الرابطة المحمدية للعلماء

حدث ثقافي متميز تحت سماء مدينة تطوان

عرفت مدينة تطوان حدثا ثقافيا متميزا تمثل في إلقاء فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي لمحاضرة في موضوع “تخليق الحياة العامة – تأملات في الدواعي ومقترحات في المنهج”، نظمتها جمعية البر والإحسان وذلك يوم الجمعة 3 رجب 1433هـ موافق 25 ماي 2012م بمسرح إسبانيول. وقد عرفت المحاضرة حضورا جماهيريا حاشدا من مختلف مكونات والشرائح بالمدينة؛ تقدمهم رئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة تطوان، ورئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة المضيق الفنيدق، والمندوب الجهوي للشؤون الإسلامية لجهة طنجة تطوان، وعضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء لمدينة تطوان، وخبير مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات الأدبية واللغوية، ورئيس مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، ورئيس الجماعة الحضرية لمدينة تطوان إلى جانب أعضاء المجالس العلمية المذكورة ومستشاري الجماعة الحضرية وبعض برلمانيي المدينة، وثلة من أساتذة كلية أصول الدين وكلية الآداب بتطوان، وبعض أعيان الأسر التطوانية، وخيرة مثقفي المدينة وطلبتها.

وقد افتتح هذا اللقاء العلمي بكلمة للسيد رئيس جمعية البر والإحسان رحب فيها بفضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الدكتور أحمد عبادي، شاكرا له تشريفه المدينة والمشهد الثقافي بها، كما رحب بالحضور المتميز، وتم تقديم ورقة تعريفية بالمحاضر مُهِّد لها بالحديث عن أرضية المحاضرة.

ومن جهته نبّه فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الدكتور أحمد عبادي إلى السياق الذي تأتي فيه هذه المحاضرة، مشيرا إلى طبيعة هذا العصر الذي تهاوت فيه الجدران “جدار برلين”، وصعدت النوافذ “نوافذ الويندوز”، (كما جاء على لسان المفكر المعاصر توماس فريدمان في كتابه “العالم مسطح”)، كما ألمح إلى ظهور نسقيات فكرية تستند إلى المعلوميات والتقنية الجديدة تطبع عالمنا، (استنادا إلى ما بسطه “دون تابسكوت” في كتاب “جيل الأنترنت”)، وعليه فإن الحديث عن تخليق الحياة العامة في هذا الإبّان ـ يضيف الدكتور أحمد عبادي ـ  لا يمكن أن يهمل هذا السياق المعاصر، ولذلك وجب أن يتفرع الحديث فيه إلى مساقات ومسارات تنتهي بتقديم  مقترحات وتوصيات. مشيرا في نفس السياق إلى أن البشرية تعيش ارتجاجا قيميا وأخلاقيا له أسباب متعددة ومتنوعة تحتاج إلى أدوات ومناهج وآليات لمعالجته؛ فالسياق معولم، والسؤال العريض الذي يطرح هاهنا هو: كيف يمكن امتلاك جملة من الأدوات والمناهج لمعالجة الارتجاج الحاصل في هذا السياق المعولم؟ مشيرا إلى أن الذين بحثوا وكتبوا في الأخلاق يجمعون على أن هذه الأخلاق إنما هي جملة من المعايير والهاديات التي من شأنها أن تهدي هذا الإنسان في سلوكه الذاتي والموضوعي ليكون أنجع في محيطه وأنفع.

ولما كان الإنسان ذا غرائز لها متطلباتٌ (تتعلق بالتشيؤ الوظيفي)، وميولاتٌ تحتاج للإشباع ـ يضيف فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ـ فقد سعى إلى ذلك إما بمفرده أو بالتعاون مع الغير، ومن ثَمّ كان الحديث عن الميزان في القرآن الكريم؛ إذ هو دعوة إلى ضبط غرائز هذه النفس، قال تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط، ولا تخسروا الميزان) [الرحمن:5-7]، والناس في حاجة إلى هداة وموجهين يهدونهم إلى معرفة الميزان (المادي والمعنوي)، في إطار كسبٍ علميٍ ومنهاجيٍ وفق المنظومة القيمية الإسلامية، وهؤلاء الهداة هم الرسل عليهم السلام وأتباعهم الذين يقومون بالقسط، حتى لا يحيف بعضنا على بعض، وحتى يتحقق التوازن المنشود.

وعن دواعي هذا التخليق بيَّن الدكتور أحمد عبادي أن المقاومة التزكوية تُعد أوسع وأشمل ضروب المقاومة؛ ذلك أن من أهم ما يقاوم به الإنسان نفسه، هو -بحسب تعبير الباحث الأخلاقي الدكتور طه عبد الرحمن-: “مقاومة التسيّد”، وتزكية النفس هي المقاومة المطلوبة، قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم) [الجاثية:22]، وقال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس:7-10]. وأمام طلب الرياسة والاستكبار المحلي والعولمي، يُراد لنفس الإنسان -أوتريد هي- أن تنسحق فتقاوم، وهذه المقاومة في نظر ليست عبثية، ولكن ـ كما بين ذلك الدكتور أحمد عبادي ـ لها مناهجها ووسائلها، التي وجب أن تعلم وتعرف.

من جهة أخرى أكد فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي أن التخليق في يكون ميالا لتحقيق المصلحة الذاتية والعامة في مجتمع ما، ولا يمكن أن تكون منفصلة عن المرجعية التي تحددها، ومن ثم وجب وضع الميزان بين المصلحتين، وميزاننا المصلحي محكوم بمرجعيات ثلاث: مرجعية دينية، ومرجعية وطنية، ومرجعية الفرد، ولكل واحدة من هذه المرجعيات إملاءات ومتطلبات ومقتضيات.

وبخصوص المرجعية الدينية أشار الدكتور أحمد عبادي إلى أنها تحكمها جملة من العوارض، وأن التعامل مع النص المؤسس فيه عوارض أطرتها مشيخة علمائنا في التعامل معه، انطلاقا من القول المأثور: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، وأنه هو المرجعية للتخليق، ويمكننا المتحُ منه برشد، فهو نص تخليقي بامتياز، فكل حكم تشريعي تحته خلق كريم، وهو نص مصلحي يضع مصلحة الإنسان في اعتباره، مصلحة قد تم تأطيرها أيضا فلا هي تعارض قرآنا ولا سنة ولا قياسا ولا مصلحة أولى منها. وقد استفرغ علماء المقاصد -من أمثال العز بن عبد السلام، وأبي إسحاق الشاطبي وغيرهما- جهودهم في الربط بين الحكم الشرعي وأبعاده الأخلاقية، ليؤكدوا مـن -خلال ذلك- على أن المقاربة التكليفية والمقاربة التخليقية للشريعة كل لا يتجزأ، وأن الوصل بين البعد التكليفي والتشريعي، والبعد التخليقي والتزكوي أصبح ضرورة لحل كثير من إشكالات الفقه والقانون والأخلاق والتربية.

أما فيما يخص “المرجعية الوطنية” فقد أشار السيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء إلى أنه كان لبعض الظواهر داخل المنظومة الفكرية الغربية كالستالينية والموسولينية والهتليرية، أثر بالغ في خلخلة التوازن الذي ينبغي أن يحكم المصلحة الفردية والجماعية، فكثير من مظاهر التهميش في المجتمعات ساهمت في ظهور الانهيار الأخلاقي -كما عبر عن ذلك كثير من الباحثين في علم الاجتماع-، ومن ثم كان لا بد لهذه المرجعية أن تُؤطَّر بأطر أخلاقية حتى تبتعد عن الاستبداد.

ثم قدم المحاضر نموذجا للميزان الإسلامي الذي يوازن بين المصلحتين عند حديثه عن المرجعية الفردية، مستندا إلى حديث “السفينة”، الذي وضح الرؤيا في خصوص التوازن المطلوب على هذا المستوى؛ ذلك أن “التسيد” و”حب النفس” و”الحفاظ على مصلحة الفرد” يتعارض مع أخلاقيات الجماعات، إذ الجماعة والفرد طرفان أساسيان في معادلة التوازن التي يشير إليها الحديث المذكور، وخدمة الفرد لا تتأتى إلا إن قُدم جانب الجماعة وروعي.

هذه المرجعيات التأطيرية للمصلحة -كما نبه عليها الدكتور أحمد عبادي- لا غنى عنها في تكاملها وتداخلها لضبط العمل بقصد تصريف وتحقيق هذا التخليق؛ ومن ثم فإننا حين نصل إلى وضع وخلق مؤسسات لمحاربة الظواهر الاجتماعية (الرشوة، نهب المال العام، وما إلى ذلك….) دون وضع اعتبار للوصل بين الأحكام التشريعية وحتى القانونية الوضعية وبين الأخلاق والقيم، فلا نطمع في تحقيق نتائج كبيرة في هذا الاتجاه…

وفي نفس الإطار قدم الدكتور أحمد عبادي فكرتين أساسيتين عدهما من أحدث ما يتفتق عنه الفكر في خصوص هذا الموضوع:

– أولهما: أن محاولات التخليق إذا لم تكن مغروسة على مستوى:الوعي، والتشريع، والتنظيم، والتمكين، والتعيين، والتنزيل، والتقويم، فإن هذه المحاولات لن تجدي نفعا.
– ثانيهما: أن التأكيد على الدور المحوري والجوهري لكل من الأسرة، والمدرسة، والإعلام، و المؤسسات الحزبية، وجمعيات المجتمع المدني، والمسجد في التنظير والتنزيل لمفاهيم وقيم التخليق أمر ضروري وملح.

وفي ختام محاضرته قدم الدكتور أحمد عبادي جملة من المقترحات العلمية، اعتبرها الطريق نحو تحقيق تخليق حقيقي للحياة، أوصلها إلى ثمانية عشر مقترحا وملحوظة سطرها كالآتي:

1- أن وظيفة التخليق وظيفة متقاسمة بين مختلف المراكز المجتمعية.
2- أهمية الاشتغال بنقش رؤية مشتركة متملِّكة ومتملَّكة، متملِّكة للمعطيات ومتملَّكة من قبل الساكنة ومن كل الفئات الاجتماعية مع تحليل واضح للأدوار والمسؤوليات.
3- إيلاء منظومة التربية والتكوين أهمية خاصة بهذا الصدد.
4- الارتقاء البيداغوجي بالأخلاق في التعلمات وفي مسالك التقويم.
5- مراعاة مبدأ التدرج في ملاءمة المناهج والبرامج والتعلمات لمتطلبات غرس الأخلاق في الناشئة بجمالية وحرية ومسؤولية.
6- اعتماد المنهج العلمي في الرصد والتتبع والتقويم للبرامج.
7-  المساهمة في بناء المعرفة العلمية والميدانية بواقع مجتمعنا ورصد السلبيات والإيجابيات.
8-  فتح نقاش حول الأطر  التعاقدية في الجانب الأدائي بين مختلف بؤر المسؤولية المجتمعية.
9-  إطلاق أوراش بيداغوجية ميدانية يشارك فيها كل المعنيين المباشرين وغير المباشرين.
10- إعداد برامج مبتكرة لنشر الأخلاق (بنود إجرائية معروفة).
11- تعزيز التفكير الجماعي المنظم (إطلاق التباحث الوطني).
12- تعزيز موقف الأسوة في الفعل التخليقي (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)[الأحزاب 20] .
13- الاطلاع على التجارب الناجحة وا لناجعة في هذا الصدد والتحفيز على الخدمة التطوعية.
14-  إطلاق وتشجيع آلية التثقيف بالنظير.
15- إطلاق الإبداع في جوانب الاهتمام الفني بالبعد التخليقي.
16- سن قواعد لتثمين  وتشجيع الابتكار الفردي والجماعي (ثقافة الاعتراف).
17- رصد الموارد البشرية  من حيث التكوين والمالية مون حيث الإنفاق على هذا البعد التخليقي.
18- إحداث آليات للرصد والتتبع والتقويم.

                                                                                        متابعة الباحثين بالمركز
                                                                                        تحرير وتنسيق الباحث 
                                                                                           يوسف الحزيمري   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق