الرابطة المحمدية للعلماء

“حوار حي” حول مناهج وآليات قراءة التراث النقدي والبلاغي عند العرب

 

“حوار حي” حول مناهج وآليات قراءة التراث النقدي والبلاغي عند العرب

د. هنوش: علاقة البلاغة بالقرآن الكريم ليست صلة إيديولوجية وإنما منهجية

كان موضوع مناهج وآليات قراءة التراث النقدي والبلاغي عند العرب، محور حلقة “حوار حي” الذي يبثه موقع الرابطة المحمدية للعلماء على شبكة الإنترنت، من خلال استضافة الدكتور عبد الجليل هنوش، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض ـ مراكش.

واعتبر المتدخل بداية، أن الآليات المتبعة في قراءة التراث العربي القديم، تنوعت بحسب المذاهب الفكرية، والانتماءات المنهجية للدارسين، حيث وقعت هذه القراءات في آفتين منهجيتين: الأولى، تجزيء هذا التراث وتقسيمه إلى قطاعات متفاضلة. والثانية، إسقاط نظريات حديثة على هذا التراث دون مراعاة للخطوات المنهجية الضرورية في هذا المجال، مما أدى إلى تبخيس أقسام من التراث النقدي والبلاغي بغير سبب علمي ظاهر، وإلى الرفع من قيمة أقسام أخرى بغير دليل واضح، مضيفا أن ما نحتاج إليه اليوم هو إدراك هذا التراث النقدي والبلاغي إدراكا علميا صحيحا، وحتى يتأتى ذلك يحتاج الدارس إلى عُدة معرفية ومنهجية تجمع بين القديم والجديد؛ ذلك أن البناء المعرفي لنصوص التراث القديم لا يمكن استكناهه إلا بأدوات معرفية ومنهجية حديثة تركز بالأساس على الآليات المنهجية التي بني بها هذا التراث.

وعن سُبُل التعامل مع هذا التراث، ليس باعتباره معطى متعددا ومتنوعا فحسب، بل وبوصفه أيضا مكونا جوهريا لهويتنا ومؤثرا فيها، أكد الدكتور عبد الجليل هنوش أنه تأسيسا على كون التراث يشكل هويتنا الفكرية والروحية، فإن العناية به، عناية بهذه الهوية، وتجديده هو إمداد لهذه الهوية بوسائل القوة والاستمرار في العصر الحديث. فالتراث جزء منا لا يمكننا الانفصال عنه، ولكن يمكننا البناء عليه، وتجديده بعد فهمه وإدراك أسراره.

ومن الأسئلة العامة التي تم طرحا في “الحوار الحي”، ذلك المتعلق بوزن البلاغة العربية في فضاء مقومات التراث العربي الإنساني، حيث اعتبر المتدخل أن التراث البلاغي العربي يُمثل صرحا علميا كبيرا في بنيان التراث الإنساني، وذلك استنادا إلى غنى وتنوع الإنتاج البلاغي العربي القديم، وارتياده لآفاق متنوعة تتجاوز ما وقف عنده التراث اليوناني السابق عليه، مؤكدا في هذا الصدد، أنه بالرغم من أن قضية إعجاز القرآن الكريم كانت من أهم حوافز بناء وتطوير البلاغة القديمة؛ إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن القرآن الكريم كان هو الأصل في نشأة وتطور مجمل العلوم العربية الإسلامية القديمة، وقد كان للبلاغة حظ وافر من تأثير القرآن في تطورها وتجديدها، لذلك ليس غريبا أن يكون عنوان أهم كتاب طوّر البلاغة هو “دلائل الإعجاز” لعبد القاهر الجرجاني، معتبرا صراحة أن صلة البلاغة وغيرها من العلوم بالقرآن الكريم ليست صلة إيديولوجية بالمعنى الضيق والحديث للكلمة، وإنما هي صلة منهجية وبنائية بالأساس.

وعن مدى أحقية النقد الثقافي في أن يكون بديلا عن النقد الأدبي، قرأ الدكتور عبد الجليل هنوش هذا النقد بداية، في كونه من المناهج النقدية الحديثة التي تنتمي إلى ما يسمى بـ تيار ما بعد الحداثة”، ولذلك فإنه منهج من المناهج النقدية وليس بديلا عن النقد الأدبي؛ لأن تيارات النقد الأدبي متعددة وكل منها يستند إلى سند فكري ونظري يؤسس عليه آلياته التحليلية التي تجعله يختلف منهجيا عن غيره من التيارات، مضيفا أن ظهور هذا النوع من النقد في البيئة العربية يؤكد تفاعلها مع الإنتاج الفكري والنقدي العالمي، ويؤكد أيضا على حيوية البيئة النقدية العربية، وانفتاح الدارسين والنقاد على مختلف الإنتاجات الفكرية العالمية.

وأخيرا، توقف المتدخل عند تقييم فرضية مفادها أن “الخطاب البلاغي يمثل بلاغة نص ذات مقصدية أيديولوجية مهيمنة، متشعبة الحقول والميادين، ومتعددة المفاهيم والمصطلحات الواصفة للوجه البلاغي الواحد”، ملاحظا أن النشأة الأولى للخطاب البلاغي العربي القديم كانت في أحضان اللغويين، أمثال سيبويه، وكان الحافز إلى بناء هذا العلم حافزا لغويا بالأساس نشأ عن تأمل عميق في أساليب القرآن الكريم، وقد ركزت على هذا الحافز اللغوي حتى أؤكد أن نشأة البلاغة لم تكن بقصد إيديولوجي في أساسها، وإنما اقتضى وضع العلوم اللغوية ومدارسة أساليب العربية بعد ظهور النص القرآني الذي بلغ بالعربية أعلى درجات البيان والإبداع اللغوي، وهي صفة تميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات؛ إذ لا تمتلك اللغات الأخرى نصا يحدد أقصى ما يمكن أن يبلغه البيان في تلك اللغة.

وقد تطور البحث في الخطاب البلاغي بحسب تطور الفكر العربي ونضوج العلوم الإسلامية المتقاطعة مع البلاغة كعلم الكلام وأصول الفقه، بحيث عرفت البلاغة العربية مرحلتين أخريين بعد المرحلة التأسيسية التي ذكرتها، والتي كان رائدها سيبويه. ففي المرحلة الثانية وضع عبد القاهر الجرجاني البلاغة وفق أسس جديدة تستند عموما إلى العقل، أما في المرحلة الثالثة والأخيرة فقد أرسى حازم القرطاجاني البلاغة على أسس أخرى تستند إلى العلوم الحِكمية، ملخصا التقييم، في أن الحكم على التراث البلاغي ينبغي أن يراعي هذا التنوع المنهجي، وأن يتجنب الأحكام العامة التي لا تراعي الخصوصيات المنهجية والفكرية للمدارس البلاغية القديمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق