تلازم السلوك الصوفي والاعتقاد الأشعري في التدين المغربي وَصل بعد محاولة فصل
إذا جاز لنا أن نتحدث داخل إطار الممارسة التدينية بالمغرب عن نموذج مغربي في التدين متفرد له مقوماته وخصوصيته التي تمييزه عن غيره، فإن بيان ذلك موضوعيا يظل مفتقرا إلى توضيح تجليات تلك الخصوصية، كما يتطلب ذلك البيان بدل المزيد من الجهد لرصد مظاهر المخاض الصعب الذي مر به هذا النموذج التديني المغربي قبل أن يتجاوز طور الاتباع والتلمذة من المشرق إلى طور التميز والإبداع والاستقلال عن تلك التبعية، واستكمال المقومات الذاتية.
وباستعراضنا لما وصلنا من تراث صوفي أشعري مغربي نجد طابع تلازم السلوك الصوفي والاعتقاد الأشعري في التدين المغربي بارزا لا يحتاج إلى التمثيل، غير أن الباحث في البدايات الأولى لتشكل هذا التلازم في النموذج المغربي للتدين غالبا ما يواجه بفجوات أشبه بحلقات مفقودة في سلسلة هذا التاريخ، مما يفتح الباب أمام مجموعة من التأويلات الإسقاطية التي تتسم في الغالب الأعم بالغموض والشمولية ولا تقدم الصورة الدقيقة لمعالم هذا النموذج المتميزة.
من هنا تأتي ضرورة استدعاء جل المعطيات المبعثرة والمبثوثة بين ثنايا المصادر الكلامية الأشعرية ومدونات السلوك الصوفي المغربية الأولى التي ليست مجرد مصادر ومدونات انحصر دورها في اجترار واستنساخ ونقل معارف ومضامين عقدية وقواعد سلوكية من بيئة مشرقية ونشرها وسط بيئة مغربية، بقدر ما هي مرآة تعكس خصوصية التدين والإبداع لدى الإنسان المغربي.
ولتسليط الضوء عن هذا التلازم والتلاحم بين منظومتي السلوك والعقدية في التدين المغربي أرى لزاما الانطلاق من دعوى ومحاولة الاشتغال بالتدليل عليها وهي: أن صوفية المغرب – ومند مرحلتي التأسيس والترسيم- طبعوا الفكر الكلامي الأشعري بطابعهم الخاص، وطوروا الدرس الأشعري وبثوا الروح والحيوية في مضامينه وفق منهج يراعي أصناف المتلقين وخصوصياتهم المحلية.
ولبسط الكلام والتدليل على هذه الدعوى وإثباتها سنستند إلى ثلاث مقدمات كبرى:
1- لنسلم أن المغاربة اهتموا بالجانب العملي والأخلاقي في الممارسة الكلامية، وأن علم الكلام عندهم متداخل مع التصوف بل ركزوا جهودهم كلها في سبيل ترسيخ اعتقاد سليم يجمع بين النظر والاشتغال بذكر "لا إله إلا الله" الذي يوصل إلى التوحيد الشهودي والتذوق الجمالي الذي قال عنه الفقيه الصوفي عبد الواحد ابن عاشر في منظومته المرشد المعين:
وقــول لا إله إلا الله محمــد أرسلــــه الإلـه يجمع كل هذه المعـاني وهي أفضل وجــوه الــذكر كانت لذا علامة الإيمان فاشغل بها العمر تفز بالذخر[1]
لكن قد يقول قائل: أن صوفية المغرب هم عالة على المشرق في ميدان التنظري العقدي[2]، «وأن ملكة العلوم النظرية ...قاصرة على البلاد المشرقية ولا عناية لحذاق القرويين والإفريقيين إلا بتحقيق الفقه فقط...فشغلهم ما أخذوا فيه من كد العمل ...عن تتبع مواد التحقيق، إلى فقد الملكة النظرية»[3].
نعم قد لا ننكر فضل المشرق على المغرب، وعلو كعب المشارقة في مجال علم الكلام، وما خلفوه من مصنفات عقدية ومناظرات كلامية وخاصة مع المخالفين من أصحاب الفرق والملل والنحل الأخرى، غير أن الفرق بين المغاربة والمشارقة في هذا الباب هو أن احتكاك صوفية المغرب وتفاعلهم مع مختلف الاتجاهات الكلامية التي وصلت إلى أرض المغرب من خوارج وشيعة ومعتزلة وأهل الحديث وأشاعرة لم يطغ عليه في الغالب الأعم طابع الجدال النظري، بل جنح المغاربة في منهجهم التناظري نحو منطق التآلف والتوافق الفكري والمذهبي، ونبذ الغلو والجدال العقيم والإغراق في التجريد المؤدي إلى آفة التعقيد، مما مكنهم من فرض خصوصيتهم المحلية على هذه الاتجاهات الكلامية وطبعها بطابعهم الخاص والمتميز.
2- في محاولة بيبليوغرافية أنجزناها لإحصاء ما وصلنا من تراث أشعري مغربي، تبين أن ما يزيد عن %80 من هذا التراث هو من تأليف علماء مغاربة لهم مشرب صوفي واضح؛ ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك: جواب في معنى لا إله إلا الله لعبد القادر الفاسي (تـ 1091هـ)، وأجوبة لعدد من الأسئلة في قضايا تتعلق بالتوحيد والعقائد للحسن اليوسي(تـ 1102هـ)، ومنظومة في شعب الإيمان للطيب بن كيران (تـ 1227هـ)، ومنظومة في العقائد لمحمد بن عبد السلام الناصري (تـ1239هـ)، وشرح توحيد الرسالة لمحمد بن قاسم جسوس (تـ1182هـ)، ومختصر نظم الفوائد ومبدي الفوائد في شرح محصل المقاصد لابن زكري، وشرح توحيد ابن عاشر للطيب بن كيران...
3- لو تأملنا أهم البواعث التي دفعت بالعديد من صوفية المغرب إلى تصنيف معارفهم العقدية الأشعرية لوجدناها لا تخرجُ في سبب تأليفها عن ثلاثة مقاصد كبرى:
- مقصد التنقية والتقويم : نمثل له بمنظومات الفقيه الصوفي محمد بن علي أوزال (تـ1126هـ) المسماة بمنظومة "البدع" والتي شرحها الناظم نفسه وسمى شرحه : "تنبيه الإخوان على ترك البدع والعصيان " يقول أوزال في ديباجة منظومته : « فإني لــمــا قدمت من الزاوية الناصرية - عمرها الله تعالى بالعلم والتقوى وجعلنا ممن يحب أهلها ويقتدي بهم وينتفع بهم في الدارين أمين- إلى بلدتنا (يقصد إيندوزال بمنطقة سوس) وجدت أهلها، رجالهم ونسائهم، وقضاتهم وطلبتهم، يرتكبون من البدع والمنكر ما لا ينحصر، وضاق صدري إذ ذاك وتنفر طبعي عما رأيتهم عليه من مخالفة السنة التي كان عليها أهل الزواية »[4]. لقد سلك أوزال في منظومته هذه منهج أكابر العلماء المغاربة الذين يجمعمون في تدينهم بين السلوك الصوفي والاعتقاد الأشعري؛ فمنذ قراءة الأبيات الأولى من كلام الناظم تبدو مؤشرات الخطاب التربوي الصوفي حاضرة بقوة؛ ومنها توجيهه الخطاب للمتلقين بصيغ تحمل دلالات التحبيب والتبشير والتيسير، بعيدا عن جفاء اللفظ وتطرف المعنى، فلا يُبَدِّع ولا يفسق ولا يكفر أحدا، بل يستعمل ألفاظ من قبيل : احذر، تجنب، ابتعد ...
- مقصد التعليم والتوجيه: أغلب المؤلفات العقدية التي ألفها صوفية المغرب لا تخرج عن هذا المقصد العام؛ بمعنى أنها محكومة من حيث السياق بازدواجية المقصد (التعليم والتوجيه)؛ ومن بينها منظومة :"التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد " ليوسف بن موسى السرقسطي المراكشي المشهور بالضرير (تـ 520هـ)، ومنها برهانية عثمان بن عبد الله السلالجي (تـ574هـ) التي ألفها بطلب من المرأة الصالحة خيرونة (تـ594هـ)...
- مقصد التزكية والتسليك : استطاع صوفية المغرب بكفاءتهم العلمية والخلقية العالية وصل حقلين معرفيين هما العقيدة والسلوك؛ ونذكر من بين المؤلفات التي مزجوا فيها بين التصوف والعقيدة منظومة "المباحث الأصلية" للشيخ الفقيه أبي العباس أحمد بن محمد بن يوسف التجيبي، المعروف "بابن البنا السرقسطي"؛ ونذكر أيضا منظومة "بداية السلوك إلى بساط مالك الملوك" للشيخ لعبد الله العثماني أحد خريجي الزاوية الفاسية والمتوفى سنة (1027هـ) وهناك أيضا منظومة "التيسير مما انتخب من معاني التنوير" للشيخ محمد بن مسعود المعدري (تـ1330هـ).
الهوامش
[1] الدر الثمين والمورد المعين في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين المسمى بميار الكبير للشيخ محمد بن أحمد ميارة، دار الرشاد الحديثة الطبعة الأولى، 2007، ص 69
[2] دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص: 298.
[3] المقري أحمد أزهار الرياض، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1361هـ، 3/ 24-31.
[4] ديباجة منظومة "البدع" مخطوط خاص اللوحة 3