المحتسب (ف 11).

ونستنتج من كل هذا أن اختصاصات المحتسب المخولة له في ظهير 1982 هي اختصاصات واسعة تهدف بالأساس إلى حماية المستهلك من بطش المحتكرين والسماسرة وأصحاب النفوذ والمال هذا على غرار باقي السلطات الممنوحة للعامل ولضباط الشرطة القضائية في هذا المجال.

وزيادة على ما ذكر يتميز المحتسب بصفات سامية وأخلاق عالية يجب أن يتحلى بها ليكون قدوة في مهامه، لجميع الناس، حتى يحافظ قولا وفعلا على صحة المواطن في اختصاصاه الترابي، وللأسف الشديد أن هذه الصفات لن تعد متوفرة في شخص المحتسب في عصرنا الحاضر والدليل على هذا بعض الخروقات التي أصبح يعايشها المواطن المغربي، ونخص بالذكر هنا ظاهرة الرشوة بجميع أشكالها وألوانها الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في هذه المؤسسة وفرض بنود قانونية عليها حتى يؤدي المحتسب اختصاصاته المنوطة به على الوجه المطلوب.

المحور الرابع: هل يمكن استمرار دور المحتسب في المغرب في ظل بعض التغيرات التي يعرفها المجتمع؟

من خلال بعض التغيرات التي يعرفها المجتمع، والتي تنحصر فيما هو اقتصادي، وما هو اجتماعي، وما هو تكنولوجي، وفي ظل التحديات المعاصرة أصبحت مؤسسة المحتسب لا تخلو من انتقادات رجل الفقه والاقتصاد والعارفين بالشأن الاجتماعي، والسبب في ذلك راجع بالأساس إلى الطابع التقليدي الذي يميز شخصية المحتسب وتكوينه مما لفت إليه الانتباه، فأصبح من اللازم في عصرنا هذا وفي إطار ما يعرفه المجتمع من تحول، إعادة النظر في دور المحتسب وإصلاح هذه المؤسسة الفريدة من نوعها وهيكلتها وإيجاد صيغ قانونية كفيلة بمنح المحتسب أدوارا طلائعية جديدة ومشرفة داخل المجتمع حتى يساير التطورات الاقتصادية والقانونية والتكنولوجية، وأن يعود للمحتسب هيبته ودوره الديني والدنيوي مع العمل على حمايته قانونيا، ولن يتأتى هذا إلا بإيجاد إطار قانوني ملائم لقضايا العصر مع العمل على تكوين المحتسب تكوينا شرعيا وقانونيا وجبائيا حتى يواكب المهام المسندة إليه، ولم لا، والمحتسب في التاريخ الإسلامي كان يشترط فيه أن يكون متضلعا في العلوم الشرعية عارفا بأعراف الناس وتقاليدهم، قال الشيخ المرير: “فالمحتسب يجب أن يكون عالما بالحكم الشرعي في المسائل التي أنيط فصلها بخطة الحسبة عالما بالمذكرات الشرعية العرفية، فإن كان جاهلا بهذا كان حكمه جورا، وربما أنكر ما ليس بمنكر وأقر ما ليس بمعروف، وأن يكون ذا عدالة، أي ذا صدق ودين، موثوقا به غير كاذب ولا متصف بما ينافي المروءة[25].

وخلاصة الكلام لا يسعني إلا أن أقول إن دور المحتسب في المجتمع المغربي، يجب أن ينصب أساسا على خدمة هذا المجتمع، بحماية المواطن من بطش المحتكرين كما أن المحتسب يجب كذلك أن يتمتع بشخصية قوية من الناحية العلمية والتكوينية، كما أنه أصبح لزاما إعادة النظر في ظهير 1982 لزيادة اختصاصات المحتسب وتكوينه تكوينا يتماشى والتطورات التكنولوجية والتجارية المعاصرة، كل هذا يجب أن يتم في ظل الهوية الوطنية التي لا تحيد قيد أنملة عن الدين الإسلامي الحنيف الذي عمل منذ دخوله إلى المغرب على توحيد المغاربة وجمع صفوفهم على كلمة سواء.

المراجع

1. نهاية الرتبة في طلب الحسبة، الشيخ عبد الرحمان بن نصر الشيرزي، تحقيق د. السيد الباز العريني، الطبعة الثانية دار الفكر 1981.
2. معالم القرية في أحكام الحسبة لابن الأخوة، نشره المستشرق روبن لوي، مكتبة المتنبي القاهرة بدون تاريخ الطبع.
3. الأحكام السلطانية، لأبي الحسن علي بن حبيب البصري المعروف بالماوردي، طبعة دار الفكر 1966.
4. إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، طبعة دار الفكر، الطبعة الثانية 1989.
5. الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية، الشيخ المرير، طبعة معهد فرانكو تطوان 1951.
6. مقدمة ابن خلدون، طبعة دار الرشاد الحديثة بدون تاريخ الطبع.
7. تحفة الأحوذي، بشرح جامع الترميذي، مؤسسة قرطبة، الطبعة الثانية.
8. صحيح البخاري، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1992.
9. فقه السنة، السيد السابق، طبعة دار الفكر، الثانية 1977.
10. والي المدينة، د. السيد الباز العريني، منشور ضمن نهاية الرتبة للشيرزي.
11. خطة الحسبة في النظر والتطبيق والتدوين، ذ. عبد الرحمان الفاسي، نشر دار الثقافة 1984، الدار البيضاء.
12. النظام في حسبة الإسلام، منشور ضمن الأبحاث السامية.
13. النظرية العامة في الحماية الجنائية للمستهلك د. نصيف محمد حسين دار النهضة العربية 1998.
14. الاقتصاد السياسي، ذ. عبد الالاه بكار و ذ. محمد عبده، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، بدون تاريخ الطبع.
15.  جرائم الغش في البضائع ذ. جواد الغماري، طبعة المجموعة المغربية للصحافة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1988.
16. مجلة البحث العلمي ع 42/1994- 1995.
مجلة دار الحديث الحسنية ع 4/1984.

الهوامش


 1. كتب فقهاء الشريعة على مختلف مذاهبهم في المحتسب وما يتعلق به مؤلفات كثيرة، إلا أن أقدم مؤلف وصل إلينا، فيما أعلم، هو كتاب “نهاية الرتبة في طلب الحسبة”، لعبد الرحمان بن نصر الشيرزي المتوفى 589هـ، حققه الدكتور السيد الباز العريني، والكتاب مطبوع عن دار الفكر في طبعته الثانية 1981م، ومن الفقهاء الذين كتبوا في الحسبة هناك، الماوردي المتوفى 450هـ في كتابه: “الأحكام السلطانية”، والغزالي المتوفى 505هـ في كتابه: “إحياء علوم الدين”، وابن الأخوة المتوفى 729هـ في كتابه: “معالم القربة في أحكام الحسبة”، ومن المغاربة الشيخ المرير في كتابه، “الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية” وغير هؤلاء كثير.

 2. ينظر: نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيرزي، تحقيق د. السيد الباز العريني، ص: 6 وما بعدها. مقدمة ابن خلدون، ص: 225 وما بعدها. معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة، ص: 7 وما بعدها.

ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد لا تسند للمحتسب وحده نظرا لوظيفته هذه، فقد تسند لمؤسسات معينة أو أشخاص معينين، لأن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موكول لكل مسلم كيفما كان، وهو فرض كفاية لا فرض عين، والرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول: “من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”، وفي القرآن الكريم آيات متعددة واضحة وبينة في هذا الباب منها، قوله تعالى في الآية 104 من سورة آل عمران: ” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون “، وقوله كذلك في الآية 110 من نفس السورة: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله” وقوله في الآية: 71 من سورة التوبة: “والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله” إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا الأمر.

3.  الضروريات في الحياة: هي تلك الأعمال التي يتوقف عليها صيانة الأركان اللازمة في الحياة، فالعبادة مثلا: شرعت لحفظ الدين، والأكل الشرب واللباس شرع لحفظ البدن، ونظمت المعاملات لاستتباب الأمن داخل المجتمع.

4. الحاجيات في الحياة: هي كل عمل لا يتوقف عليه صيانة أركان الحياة، وإنما الحاجة والتوسعة هي التي تتطلب ذلك، كالتمتع بما أحل الله من الطيبات في الحياة” ولبس أجمل الثياب وغير ذلك بدون مشقة ولا تكليف.

5.   التحسينات في الحياة: هي من قبيل استكمال ما يليق بالإنسان في الحياة، والتنزه عما لا يليق، ويدخل هنا، آداب الأكل، ولبس أجمل الثياب، والاعتدال في المظهر والاقتصاد في الحياة بدون إسراف ولا تقتير ولا مشقة ولا تكليف.

6. جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: “رب مبلغ أوعى من سامع” 1/30.

7.  أخرجه الترميذي في أبواب البيوع، باب 72، وقال: حديث حسن صحيح (انظر تحفة الأحودي 4/545).

8. نفسه.

9. فقه السنة، السيد سابق 3/162.

 10. ينظر: إحياء علوم الدين للإمام الغزالي 2/341- 342.

11.  2/113، انظر إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 2/375. مقدمة ابن خلدون ص: 225.

12. المقصود بدور الضرب، صناعة النقود.

13. ينظر: والي المدينة، د. السيد الباز العريني ص: 133، خطة الحسبة في النظر والتطبيق والتدوين، ذ. عبد الرحمان الفاسي، ص: 117 وما بعدها. الأبحاث السامية 2/99 وما بعدها.

14. ينظر: الأحكام السلطانية ص: 240. الأبحاث السامية 2/102- 103. التراتيب الإدارية، الشيخ عبد الحي الكتاني، ص: 239 وما بعدها.

 15. كانت العقوبات التي ينزلها المحتسب لكل مخالف لما ذكر كما يلي:

أ. طرح الشيء المغشوش أو إتلافه بالتصدق به على المساكين.

ب. إهانة الجاني وتوبيخه.

ج. نفي الجاني من السوق.

د. رفع يده عن الصنعة.

هـ. السجن.

و. الضرب، وكل هذه العقوبات هي عبارة عن تعزيزات حسب اجتهاداته، انظر النظام في حسبة الإسلام، للشيخ المرير ضمن الأبحاث السامية 1/103. إحياء علوم الدين 2/343 وما بعدها.

16. ينظر مجلة دار الحديث الحسنية، ع 4/1984، ص: 179 وما بعدها

17. ينظر مجلة البحث العلمي ع 42/1994-1995، ص 275.

18. لعل السر الذي حذا بالمشرع إلى استعمال عبارة محتسب “بلدية كذا…” أثناء تعيين المحتسب لممارسة مهامه دون محتسب جماعة كذا… وذلك حتى لا يقع إشكال أو تعقيد قانوني في شمولية نفوذ المحتسب على مساحة تراب بلديته، إذ ما وقع تقسيم إداري جديد في الجماعات المحلية، أو أحدثت جماعات أخرى داخل نفس البلدية مستقبلا كما هو الشأن بالنسبة لبلدية عين الذئاب بالدار البيضاء التي قسمت إلى جماعتين سيدي بليوطوأنفا، وبلدية مرس السلطان التي قسمت إلى جماعتين مرس السلطان والفداء، وبلدية عين الشق التي قسمت إلى جماعتين عين الشق والحي الحسني، ينظر مجلة البحث العلمي ع 42/1994- 1995، ص: 288 وما بعدها.

19. سبق تخريجه.

20.  النظرية العامة في الحماية الجنائية للمستهلك د. نصيف محمد حسين ص: 12- 13. وانظر مقدمة ابن خلدون ص: 397.

21.  نفسه وانظر الأبحاث السامية 1/103 وما بعدها.

22. ينظر النظرية العامة في الحماية الجنائية للمستهلك ص: 16 وما بعدها. الاقتصاد السياسي ذ. عبد الالاه بكار و د. محمد عبده ص: 147 وما بعدها.

23. نفسه.

24. ينظر جرائم الغش في البضائع، ذ. جواد الغماري ص: 26 وما بعدها.

25.  الأبحاث السامية 2/15 وانظر ص: 108 من نفس الجزء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق