مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامة

جدلية التقليد والتحرير، في علاقة النساء بالمجتمع

 نادية الشرقاوي

تعددت طرق الحياة العصرية، وتغيرت الأهداف والمطالب، وأغلبها في حقيقتها مادية تغذي الجانب الظاهر في حياة الإنسان، من ملبس ومسكن وترفيه… وتركز على الشكل أكثر من الجوهر، وكل هذا يسير بوتيرة سريعة تحاول أن تساير التقدم والعولمة والانفتاح على حساب الأخلاق والقيم التي يغرسها الدين في المجتمع، لدرجة أن هذه المسايرة تكاد تطمس السمات والمميزات الذاتية لكل إنسان، لتصنع نموذجا أحاديا للجنس البشري، يشترك في السمات الظاهرة والخصائص العامة.
هذه صورة مبسطة لمجتمع القرية الواحدة  التي أفرزها نظام العولمة، يكاد يشترك فيها الغني والفقير، المتعلم والأمي، والكبير والصغير، والرجل والمرأة.. كل على حسب قدراته.
وإذا استثنينا البعض ممن يحاولون التمسك بالقيم التي لا تُفقد الإنسان إنسانيته سواء كان رجلا أو امرأة، ويقاومون هذا الانحدار الأخلاقي الذي استشرى في الفئات المكونة للمجتمع، سواء بالكتابة عن القيم والأخلاق، أو محاولة البحث عن القدوة أو النموذج الذي ينبغي لنا أن نحذو حذوه. فإننا نرى في وسائل الإعلام السمعية والبصرية، ذات التأثير المباشر على عموم الناس، دورا كبيرا في ترسيخ هذه الموجة الفكرية الحديثة، والمرتبطة أساسا بالحضارة الغربية التي ركزت كثيرا على الجانب المادي والظاهري، وغيَّبت المفهوم الحقيقي للإنسان السليم الذي ينبغي أن يعيش على الموازنة بين الروح والجسد فيعطي لكل جزء حقه.
ولا ننسى أن “المرأة” ذلك الجزء المهم في هذا المجتمع، تعيش لحظات “الانتفاضة على الذات”، وتحاول أن تفك القيود التي وجدتها حولها لتغير نمط عيشها، وتبحث عن الحل خارج دائرة المجتمع الذي ألِفت العيش فيه، وتبحث عن البديل، أو بكلمة أخرى فهي تبحث عن “النموذج الغربي” للإقتداء به فهي ترى فيه نموذجا متحررا ومخالفا لما ألفته في مجتمعها.
وقد أفرزت هذه التغييرات في المجتمع علاقة تنافر بين الرجل والمرأة، وأصبحت بعض النساء ترى في الرجل منافسا لها، لأنها تعتبر “أن تحررها إنما يمر عبر الصراع ضده، وضد منظومة القيم الإسلامية والشرقية، التي تزاوج بين إنصاف المرأة وتحريرها وبين بقائها أنثى، تحافظ على فطرة التمايز بين الإناث والذكور”[1]، ويصف الدكتور محمد عمارة الوتيرة السريعة التي تطورت بها هذه الأفكار فيقول:” ولقد تطور هذا النموذج، في العقود الأخيرة من القرن العشرين كأثر من آثار تزايد جرعات التقليد والتبعية للحركات النسوية الغربية، التي زاد وتصاعد تمحورها وتمركزها حول الأنثى والنزعة النسوية، إلى حيث أصبح التحرر من كل المنظومات الدينية والقيمية الإيمانية والحضارية والفلسفية والإجتماعية والتاريخية -بما في ذلك التحرر من الأسرة، بشكلها الشرعي والتاريخي- سبيلا “لتحرير” النساء.”[2]
وفي مقابل هذا الواقع، نجد من يحاول تكريس ذلك الوضع، الذي تشتكي منه النساء، وتلك التصورات المتشكلة عن المرأة وقضاياها. وليضفي المصداقية على مواقفه هاته، فهو يمزج بين الموروث الثقافي وبين مبادئ الإسلام السامية التي جاءت لتحرر الرجل والمرأة على السواء، وهذا في حد ذاته يسيء إلى القيم التي دعا الدين الإسلامي إلى التمسك بها لتحقيقها في مجتمع متوازن وعادل، فأصبحنا بذلك بين طرفي نقيض، كل يدعو جهد المستطاع إلى مذهبه ويعتبره النموذج الأمثل لتحقيق الذات.
والحقيقة أن لكل داء دواء، فبين الإفراط والتفريط، وبين الغلو الديني والغلو اللاديني، هناك الأمر الوسط الذي يوازن بين الكفتين، وهو منهج الوسطية والاعتدال الذي يتجنب الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير، وهو ما نراه جليا بين دفتي كتاب الله تعالى من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، وواضحا في السنة النبوية الشريفة في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
فبالرجوع إلى المنابع الأصلية لديننا الحنيف، نجد الإسلام يحذرنا من آفة الغلو الخطيرة التي تكون سببا في هلاك المجتمعات، قال تعالى:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾[3]، وفي نفس الوقت يدعو إلى التوسط في الأمور كلها قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾[4]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلك المتنطعون” قالها ثلاثا)[5]، والمتنطعون هم المتشددون في أمورهم الدينية أو الدنيوية، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” يا أيها الناس إياكم والغلو في الدِّين، فإنه أهلك من قبلكم الغلو في الدين”[6].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة لهذه الأمة، قدوة في أفعاله كلها، فقد كان خُلقه الاعتدال والوسطية واليسر، وهذا ما شهد به زوجاته أمهات المؤمنين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:” ما خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا.”[7]، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق، فقال عليه الصلاة والسلام: “إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق”[8].
فهذه الأمة التي وصفها الحق عز وجل بالأمة الوسط في كتابه العزيز:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[9]، وقال عنها الحق سبحانه وتعالى في محكم تنزيله أيضا: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[10]، لا ينبغي أن تكون لا من دعاة التفريط ولا من دعاة الإفراط، ولا من دعاة الغلو أو التقصير، ومعالجتها للأمور الشائكة لا تكون انطلاقا من الحمية التي تُبقي الأمور على حالها بل تزيدها تعقيدا.
ولتحقيق النهوض بهذه الأمة وإصلاح حالها من السيئ إلى الحسن بل والأحسن أيضا، يجب النهوض أولا بالمرأة التي تمثل الشق الأساسي والجزء الرئيس المكون لها، والعمل على إصلاح حالها انطلاقا من المنهج الإسلامي الوسط، بدل تهميشها أو معاداتها.
كما يجب أن تمارس النساء حقوقها وواجباتها، التي حفظها لها الشرع في هذا المجتمع حتى يتسنى لها أن تأخذ موقعها من المشاركة في العمل الاجتماعي العام، اقتداء في ذلك بالنساء الرائدات اللائي شاركن في التحرير الإسلامي للمرأة، وفي بناء الدولة الإسلامية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا في عهد النبوة، وتركوا بصماتهم في التاريخ الإسلامي، أمثال أمهات المؤمنين خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم، والصحابيات الكرام كأسماء بنت أبي بكر والشفاء بنت عبد الله وأم هانئ فاختة بنت أبي طالب وأم عمارة نسيبة بنت كعب والقائمة طويلة…
فهذا هو التحرير الذي يدعو إليه الإسلام، التحرير الذي تشارك فيه النساء والرجال على حد سواء للنهوض بالمجتمع، وهذه أمثلة من النماذج التي تشكلت مع شروق شمس الحضارة الإسلامية، وجسدت الإسلام في أرض الواقع بقيمه وأخلاقه وسلوكياته، ومهدت لحضارة صمدت قرونا من الزمن وأفرزت علماء في مختلف ميادين العلم سواء العلوم الشرعية أو العلوم الإنسانية أوالعلوم البحتة.

________________________________________
[1] “التحرير الإسلامي للمرأة- الرد على شبهات الغلاة” محمد عمارة، دار الشروق الطبعة الثانية 2001م، الصفحة:6.
[2] المرجع نفسه، الصفحة: 7.
[3] سورة المائدة، الآية 77.
[4] سورة الفرقان، الآية: 67.
[5] رواه مسلم 2670.
[6] رواه أحمد والنسائي وابن ماجة
[7] موطأ الإمام مالك، كتاب الجامع، باب حسن الخلق، رقم: 1671.
[8] مسند الإمام أحمد، باقي مسند المكثرين، رقم: 27318.
[9] سورة البقرة: الآية 143.
[10] سورة آل عمران، الآية 110.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق