وحدة الإحياءقراءة في كتاب

تكاملية الفكر المقاصدي مع العلوم الإنسانية والاجتماعية

قراءة في كتاب: “الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية” للدكتور: عبد الرحمان العضراوي[1]

يشهد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر اهتماماً متزايداً بفكرة مقاصد الشريعة، حيث انصرفت جهود نخبة من الباحثين والعلماء في العقود الأخيرة[2]، إلى إبراز الأساس المقاصدي لأحكام الإسلام في العقيدة والتشريع والأخلاق…

والناظر في السياق التاريخي لمباحث مقاصد الشريعة، يلحظ جهدا مباركا في استبانة حلقاتها، والكشف عن مسالكها، وذلك منذ مرحلة التأصيل المرجعي مع نزول القرآن الكريم وترجمته العملية السنة النبوية، مرورا بمراحل: التأسيس النظري مع الرواد الأوائل من أمثال الإمام الترمذي الحكيم (توفي 320ﻫ)، والإمام القفال الشاشي الكبير(توفي 365ﻫ)، والإمام الأبهري (توفي 375ﻫ)، والإمام العامري (توفي 381ﻫ)، والإمام الباقلاني (توفي 403ﻫ)، وإمام الحرمين الجويني (توفي 478ﻫ)، والإمام الغزالي (توفي 505ﻫ)، والإمام الرازي (توفي606ﻫ)، والإمام الآمدي (توفي631ﻫ). ثم مرحلة الجمع بين التأصيل النظري والتفعيل العملي مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام (توفي660ﻫ)، والإمام القرافي (توفي684ﻫ)، وابن تيمية (توفي728ﻫ)، وتلميذه ابن القيم (توفي 751ﻫ).

ثم مرحلة النضج النظري والإبداع المنهجي مع اللوذعي الإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي (توفي790ﻫ)… وصولا إلى مرحلة الإحياء واستئناف الاجتهاد المقاصدي مع جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري إلى اليوم (الأستاذ علال الفاسي، والشيخ الطاهر ابن عاشور، والشيخ عبد الله دراز…)، وقد حاولت هذه الزمرة الكريمة تحقيق أهم نصوص هذا العلم، ومحاولة نقده، وقراءة محتويات أهم مصنفاته، تدقيقا وتركيزا على بعض قضاياه، واجتهادا في تجديد مضامينه، وتقريبها من التداول العام…[3].

بيد أنه ورغم ولوع الباحثين بفكرة المقاصد الشرعية فإن البحث انحصر في جزئيات محددة تكرر طرقها، كمسالك الكشف عن المقاصد، والمقاصد عند الشاطبي أو عند ابن عاشور، أو المقاصد عندهما.. إلى غير ذلك من المباحث التي لم تجاوز الهدف التقليدي المتمثل في تحليل الكتابات الموروثة في المقاصد؛ إذ انحصرت جهود الباحثين في شرح وتحليل نظريات المقاصد عند من عرفوا بها أو عرفت بهم، دون مجاوزة هذا الهدف المرحلي إلى تطبيق نتائج المقاصد على مباحث الفقه[4]، كما لم يلتفت إلى دراسة علاقة المقاصد بشعب المعرفة المختلفة، وما بينهما من تكامل معرفي، الأمر الذي يهدد المقاصد بالجمود.

إن تكثيف الجهود قصد الكشف عن ما بين الفكر المقاصدي والعلوم الإنسانية والاجتماعية من تكامل معرفي، من شأنه أن يفتح أمام الباحثين آفاقا جديدة في مجالات عديدة، وخاصة في مجال بناء العلوم والمعارف؛ فالفكر المقاصدي الذي يستغرق شعب المعرفة جميعا، بحيث يستوعب الوحي كإطار مرجعي وضابط منهجي، ويستنفر العقل ويشحذ فاعليته كوسيلة لفهم الوحي وفهم المجتمع والواقع، لتهديف حركة الأمة في كل مرحلة حسب إمكاناتها واستطاعاتها، بحيث يتم الاستخدام الأفضل للإمكانات، وتصبح قاصدة بعيدة عن الهدر والضياع والضلال.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نحسب أن الفكر المقاصدي، إذا أخذ سبيله إلى التكامل المعرفي مع شعب المعرفة جميعا، سوف يخلص العقل المسلم من الفوضى وانفلات الفقه والمعيار في التعامل مع الأحكام الشرعية، ويمكنه من حسن اختيار وتقدير الموقع المناسب للاقتداء والتأسي من مسيرة النبوة والأحكام المناسبة للمرحلة والحالة التي عليها الاستطاعة، فلا يصاب بالخسران والخيبة والإحباط لعدم استكمال تنزيل جميع الأحكام على جميع المجالات، بل يطمئن إلى أنه يطبق كل الأحكام الشرعية المناسبة للحالة والواقع والإمكانات، فهو بذلك مطبق للشريعة، متق لله بقدر استطاعته..

وهذا التطبيق الجزئي بالنسبة لشمول الشريعة المستطاع، المتناسب مع الحالة والواقع بالنسبة للفرد، هو السبيل للتحضير والتنمية للإمكانات والاستطاعات للارتقاء من الحسن إلى الأحسن، ومن الممكن إلى الصعب الذي يصبح ممكنا، ومن الصعب إلى ما يمكن أن يبدو في مرحلة ما مستحيلا، بحيث يصبح صعبا[5].

وسعيا إلى إبراز أصالة ما بين الفكر المقاصدي والعلوم الإنسانية والاجتماعية من معالم التكامل المعرفي ومظاهر التفاعل العلمي والتداخل المنهجي التي تؤسس منهجا حركيا يقوم على الانطلاق من الواقع إلى النص الشرعي، ومنه إلى الواقع، وبما أن حقل السياسة الشرعية محتاج إلى من يدرس مباحثه وإشكالاته من خلال رؤية مقاصدية، فقد سعى الدكتور عبد الرحمن العضراوي إلى إفراد كتابه: “الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية”، لمعالجة هذا الموضوع، والاحتجاج على أصالته، من خلال رحلة علمية ممتعة مع رواد أصول الفقه وعلماء مقاصد الشريعة قديما وحديثا. وإذ أن الموضوع يقتضي تأصيلا معرفيا ومنهجيا، فقد حرص الباحث على أن يتجاوز العموميات المسيطرة على من كتب في الموضوع من المحدثين واختار أن يفصل القول في العديد من القواعد والقوانين والأسس، كما ربط بين المقاصد التشريعية ومقصد العقيدة ومقصد الأخلاق، وذلك كله في وحدة متكاملة تبرز طبيعة التكامل القائم بين العلوم والمعارف في الإسلام.

كما آثر الكاتب العضراوي اقتحام هذا الموضوع الصعب، فعرض لمجموعة من المفاهيم والآليات التي تساعد العقل المسلم على تجلية مقاصد الشريعة في ميدان السياسة الشرعية، انطلاقا من المحددات المرجعية، وانتهاء إلى المحددات الوظيفية، مع إبراز آفاق تلك المقاصد بين يدي التطبيق لمختلف تلك المحددات والمبادئ متمثلة؛ في العدل والشورى والحقوق الفردية والجماعية، مع ما يتطلب ذلك من تنشئة سياسية قاصدة إلى غرس قيم المسؤولية والتعاون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج إنسان الكلمة الطيبة والموقف السديد.

وقد جاء الكتاب في شكله العام يضم مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. في مقدمة الكتاب، كشف الأستاذ عبد الرحمن العضراوي عن الأهداف التي وجهت مسار بحثه والمتمثلة في:

ـ صياغة منهج مقاصدي متكامل يؤسس علاقات معرفية قوية للمقاصد بالتأويل والتفسير والاجتهاد، بغاية تفعيل المقاصد الشرعية لترشيد الاختلاف العلمي والسياسي، وتوسيع آفاق الاجتهاد الشمولي الضروري لتطور الحياة وصلاح الإنسان.

ـ فقه الأسس الكلية والنهائية التي يقوم عليها الفكر المقاصدي، والمراد بهذا الفقه مجموع الوسائل النظرية والمنهجية الهادفة إلى تقويم الفكر المقاصدي في تراكمه ومساره التاريخي ورؤاه المستقبلية، وضابطه الاهتمام بالمعاني الشرعية على قدر اهتمام الوحي بها. وهذا من شأنه التمكين من صياغة مشروع حضاري يستحضر الماضي ويستكشف الواقع.

ـ السعي إلى تطبيق تلك المفاهيم والمبادئ والقواعد على حقل السياسة الشرعية، للوقوف على طبيعتها ومجالها ودور الاجتهاد المقاصدي في التأصيل لقواعدها، وبيان حدود الثابت والمتغير فيها، تنزيلا لأحكام الشرع، واهتداء بمقاصده، وذلك كله سعيا إلى تركيب إطار نظري للسياسة الشرعية من خلاله تتحدد مجالات خصبة لتطبيق المقاصد الشرعية فيها.

ـ العناية مباشرة بقضايا المقاصد الشرعية دون فصل لها عن علم أصول الفقه، لأنه لا يمكن إحداث فصل بين أمرين مرتبطين بمقصد واحد هو فهم الوحي الإلهي، واستخراج الأحكام الشرعية منه باعتماد ما قوي دليله من الشرع والعقل. فبين علم الأصول وعلم المقاصد تحاور عميق ودقيق لا يثمر محصولا فقهيا ولا تنقيحا اجتهاديا ولا مناسبة معتبرة في تبدل الأزمان والأحوال إلا ببناء أصول الفقه على قواعد المقاصد والعكس[6].

أما فصول الكتاب الثلاثة فسنعرضها حسب ترتيبها، بشكل مفصل يتناول جميع الأفكار التي سعى المؤلف إلى تقديمها، مركزين على الأفكار المحورية منها، حتى يتسنى للقارئ الإلمام والإحاطة التامة بمضمون الكتاب.

1. قضايا الفكر المقاصدي

   كان هذا عنوان الفصل الأول من الكتاب، وقد اشتمل على أربعة مباحث، جاء الأول بعنوان: “مفهوم الفكر المقاصدي”، مهد له الأستاذ العضراوي بالقول: “إن النظرة المقاصدية التي يقوم هذا البحث بتبيان قضاياها وأسسها تكشف أن الفكر المنبثق من الوحي فكر تتكامل فيه أصول معرفية متعددة لا تقبل التجزيء في تفسير علاقة الإنسان بالله تعالى وبالطبيعة أو الوجود، وتتمثل الرؤية التجزيئية في الفكر الذي تقتصر تصوراته المعرفية على النظر في علاقة الإنسان بالوجود فقط.

 وقد ظهر هذا واضحا من وسائل المعرفة التي انصبت على العقل الإنسان عند العقليين، وعلى حواسه عند الحسيين، وشاركهم البرجماتيون بالركون إلى حواس الإنسان كمصدر للمعرفة، ثم جاء الحدسيون ليردوا شيئا من الاعتبار للحدس والوجدان. إن هذا التصور مهما يحقق من منافع فإنه يخنق الإنسان ويجعل له متنفسا واحدا هو علاقة الإنسان بالوجود، على عكس التصور الإسلامي الذي تبرز فيه عوالم معرفية يجد الإنسان فيها صدى لدواعي اهتماماته المعنوية والمادية، تلاحظ من خلال مفهوم الفكر في القرآن الكريم نموذجا..

 فهو يتنوع بحسب تنوع متطلبات الاستخلاف في الأرض من المعرفة الأخلاقية التي تقوم التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح، إلى المعرفة الكونية التي تقوم على اكتشاف العلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، وإلى ما يجمع المعرفتين، من حيث إن الملاحظ يستخلص أن المعرفتين تربطهما علاقة جدلية قوية إلى الحد الذي لا يستطاع فيه الفصل بينهما، فالمعرفة الأخلاقية تترسخ بالمعرفة الكونية وهذه يبحث فيها انطلاقا من المعرفة الأخلاقية، وهو ما ينسجم وقوله تعالى ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الاِنسان من علقٍ. اقرأ وربك الاَكرم. الذي علم بالقلم. علم الاِنسان ما لم يعلم﴾ (العلق: 1-5)[7].

وذلك تأكيدا من المؤلف، على معالم التكامل المعرفي بين المعرفة الشرعية والمعرفة الكونية، وما يترتب عن هذا التكامل من نتائج إيجابية تعود بالنفع على الإنسان الفرد والجماعة في دنياه وآخرته.

 بعد هذا التمهيد؛ ولأن مفهوم “الفكر المقاصدي” مركب إضافي من كلمتين، هما: الفكر والمقاصد، فقد عمل المؤلف على تحديد مفهوم الفكر، باعتباره أولا: أداة من جهة لاستقبال المعرفة المستفادة من الواقع المادي، ولاستثمار المعرفة المأخوذة عن طريق التلقين، ومن جهة أخرى أداة لإبداع المعرفة وتوليدها. وثانيا: كونه ذلك المضمون المبدع والعطاء الحضاري لمجتمع بشري ما وفق مرجعيته الحضارية والدينية واللغوية وارتباطا بشروط تاريخية.

وعليه فالفكر أداة ومضمونا عمل عقلي تشتغل فيه آليات ذهنية تتقوى فاعليتها وتتأصل قواعدها عن طريق تدبر المرجعية الحضارية وتحريكها نحو الدفع بالإنسان إلى مزيد من تحقيق استخلافه الأمثل في الواقع[8].

 كما عرف المقاصد الشرعية بقوله: هي الغايات المصلحية التي جاءت بها النصوص الشرعية لكي تتحقق في تناسب تام مع أفعال المكلفين بالجلب أو الدفع[9]. ولم يخلص إلى هذا التعريف إلا بعد عرض مفصل لمختلف تعريفات علماء الشريعة قديما وحديثا للمقاصد الشرعية.

ليصل إلى تحديد لمفهوم الفكر المقاصدي مفاده هو: الصناعة العقلية للمقاصد الشرعية التي منطلقها الوحي ومنتهاها التنزيل في الواقع، فالفكر المقاصدي قانون تنظيمي للفكر المسلم، باعتبار أن المقاصد الشرعية منهج لفهم القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومنهج تطبيقي وتنزيلي للأحكام الشرعية والتصورات الإسلامية في الواقع[10].                                                                                                                                                           أما المبحث الثاني فقد جاء بعنوان: “مقاصد الوحي مفهوما ومنهجا”، أشار فيه المؤلف إلى أن مقصود الوحي هو: الغاية المصلحية المقتضبة من مضمونه الشمولي الجامع لكافة المعاني، ويعتبر أصلا مصلحيا كليا يتفرع عنه الفعل الاستخلافي الذي يؤسس قوانين المحافظة على الإنسان ذاته وقوانين اجتماعه، ويفتح أبصار الإنسان على آفاق النفس والكون، فيمنحه الرؤية العلمية السليمة والمنهجية المتكاملة التي تمكنه من الشهود الحضاري على مختلف الأصعدة[11].

وقد قرر المؤلف أن لمقصود الوحي بهذا المحتوى التركيبي، معادلا دلاليا في الوحي ذاته هو مفهوم “الحكمة”، الحكمة بمفهومها العام وليس الخاص الذي استخلصه الشافعي من تتبعه لبعض الآيات الواردة في الذكر الحكيم ليصل إلى أن المقصود بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكون الحكمة معادلا دلاليا لمقاصد الوحي معناه أنها فهم لجميع مقاصد الوحي، كما أن مقاصد الوحي هي فهم لجميع الحكم التي جاء داعيا لها ليقوم الناس بالقسط، وللظفر بتحقيق العلم وإتقان الميزان لتكون التصرفات على أتم الأحوال[12].

وقد أبرز المؤلف في هذا المبحث مدى اهتمام علماء الأمة بمقاصد الوحي، الذين أبرزوها في سياقات مختلفة تفسيرية وفقهية وأصولية ولغوية وكلامية وغيرها. سياقات  تغيرت مع بعض العلماء المعاصرين، الذين بنوا اجتهادات منطلقها الوحي ودافعها تحديات واقعية جديدة وابتلاءات ذاتية وخارجية، وجاءت تلك الاجتهادات في سياقات مختلفة منها: سياق الإصلاح، سياق التفسير المقاصدي، سياق الإصلاح الاجتماعي والسياسي..وقد أشار المؤلف إلى أن المتتبع للعناية بمقاصد الوحي في سياقاته التاريخية القديمة والحديثة، يستخلص أن التعمق فيها يمكن الشخصية المسلمة من كسب العقل العملي الذي لا يقف عند التمثلات الذهنية والافتنان بالقول البليغ بالأماني والتغني، وإنما يركز بالقصد الأول على الفعل الممنهج المحكوم بالتدبر في تطبيق معاني الشرع أمرا ونهيا[13].

المبحث الثالث، حمل عنوان: “الأسس المعرفية للفكر المقاصدي”، ويقصد بالأسس المعرفية مرتكزات منشأ الفكر المقاصدي المستمدة من الرؤية المعرفية الإسلامية المفسرة للكون ووجوده والإنسان وغايته، والراسمة للحياة صورا إن حققتها فقد حققت الهدف من وجودها، واتسقت مع الحكمة من خلقها. فلا مصدر للمصالح سوى الوحي ولا محدد لحركتها سواه، ولا مصدر للمعرفة التي يولدها المكلف سوى التفاعل التام بين الوحي والعقل والحس. ومن هنا كانت العقيدة والفطرة والاستخلاف مداخل رئيسة للفكر المقاصدي[14].

وعلاقة المقاصد بالعقيدة، علاقة توليد، فلب الفكر المقاصدي هو الاشتغال بالغايات المصلحية التي جاء الشرع ليحققها في الوجود الإنساني والكوني، وهذا الاشتغال يستمد عمله المصلحي من الأساس العقدي الذي يرسم الإطار الشامل لحركة ذلك الفكر. ولما كانت العقيدة مركوزة في الفطرة الإنسانية فإنها لا تضعف ولا تتلاشى أمام ابتلاءات التاريخ، بل تقف سدا منيعا وجدارا واقيا في وجه التيه والضلال والصنمية والعدمية، لتفتح آفاقا وأبوابا للبحث عن المصالح والتطبيق المقاصدي[15].

أما علاقة المقاصد بالفطرة فهي علاقة نظر، وبناء النظر المقاصدي على مقتضيات الفطرة يعني العمل بمقتضى أن الأصول الفطرية هي التي خلق الله عليها الإنسان المخلوق لعمران العالم، وهي إذا الصالحة لانتظام هذا العالم على أكمل وجه، وهي إذا ما يحتوي عليه الإسلام الذي أراده الله لإصلاح العالم بعد اختلاله. والحاصل أن النظر المقاصدي في علاقته مع الفطرة يؤسس على أن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات به، وأن الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه.  وأصل ارتباط الفكر المقاصدي بالفطرة يتحدد في وصف الدين الحنيف بالفطرة، قال تعالى: ﴿ أرآيت إن كذب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى. كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ. فليدع ناديه﴾ (العلق: 13-18)[16].”

وعلاقة المقاصد بالاستخلاف علاقة فعل، والفعل المقاصدي هو الفعل الإنساني الصادر عن نية وقصد للتقرب إلى الله تعالى والإقرار بوحدانيته، وربوبيته وعبوديته، ثم تحقيق مهمة الوفاء بالعهد الإلهي والقيام بحق الأمانة الإلهية. والشرط اللازم والضروري في هذا القصد لإنجاح مهمة الاستخلاف يتمثل في أن يكون قصد المكلف موافقا لقصد الشارع في التشريع. فالاستخلاف وفاء عملي لقبول الأوامر والنواهي المشروط بالثواب والعقاب، وفعل مقاصدي ينظم كل حركة وسكون في حياة الناس، فعل متعدد المستويات والمنازل يبتدئ من إماطة الأذى عن الطريق إلى تحقيق أكمل الحضارة والعمارة وسياسة الناس بمقتضيات التوحيد والإخلاص، فمقاصد فعل الاستخلاف في الأرض أساسها العقيدة والفطرة والأخلاق وحقيقتها الإصلاح والإعمار والرقي عبر التفاعل مع الكون على خط العبودية لله تعالى[17].

المبحث الرابع والأخير من هذا الفصل كان بعنوان: “المبادئ التأسيسية للفكر المقاصدي”، وهي مادته التي يتكون منها، وتؤلف رسمه وإطاره التي تتوقف عليها مسائله العلمية وتتعلق بها حركته الكيفية المرتبطة بالأسس المعرفية التي سبق الحديث عنها، وقد حصر المؤلف هذه المبادئ في ثلاثة: الأخلاق والمصلحة والتعليل، قصر الحديث في مبحثه هذا على مبدأي الأخلاق والمصلحة، على اعتبار أن التأليف في التعليل قد عرف بعض الاستقرار، إضافة إلى أن الحديث عن الأخلاق والمصالح لا يخلو من إشارات إلى مبدأ التعليل.

وكون الأخلاق الكريمة مبدأ لمقاصد الشرع مقتضاه، حسب الكاتب، تداخل أخلاق الشرع ومقاصده، تداخلا تتشابك فيه مقاصد الأخلاق وأخلاق المقاصد، ويتأثر بعضها ببعض في المحافظة على مرضاة الله تعالى والعباد، فيحصل التكامل الذي يلاحظ في سياقه التفاعلي بناء علم أخلاق ينظر إلى الإنسان روحا ومادة.

ويذهب الدكتور العضراوي إلى اعتبار كل نظر معرفي لا يرتكز على أن مكارم الأخلاق لها شمولية المنهج الإسلامي، نظر تجزيئي لا يلاحظ قوة امتداد الأخلاق الإسلامية العظيمة في جميع أفعال الإنسان وتصرفاته وغاياته، إذ إن مكارم الأخلاق معتبرة في المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية أصالة لا تبعا وذاتية لا تكميلية، فهي أساس مقاصد الشريعة الذي تتوحد فيه المقاصد الأصلية والتبعية، ثم تتأصل في النفوس علما وعملا، لأن موضوعها الإنسان من حيث هو عاقل حر الإرادة والاختيار[18].

وبهذا الرأي ينتصر المؤلف لرأي الأستاذ طه عبد الرحمان الذي بنى مشروعه التجديدي لمبحث مقاصد الشريعة على دعاوى، أولاها: أن علم المقاصد هو علم الأخلاق الإسلامي. والثانية أن علم الأخلاق الإسلامي يتكون من نظريات مقصدية متمايزة ومتكاملة فيما بينها. والثالثة، أن الأحكام الشرعية تجعل جانبها الأخلاقي يؤسس الجانب الفقهي، كما تجعل جانبها الفقهي يوجه الجانب الأخلاقي، وكل ذلك للتدليل على أن علم المقاصد علم أخلاقي موضوعه الصلاح الإنساني الذي هو قيمة خلقية[19].

في المبدأ الثاني من المبادئ التأسيسية للفكر المقاصدي، “مبدأ المصالح”، حاول المؤلف مناقشة العديد من القضايا الأصولية المرتبطة بالمصلحة، تعريفها، أقسامها، اتجاهات علماء الشريعة في العمل بها، بين المثبتين للمصلحة والرافضين لها، وقد تطرق المؤلف بإسهاب لنموذجين وسط المثبتين، نموذج الإمام مالك، الذي أخذ بالمصالح اقتداء بمنهج الصحابة رضوان الله عليهم وبمذهب أهل المدينة في اعتمادهم على المصالح، ونموذج الطوفي الحنبلي المتوفى 716ﻫ الذي يرى أن الاستدلال بالمصالح أقوى أنواع الاستدلال، وذلك من حيث إنه إذا كان حكم نص الشارع أو الإجماع لا يتفق والمصلحة التي يدركها العقل الإنساني ولا يستطاع الجمع بينهما، فالمعول عليه هو المصلحة.

وهو بهذا يخالف الإمام مالك الذي لم يعتبر الأخذ بالمصالح أقوى أنواع الاستدلال، كما أنه لم يشترط أن تكون المصلحة ضرورية أو كلية أو قطعية، وإنما يراعيها باعتبارها مقصدا عاما أو خاصا للشريعة. وهكذا، يقول المؤلف، يبرز نموذج الإمام مالك نظرا اجتهاديا متوازنا ومتوافقا مع المبدأ العقدي الإسلامي، قادرا على سبر أغوار النص الشرعي لفهمه واستنطاقه، واستخلاص الأحكام الشرعية المناسبة منه للوقائع المتغيرة، بينما نموذج الطوفي يبرز محتاجا إلى النقد والتقويم ليزال منه ما يمنك أن يؤدي إلى إهمال في العمل بالنصوص، وإعطاء أسبقية للعقل في تقرير مصلحة الإنسان، ولإيضاح أن مراعاة المصالح والمقاصد تتأسس على المبدأ العقدي الذي من مقتضياته العبودية الخالصة لله تعالى، وأنه لا حكم للعقل إلا بكونه كاشفا لا موجبا.

فيستنتج أن جلب المصالح وضمنها وسائلها ودفع المفاسد وضمنها وسائلها، منهج شرعي لا يتعارض وبدهيات العقل السليم وقطعياته، ويعمل على تحويل النظر العقلي مما ليس تحته عمل ومقصد إلى ما هو مثمر يحيي الشريعة في العقول والقلوب، لتسير على هدى مستقيم في تحقيق الاستخلاف، وهذا ما يثبت أصالة مراعاة المصالح مبدأ رئيسا للفكر المقاصدي[20].

2. القضايا المنهجية في الفكر المقاصدي

   جاء الفصل الثاني بعنوان: “القضايا المنهجية في الفكر المقاصدي”، ويقسم المؤلف هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث، خصص فيه المبحث الأول للحديث عن مناهج إثبات المقاصد الشرعية، معتبرا التأويل أولها؛ إذ لا يمكن تحديد مناهج معرفة مقاصد الشريعة إلا إذا حددت قواعد صنع التأويل في الشرع وحدود فعله في النص الشرعي.

وقد ناقش المؤلف أقوال من أبطل التأويل، المتوقفين عند حدود ما يقوله اللفظ، الرافضين صرف معناه إلى غير ما يدل عليه ظاهريا ولو بدليل (الاتجاه الظاهري في التفسير). مبينا خطورة هذا الاتجاه على معرفة مقاصد الشريعة، وضعف أفق العقل المسلم المتعامل مع النص الشرعي مما نتج عنه خلاصات وهمية مفادها أن الشريعة الإسلامية جامدة لا تكاد تفي حتى بعشر معشار حاجات الأمة ومتطلباتها في نوازلها المستجدة. وأقوال الذين يدعون أن مقصد الشارع ليس في ظواهر النصوص ولا يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هذا في جميع الشريعة، حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشريعة(الاتجاه الباطني في التفسير).وقد بين المؤلف خطورة هذا الاتجاه أيضا.

ولجعل المدلول التأويلي غير خارج عن دائرة الاتجاه المقاصدي، عمل أصحاب التأويل المقاصدي على تسييج التأويل بالمقايسس والقواعد التي تمنح مدلوله القيمة المصلحية النافعة للإنسان. وقد عرض المؤلف لمجموعة من هذه القواعد بتفصيل، نذكر منها: لا تأويل في النصوص القطعية. لا تأويل إلا بدليل. لا تعارض للتأويل مع المحافظة على مقاصد الشارع.

 إنها قواعد تجعل من التأويل آلية لمعرفة المقاصد الشرعية، وتجعل من الأخيرة (أي مقاصد الشريعة) آلية لضبط التأويل، فالعلاقة بينهما تلازمية تفرض نفسها على أي منهج تركيبي في النظر المصلحي داخل النص الشرعي وارتباطاته بالواقع المتغير لأفعال المكلفين[21].

 وفي سعيه لبناء منهج تكاملي لإثبات مقاصد الشريعة، اقترح المؤلف منهجا نسقيا يجمع بين متعلقات ثلاثة، يشترط أن تكون متكاملة خادمة لبعضها البعض لا واحدة أعظم من الأخرى، نسق يجعل العلماء حين كشفهم عن مقاصد الشريعة وإثباتهم لها ودفاعهم عنها ينطلقون من تصور شمولي للمقاصد مقصده إزالة الاختلاف السلبي والتعصب الفردي لطريقة خاصة أو طرق متعددة.

 ولكل من تلك المتعلقات منهج جزئي خاص: المنهج النصي: مبني على مبدأ التفاعل النصي. المنهج الاستقرائي: مبني على مبدأ التعاون والتعاضد بين النصوص. المنهج التجريبي: مبني على مبدأ التوظيف الحسي والاختبار. فهذه المناهج الثلاثة مستوعبة لكل الآليات الشرعية واللغوية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والمعرفية، جد مهمة في الكشف عن مقاصد الشريعة، بكل تقسيماتها الكلية والجزئية، الأصلية والتبعية..واعتماد المجتهد على تكامل الثلاثة وتفعيله لها من شأنه تنمية البحث العلمي في مقاصد الشريعة، وجعلها حاكمة على تغيرات الواقع ومحققة لمنافع المكلفين فيه[22].

ولأنه لا يكتمل منهج إثبات المقاصد الشرعية إلا بالنظر في منهج تنظيمها، فقد خصص المؤلف المبحث الثاني من هذا الفصل للحديث عن: “المنهج في تنظيم المقاصد الشرعية”، والمراد به مجموع المقومات المنهجية التي تضبط عملية ترتيب المقاصد وتنزيلها في الواقع، سواء في الوضع الأصلي الذي يسعى فيه المكلف لتحصيل المصالح كلها ودرء المفاسد كلها، أم في الوضع الاستثنائي الذي يقع فيه التعارض بين المصالح والمفاسد فيحتاج إلى آليات التوفيق والترجيح والجمع والتغليب والتخيير، ليتبين بها المكلف ما يجب فعله وما ينبغي تركه من المصالح والمفاسد، فيحقق أفضل المصالح وأعظمها ويدرأ أسوأ المفاسد وأشدها. ومن هنا كان هذا المنهج التنظيمي منهجا يبحث في أولويات المقاصد الشرعية وتنزيلها في واقع المكلفين الذي تتعارض فيه المصالح وتتزاحم المفاسد، لأسباب راجعة إلى الفرد المكلف ذاته أو إلى مجتمعه ووضع أحواله التدينية والمعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وقد تحدث المؤلف بتفصيل  عن المكونين الأساسيين لمنهجه التنظيمي، وهما: “منهج الأولويات” أو “فقه الأولويات”، الذي كان نصيب الاهتمام به متواضعا نتيجة لقلة الاهتمام بالنظر المقاصدي عند الأصوليين والفقهاء وغيرهم،  على أهميته في تحديد مواقع اتخاذ المصلحة دليلا شرعيا لمعرفة الأحكام الشرعية. و “منهج التنزيل” أو “فقه التنزيل”، الذي بدوره لم يحظ بعناية كبرى من لدن الأصوليين كالتي أخذها فهم النص الشرعي. وعدم العناية لا يمثل إلا جزءا من عدم العناية العلمية المستقلة بمقاصد الشريعة[23].

 أما المبحث الثالث فقد حمل عنوان: “القوانين الداخلية للفكر المقاصدي”، ومعناها عند المؤلف: الشروط الذاتية للفكر المقاصدي والتي تجعله شارحا بوضوح لرعاية المقاصد الشرعية في الاجتهاد العقلي المتعلق بقراءتي الوحي والكون، وبما أن حاصل الفكر المقاصدي يرجع إلى رعاية المصلحة التي لها تحقق في الخارج، والتي تتفق مع المحافظة على المقاصد الأصلية العليا أو مقاصد قريبة منها أو مكملة لها. فإن الشروط الذاتية للفكر المقاصدي هي مجموع القوانين التي ينبغي توفرها في المصلحة للاستدلال والحجاج في الفهم والتنزيل، وهي القوانين المخرجة للمصلحة من المعاني التي يخترعها الوهم والخيال، فليس شيء من الأوهام أو التخيلات بصالح لأن يعد مقصدا شرعيا.

وقد لخص المؤلف الشروط الذاتية للمصلحة في شرطين تناولهما بتفصيل، هما: شرط المناسبة، بما هي تحصيل المصالح وتعطيل المفاسد بالنسبة للمكلف. وشرط التغليب بما هو الأخذ بأحد أمرين أو بأحد أمور وتقديمه على غيره في الاعتبار لمزية تقتضي هذا التغليب.  مشيرا لضوابط المناسبة وقواعد التغليب عند الأصوليين وعلماء مقاصد الشريعة، ومبرزا أهمية الشرطين في الدفع إلى الاجتهاد في فهم النص الشرعي واستنطاقه لاستخلاص مصالح ضرورية متجددة محركة لأفراد الأمة نحو تحقيق مقصد الاستخلاف وحفظ ما لا يستقيم حفظ هذا المقصد إلا به[24].

3. تطبيق الفكر المقاصدي في السياسة الشرعية

    كان هذا عنوان الفصل الثالث والأخير من الكتاب، وقد اشتمل على خمسة مباحث، جاء الأول بعنوان: “نظرية السياسة الشرعية”، خصصه المؤلف للإطار النظري والتاريخي للسياسة الشرعية، حيث عمل على التعريف بمصطلح السياسة، ومصطلح الشرعية، متتبعا معانيهما في اللغة والشرع والاصطلاح، وبتعريف مصطلحي السياسة والشرعية تجمعت للمؤلف معان لتعريف مصطلح السياسة الشرعية، باعتباره مركبا يبرز علاقة جزئي، وهو السياسة، بكلي وهو الشرع.

مشيرا إلى أن تاريخ نظرية السياسة الشرعية هو تاريخ فعل حركي متجدد يأخذ بكل الوسائل الموصلة لرعاية المصالح ودفع المفاسد وانتظام الأحوال. وهو تاريخ الالتزام بالنظم الإسلامية باعتبارها مجموعة من الأحكام الشرعية التي فيها نص والتي لا نص فيها المنظمة لمصالح الناس تحت الحكم الإسلامي في السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع. وقد تتبع المؤلف تاريخ السياسة الشرعية بدءا بالعهدين النبوي والراشد، مرورا بتاريخها كما تبلور في تجربة الفرق الإسلامية شيعة وسنة، وصولا إلى تاريخ السياسة الشرعية في الأدب السلطاني[25].

 المبحث الثاني جاء بعنوان: “التطبيق في المحددات المرجعية”، ويأخذ هذا التطبيق قوته التنظيرية والتفعلية بحسب المؤلف من مرتكزين:

الأول: كون المحددات المرجعية والوظيفية ومنهج ممارسة السياسة الشرعية مقاصد شرعية نافعة ومسددة، شهدت بمقصديتها مناهج الكشف عن المقاصد الشرعية فهما واستنباطا واستقراء.

الثاني: وسيلة هذه المقاصد هي الفعل السياسي الشرعي الفعال المخرج لها من دائرة التمثل الذهني إلى دائرة التحقق العملي المنتج والواقعي المشهود.

ومن المحددات المرجعية التي جعلها المؤلف موضعا لهذا التطبيق، مقصد العقيدة ومقصد التاريخ. بخصوص المقصد الأول يقول المؤلف: فالقواعد الكلية العقدية مضمون ثابت، ومنهج متكامل، يملك العمل الاجتهادي على تنوع تخصصاته الفقهية والتاريخية والاجتماعية والطبيعية..فلا يدع تخصصا إلا عمل على تقريبه للناس بما يحقق مقصد تنزيل الكتاب العزيز على الرسول الكريم الذي يتلخص في هداية الناس وإخراجهم من عبادة أصنام سموها تسميات مختلفة، إلى عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد. وهذه الهداية تطبيق عقدي واتباع قولي وعملي في الواقع يكشف عن توجيه العقيدة لأفعال الناس، من خلال فهم النص وتفسيره وتأويله فهما وتفسيرا وتأويلا مناسبا لابتلاءات الواقع العرفية والسياسية[26].

ويشير المؤلف إلى إمكان النظر إلى عمل المقصد العقدي في السياسة الشرعية من خلال مكونين له، هما: الحاكمية وأخلاق العقيدة. على اعتبار أن الأول يمثل لب العقيدة الإسلامية من حيث إنه يفسر القواعد المنظمة لسيادة منهج الله تعالى في هذه الأرض التي جعل فيها الإنسان خليفة. وكون دور الثاني؛ (أي أخلاق العقيدة) في الفعل السياسي فعال ومحوري، فأخلاق العقيدة عماد السياسة الشرعية وروحها وصمام أمانها لاستمرار فعاليتها واستدامة قوتها الكامنة في قوة الالتزام بفعل ما تعنيه من واجبات ومندوبات والانتهاء عما تحدده من محرمات ومكروهات. وقد أبر المؤلف قوة ارتباط السياسة الشرعية بالأخلاق العقدية، واعتبار ذلك ضرورة للبناء الاجتماعي الاستخلافي، وهو بذلك يرد كل الدعاوى القائلة بفصل الأخلاق عن السياسة[27].

أما بخصوص المقصد الثاني: مقصد التاريخ، فيؤكد الأستاذ العضراوي على أهمية العلاقة بين التاريخ والسياسة، والتي التمسها في تقديم القرآن الكريم مادة تاريخية غنية بالدلالات المعرفية، وإن كانت، في نظره، هذه المادة مجملة، فهي مادة غنية تبوئ المعرفة التاريخية والمنهج التاريخي مكانة عالية في سلم البناء المعرفي والتربوي للإنسان. وقد رصد المؤلف مقصدين للتاريخ في ممارسة الفعل السياسي، هما: المقصد التربوي والمقصد المنهجي[28].

المبحث الثالث، تحدث فيه المؤلف عن “المحددات الوظيفية للسياسة الشرعية”، والمحددات الوظيفة آليات مقصودة شرعا، غايتها تنظيم السياسة الشرعية والسهر على تطبيقها. وقد حصر المؤلف هذه المحددات في ثلاثة وهي: الخلافة، والدولة، والأمة. مبرزا أهمية هذا الثلاثي في تحقيق نظام السياسة الشرعية في الواقع. ومشيرا لضوابط وشروط كل محدد من المحددات الثلاثة[29].

“التطبيق في المبادئ”، كان عنوان المبحث الرابع، وقد برر المؤلف تأخيره الحديث عن التطبيق في المبادئ عن التطبيق في الوظائف بقوله: أن المحددات المقاصدية هي قوالب مؤسساتية لصياغة المبادئ، وإبرازها دعائم لتنزيل السياسة الشرعية في الواقع. ومتى تحققت تلك المحددات الوظيفية اكتملت الخطوة المنهجية اللازمة لكشف المقاصد المبدئية وإخراجها من حيز القوة الفعلية والممارسة الدائبة.

 وقد توقف المؤلف عند ثلاثة مقاصد مبدئية هي: مقصد العدل، ومقصد الشورى، ومقصد الحقوق. مبينا أن لهذه المبادئ الثلاثة مقاصد وظيفية كبرى في إبراز بناء السياسة الشرعية، من حيث إن المنطق الشرعي وتنزيله يفرض أن يحي كل إنسان تحت مظلة سياسة عادلة هي قوام الدين والدنيا وسبب صلاح المخلوقين وميزان التناصف والتعامل. وأن يرى الفروض والمصالح العامة تدبر بالشورى والحوار وتغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة، بعيدا عن سلطة القهر والطغيان والاستبداد. وأن يتمتع بحقوقه الخاصة والعامة دون إغفال لواجباته الاستخلافية والتعميرية للأرض، وذلك بتفعيل كل مظاهر التكريم الإلهي للإنسان التي تدفع كل ذرائع الاستعباد والحرمان من الحقوق الفطرية والطبيعية[30].

وجاء المبحث الخامس والأخير بعنوان: “التطبيق في الممارسة ومقصد التنشئة السياسية”، وقد آثر المؤلف ختم كتابه بهذا المبحث، لأن مقصد التنشئة السياسية الشرعية له وظيفة عظيمة في مقصد الاستخلاف وفي تنظيم اجتماع المسلمين وربطه بالعمران البشري عامة، وبالنظر إلى عديد المقاصد التي تحققها التنشئة السياسية التي قوامها العقيدة السمحة والإدراك المعرفي العميق، كالشرعية، والمشاركة، والمحافظة على شخصية الأمة وهويتها. فالتنشئة السياسية عمل تربوي محض له اتصال عميق بالعلم وبمقاصد الشرع[31].

في خاتمة الكتاب عرض المؤلف أهم نتائج بحثه، وكان من أبرزها:

ـ يمثل الفكر المقاصدي نسقا من المفاهيم المستمدة من الشرع والواقع اولتي على أساسها يتم التمييز بين الثابت والمتحول في تنزيل الأحكام الشرعية.

ـ من أهم الأسس المعرفية للفكر المقاصدي: الفطرة والعقيدة والاستخلاف، كما أن الأخلاق والمصالح تعتبر من أهم المبادئ التأسيسية له.

ـ لا يقوم تمثل سليم للفكر المقاصدي إلا من خلال منهج في التنزيل يقوم على فقه الواقع وفقه المآلات.

ـ الفكر المقاصدي قابل لأن يطبق على مختلف مجالات حركة الإنسان والمجتمع[32].

بعد هذا العرض المفصل للكتاب، الذي حرصنا على أن يكون كذلك لسببين: الأول غزارة الأفكار التي تناولها المؤلف في الكتاب وتشعبها مع أهمية تفاصيلها، والسبب الثاني كون العرض بهذه الطريقة يجعل القارئ على إحاطة تامة بمضمون الكتاب، يمكننا القول بأن هذه الدراسة، تمثل أنموذجا للبحث العلمي الأصولي الجاد القائم على الاستقراء والتحليل والتجديد، فالمؤلف تميز بعمق التأصيل ودقة التحليل، مع القدرة على التفكيك والتركيب، ليخرج لنا بهذه النظرية الجامعة، وهي جديرة بالاهتمام من حيث فكرتها، وطريقة طرحها وعرضها، والمواضيع الزاخرة التي أثارتها، لتدرس بتعمق دراسة تطبيقية على النصوص للوصول إلى مقصود الشارع من النص في مجال هو من أخطر مجالات الحياة، مجال السياسة الشرعية.

 وبهذا تكون قد فتحت الباب لهذا الجهد بعد رسم معالم المنهج الصحيح في تطبيق الفكر المقاصدي على مختلف مجالات حركة الإنسان والمجتمع.

ومع أننا لا نختلف من أن الفكر المقاصدي يستبطن أبعادا على غاية من الأهمية في تشكيل العقل المسلم، وإعادة بنائه، وتفعيل حراكه الاجتماعي والسياسي. لكن هل بإمكان الفكر المقاصدي أن يحقق لوحده كل ذلك، وهو ما عجزت عنه العلوم الإسلامية مجتمعة؟

 الهوامش


[1]. عبد الرحمان العضرواوي، الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية، الكويت: وزارة الأوقاف، ط1، 2010م.

[2]. ففي العقدين الأخيرين من القرن المنصرم على وجه التحديد، كثر الكلام عن المقاصد الشرعية ومكانتها ودورها في استنباط الأحكام، وكانت جملة المواقف والآراء تتراوح بين ثلاثة اتجاهات:

 ـ الاعتماد المطلق على المقاصد، وجعلها دليلا مستقلا تثبت به الأحكام تأسيسا وترجيحا.

 ـ النفي المطلق للمقاصد، واعتبارها أصلا ملغى لا يلتفت إليه، ولا يقوى على مواجهة الأدلة والنصوص والإجماعات الشرعية.

 ـ التوسط في الأخذ بالمقاصد، والاعتدال في مراعاتها والتعويل عليها بلا إفراط ولا تفريط، وبلا إعمال مطلق أو نفي مفرط، وهو الموقف الأقرب للصحة والأليق بمنظومة الشرع ومقررات العقل ومتطلبات الواقع ومصالح الناس. انظر، نور الدين بن المختار الخادمي، الاجتهاد المقاصدي: حجيته.. ضوابطه.. مجالاته، ضمن سلسلة كتاب الأمة، قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، (1419ﻫ/1998م)، ج1، ص39.

[3]. أحمد عبادي، النظر المقاصدي وسؤال التجديد، مجلة الإحياء، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط: دار أبي رقراق، العدد 36، (جمادى الثانية 1433ﻫ/ماي2012م)، ص13.

[4]. عبد القادر بن حرز الله، التعليل المقاصدي لأحكام الفساد والبطلان في التصرفات المشروعة وأثره الفقهي، الرياض: مكتبة الرشد ناشرون، ط1، (1426ﻫ/2005م)، ص9.

[5]. عمر عبيد حسنة، من مقدمة كتاب: نور الدين بن مختار الخادمي، الاجتهاد المقاصدي، م، س، ص23-24 بتصرف يسير.

[6] . عبد الرحمن العضراوي، الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية، م، س، ص16.

[7] . المصدر نفسه، ص21.

[8] . المصدر نفسه، ص22-23.

[9] . المصدر نفسه، ص36.

[10] . المصدر نفسه، ص40.

[11] . المصدر نفسه، ص41.

[12] . المصدر نفسه، ص45.

[13] . المصدر نفسه، ص46-58.

[14] . المصدر نفسه، ص61.

[15] . المصدر نفسه، ص68.

[16] . المصدر نفسه، ص76-96.

[17] . المصدر نفسه، ص77-85.

[18] . المصدر نفسه، ص95.

[21]. انظر، طه عبد الرحمن، مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، م، المسلم المعاصر، ع، 103، السنة السادسة والعشرون، (1422ﻫ/2002م)، ص14-64.

[20] . عبد الرحمن العضراوي، الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية، م، س، ص110-112.

[21] . المصدر نفسه، ص115-130.

[22] . المصدر نفسه، ص131-155.

[23] . المصدر نفسه، ص156-199.

[24] . المصدر نفسه، ص200-236.

[25] . المصدر نفسه، ص250-273.

[26] . المصدر نفسه، ص275.

[27] . المصدر نفسه، ص289.

[28] . المصدر نفسه، ص290-299.

[29] . المصدر نفسه، ص300-325.

[30] . المصدر نفسه، ص326-365.

[31] . المصدر نفسه، ص366-374.

[32] . المصدر نفسه، ص2-377-381.

Science
الوسوم

د. محمد الناصري

باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق