مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأخبار

تقرير عن الملتقى العالمي السادس للتصوف

                                                        تحت شعار:                                                                              التصوف ورعاية الحقوق: المنهج والسلوك

     نظمت الطريقة القادرية البودشيشية أيام 11/10/9 ربيع الأول 1433ھ الموافق لـ 4/3/2 فبراير 2012م، بشراكة مع المركز الأورو متوسطي لدراسة الإسلام المعاصر، الملتقى العالمي للتصوف في دورته السادسة، بمقر الزاوية الأم بمداغ ناحية بركان، في موضوع: "التصوف ورعاية الحقوق: المنهج والسلوك"، بمشاركة نخبة من المفكرين والباحثين والمتخصصين في مجال الحقوق والشريعة والتصوف، من المغرب وخارجه، من بلدان مصر والأردن وفلسطين والإمارات العربية المتحدة، ومن فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا...، وغيرها من البلدان التي كان لها حضور متميز خلال أشغال هذا الملتقى الذي اكتسب صفة العالمية، لجديته في معالجة مواضيع العصر في ربط دائم بالتربية الروحية ودورها في إصلاح الفرد والمجتمع.

   هذا وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فقد تنوعت مداخلات السادة الأساتذة بين فروع مختلفة من المعرفة: قانون، اقتصاد، شريعة، فقه الواقع، البيئة، الإبداع الفني...، وغيرها من أبواب الفكر المختلفة في علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالتصوف، الشيء الذي سيجعل هذا التقرير مركزا على تغطية المداخلات الرابطة بين رعاية الحقوق والتربية الروحية.

    في البداية قدّمت الدكتورة ربيعة سحنون [1] تأصيلا لمفهوم حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية من خلال موضوعها المعنون ب: "التأصيل الشرعي لمفهوم رعاية الحقوق في الإسلام"، موضحة أسبقية الإسلام إلى الإقرار بحقوق الإنسان والحث على صونها، وأول من أحاط الإنسان بسياج من الرعاية لحقوقه، فهو دين الله الذي أقام المنهج المتكامل للحياة الإنسانية على قواعد ثابتة، وجعل له أصولا راسخة ومبادئ خالدة، بل إن الإسلام اعتبر التفريط في حق من حقوق الإنسان تفريطا في جنب الله تعالى، وتعديا على حدوده، وخروجا على سنة الله في خلقه.

  وبيّنت أن الباحث في القرآن الكريم والسنة النبوية لا يحتاج إلى مزيد جهد أو عناء ليكتشف ريادتهما في إعلان حقوق الإنسان، والتأسيس لمنظومة متكاملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تقرر تلك الحقوق، وتعزز تحقيقها وحمايتها.

   وأبحرت المتدخلة في رحاب القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من أجل الكشف عن الاهتمام الكبير لشريعتنا الغراء بهذا الموضوع من خلال التكريم الإلهي للإنسان واستخلافه في الأرض، فتميزت تلك الحقوق بالإلزامية والشمولية والثبات.

   وخلصت إلى أن الشريعة الإسلامية قد راعت جميع الحقوق وبجميع الاعتبارات، ولم تترك صنفا من الناس إلا ونصّ الذكر الحكيم على حقه، وفصّلت السنة النبوية ذلك وبينته، مما لم يوجد في دين أو منهج أو قانون غير الإسلام.

   وقارب الدكتور إسماعيل راضي [2] موضوع: "التزكية بين التخلي عن الفسوق والرعاية للحقوق"، مشيرا في بداية عرضه إلى بعض تجليات حقوق الإنسان بمفهومها الغربي، لينتقل إلى الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام المستندة على التكريم الإلهي للإنسان واستخلافه وعمارته للأرض، والمرتبطة بمفاهيم قيمية، كالأمانة والصدق والإخلاص والتسامح والصفح والعفو، والتي لا تنفصل عن حقوق الله لارتباطها بالشريعة التي تنظمها، فهي من الضرورات الإنسانية التي توجب الشريعة الحفاظ عليها: الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

   والسبيل الوحيد والنهج الأصيل في رأي الأستاذ المتدخل لتحقيق هذه الغايات الحقوقية هي التربية السلوكية التي على هديها أرسل الله الأنبياء والرسل للبشرية كافة، لأن أصل الأصول في الرعاية للحقوق هو علم التزكية القائم على الفضائل، فهو كالأساس للبناء: بناء الذات، بناء المجتمع، بناء الأمة...، وهذا ما اختص به رجالات التصوف في الحقل الإسلامي، إذ أننا لا نعثر على صوفي لم يتحدث عن سعيه للحق ورعايته للحقوق، بل يمكن القول إن ما يميز الصوفية في التراث الإسلامي كونهم السائرين إلى الحق وأهل الحق.

    فقد حوّل الصوفية مفهوم الحقوق إلى بؤرة وجودهم الجوهرية، وحاولوا في سعيهم العملي أن يجسدوا الحق ويتمثلوه في يقينيته، من خلال مصنفاتهم التي عبرت أصدق تعبير عن تمسكهم برعاية الحقوق: (الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، كتاب الصدق للخراز، اللمع للسراج الطوسي، إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي...).

   فالبداية الصحيحة في فقه السلوك والسير إلى الله عز وجل بعد إبلاغ الوحي هو التركيز على تنقية وتزكية القلب، لذلك قدمت التزكية على التعليم ليظهر أن العلم النافع يحصل بها لا بغيرها، فهي وراثة علمية نبوية لها أصولها ومبادئها وقواعدها كسائر العلوم الإسلامية التي هي مستمدة من مشكاة النبوة، لذلك ارتبطت الحقوق الفاضلة بالتربية والتزكية، إذ لا يمكن توقع ميدان آخر لبعث هذه الحقوق ورعايتها غير ميدان الروح والأخلاق.

    وفي مداخلة الأستاذ محمد أبو الهنود [3] المعنونة بـ: "العلاقة بين الحقوق الإنسانية والقيم الأخلاقية في ضوء القرآن الكريم"، وضّح المحاضر الهدف من دراسته المتمثل في الربط بين حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية في ضوء القرآن الكريم، مبينا ذلك من خلال ثلاثة عناصر: المقدمة، وبيان مفهوم الأخلاق وحقوق الإنسان في القرآن، مع توضيح الشبه والاختلاف الموجود بينهما.

    فالتصوف في نظره يأتي بالرياضة الروحية، وهو مُستمدٌّ من خُلُق الرسول عليه السلام وخلق الصحابة رضوان الله عليهم، مقدما بعض النماذج التي تظهر التكامل والتوافق الحاصلين بين الأخلاق ومفهوم رعاية الحقوق، فكلتا القضيتين جزء من الدين، وبالتالي لا بد أن تكون لهما تلك السمات التي تفرد بها القرآن، ليختم كلمته بالحديث عن أوجه الشبه من ناحية المفهوم الاصطلاحي المتمثلة في:

• النص الشرعي

• الصفات والقواعد والمبادئ التي تنظم علاقة الإنسان بغيره

• ارتباطهما بجوانب الحياة الأخرى

• علاقتهما بمقاصد الشريعة وهي حفظ الضرورات الخمس

• الثبات والأصالة والشمولية

   وتدخّل الدكتور عبد الكريم المرابط الطرماش [4] بموضوع: "منهج الصوفية في تأصيل الحقوق"، من خلال توضيح الخصوصية المنهجية الصوفية مع التأكيد على حقوق الله وحقوق العباد، متسائلا عن مصدر استمداد الصوفي لمنهجه في الحياة؛ فأفضل طريق لفهم حضارتنا هو الطريق الروحي، لأن التصوف في أصله ظاهر وباطن، الظاهر يتعلق بالآداب والأخلاق، والباطن يتعلق بالأحوال والمقامات.

  وبيّن الأستاذ أن للتصوف منطقا خاصا به في بناء قواعده وطرقه، فهو منهج رباني قويم متين في أواصره، يستمد قوائمه من الشيخ العارف بالله، وتنبني خصوصية المنهج الصوفي في نظره على التسليم والتصديق، فهو منهج يجمع ولا يفرق، وأيقظ الكثير من الغافلين، وهو إيقاظ للهمم لا تنويم للأمم، والدخول فيه هو خَلْق جديد، ليخلص إلى أن التصوف نظام أخلاقي، فهو مُوجّه ضد النفس ورغباتها، وقائم على قيم أخلاقية رفيعة كالصدق والإخلاص وغيرها التي تجعل منه نظاما أخلاقيا منفردا في بابه.

   أما كريمة بوعمري [5] فناقشت موضوع: "الهدي النبوي ورعاية حقوق الله"، مبرزة في البداية أن معرفة الله تعالى لا تقتصر على الدين فحسب، بل إنها جوهر الوجود الإنساني، ذلك أن بناء الإنسان لا يتم إلا على أسس التوحيد الخالص، فلا يمكننا اكتساب القيم الأخلاقية الرفيعة أو الانتهال من الفيض الروحي بعيدا عن نبعه الإلهي.

  فالإيمان شجرة تمد جذورها في أعماق الروح، فتتفرع منها غصون الاعتقاد بالألوهية والنبوة، وبأن هذا العالم قائم على العدل ورعاية الحقوق، مبينة ذلك من خلال ثلاثة عناصر:

• التوحيد الخالص عقيدة

• التقوى سلوكا

• معرفة الله تعالى المبنية على التوحيد الخالص

   ومتى اكتملت هذه العناصر علما وعملا وحالا، تحقّق التوحيد الذي هو روح الوجود الإنساني كله، وإلى هذا دعا أهل التصوف حتى أنهم لقبوا بأهل التوحيد وأهل التجريد وأهل التفريد، لتخلص الأستاذة المتدخلة إلى أن رعاية حقوق الله هي معرفته، ومعرفته هي توحيده وإتباع أوامره واجتناب نواهيه، وهذا لا يحصل إلا بصفاء القلب والذكر والتفكر.

  وتناولت الأستاذة أسماء المصمودي [6] موضوع: "إسهام الصلوات الصوفية في إبداع القيم والأخلاق الربانية، النموذج المشيشي"، متحدثة في البداية عن أهمية الكتابة في الصلاة على النبي عليه السلام، فهي من الفنون الإبداعية التي برع فيها الصوفية أكثر من غيرهم، ومرَدُّ ذلك أنهم عرفوا الذات الإلهية معرفة ذوقية قلبية، وصدقوا في محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

  فقد تخللت تلك المتون سمات فنية مهمة، موضحة أن اللغة الموظفة فيها لغة وظيفية فكرية نفسية تأثيرية إلهامية، وهذا ما انطبق على الصلاة المشيشية، ففيها ما يجسد هذا البعد الأخلاقي، من خلال شرح المحاضِرة لنصِّ النموذج المشيشي، المتميز بالانتقاء العباري والإشاري لألفاظه ومضامينه، في ربط بمسألة رعاية حقوق الربوبية.

   أما موضوع: "النظام التربوي الإسلامي ودوره الروحي في إصلاح الفرد ورعاية حقوقه" فقد عالجه الأستاذ رشيد العرجيوي،[7] متسائلا في فاتحته عن جدوى الحديث عن هذا الموضوع، ليجيب أن الدافع هو الشعور بالإحباط حول واقع الإنسان النموذج، الذي تقطّعت أوصاله وأصبح يطالب بحقوقه المشروعة.

   في ظل هذه الوضعية قارب الأستاذ المحاضر موضوعه من خلال ثلاث نقط:

• مصادر النظام التربوي المتمثلة في القرآن والسنة وآراء العلماء والصالحين العارفين بالله تعالى

• إبراز خصائص النظام التربوي الإسلامي، المتمثلة في التوازن والشمولية والإيجابية

• أهداف النظام التربوي ذات الفكر الواسع الشمولي

    وعليه كان لا بد من استحضار الثوابت، فإما أن تُتَبنّى هذه المصادر بحذافيرها وإلا فلا مجال للإصلاح، إذ لا يمكن أن تكون مسلما ومربيا ولا تتوفر على فكر شمولي نموذج، ولا ادعاء التربية من غير توازن عقدي فكري روحي؛ فمثل هذه القضايا تحتاج إلى عمل وتمثل وصبر لتحقيق الأهداف الإصلاحية، مع ردم الهوة بين الطرفين: ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وهو خوض غمار التجربة الصوفية.

   وعنون طارق العلمي [8] تدخله بـ: "مفهوم الحق من المنظور الصوفي"، مبرزا أهمية الحديث عن هذا المجال الشائك في عصرنا الحالي، الذي يعرف زعزعة اليقينيات، من خلال عمل تربوي متجذر في كيان المسلم، يشكل هويته ويستولي على شعوره، بما لا يدع مجالا لغيره في أن يحل محله، وذلك عن طريق ممارسة صوفية حقة تنزل بالسالك في رحاب مقامات القرب وصفاء اليقين، وتنعكس فيها إشراقات الباطن على سلوك المؤمن الظاهر، وتعطي رؤية متجددة للعالم كقبضة من نور الإيجاد للخالق سبحانه وتعالى، ومظهر للجمال الذي يأخذ من شعور العبد، إقرارا بالفضل، وإيجاب الشكر على الإنعام.

   وتمتاز المقاربة الصوفية في نظره في ممارستها لمفهوم الحق بخصائص متنوعة، من منطلق العمل على مستوى العمق الوجداني في تفاعله مع الخطاب الإلهي، يتنزل العبد بموجبه إلى إدراك أبعاد الحق وفق حركية متجددة تصحب السالك بارتقائه الروحي وحفرياته الذاتية، تتحول من خلالها الأشياء في رؤية العبد على أنها معاني قيمية، تستوجب مراعاة حقها بالنظر لإشارتها إلى العالم المطلق، وهذا العمق الوجداني الذي يتحصّل لدى السالك من خلال ممارسته التربوية التي تعطي لمفهوم الحق أبعادا تفاعلية يتكامل فيها الجانب الغيبي والواقعي، ويأخذ فيها مفهوم الحق بعده الشمولي.

وعلى هذا الأساس أجمل المتدخل خصائص الحق من المنظور الصوفي في ثلاثة أبعاد:

• البعد العمقي: وذلك عن طريق العمل على تحرير جوانب القصود والنيات، وتمحيص الخواطر بما لا يخرج عن الإرادة الشرعية، وهو ما يستدعي عملا تصحيحيا على مستوحركة القلب، وتوجيهها إلى العمل وفق الإرادة الشرعية وما تقتضيه المطالب الأخلاقية، فتتحد إرادة المكلف مع إرادة الشارع.

• البعد التكاملي: بمعنى أن رعاية حقوق الأشياء عند الصوفي تستمد قوتها من الجانب المعنوي الذي يستولي سلطانه على قلبه، فأهل الولاية يراعون الأشياء بمقتضى نسبتها إلى الخالق فينزلونها إلى مرتبتها التي تستحقها، كما يتعاملون مع الحق من خلال الخلق.

• البعد الشمولي : وهو أن جانب الحق من المنظور الصوفي يأخذ أبعادا شمولية، وينطلق من ذات السالك في تحققه بالأحكام الشرعية التي تشمل جميع تصرفاته، كوفاء بالتعهداالإلهية والمطالب الأخلاقية التي جاءت البعثة المحمدية لتكميلها.

    وفي ربط للتصوف بمجال الإبداع ساءل الدكتور عبد الوهاب الفيلالي [9] موضوع: "التصوف ورعاية حقوق الفن والإبداع الصوفي، الإنسان والمتخلق المبدع محيي الدين بن عربي نموذجا"، مفتتحا برأي مفاده أن الكتابة الإبداعية تضم خاصيات التكامل والتفاعل لا خاصية التضاد، ففي المسار العلمي الحديث أصبحت هذه النظرية تفرض ذاتها في الكثير من العلوم.

   وللحديث عن ارتباط التصوف بالإبداع وعلاقته بالحق ورعايته، انتقد الأستاذ المحاضر الرأي القائل –وهو لنصر حامد أبو زيد-  أن التجربة الصوفية هي موقف من الحياة يتسم بالازدراء والتعالي والترفع؛ ويفند هذا القول بأن التصوف: سلوكا ومنهجا وخطابا قمين بأن يمد الإبداع بالشيء الكثير، ويتساءل عن سر اهتمام المبدعين المعاصرين بالتصوف، فمنبع ذلك بعض الأسرار القائمة في الكيان الصوفي، من مثل:

• ثنائية الصدق الأخلاقي والصدق الفني

• الإبداع الصوفي هو النموذج الأمثل للتناغم بين الواقع والفكر والإبداع

• الانفتاح والتمادي هما سمة في المسار الصوفي بفعل طاقة الخيال الوهبي

• انضباط الإبداع الصوفي بنظيره الفطري الغريزي في الإنسان، القائم على أن للتصوف حقوقا على الإنسان يجب أن يراعيها، وعلى الإنسان حقوق على التصوف ينبغي أن يتفاعل معها، مع ارتباط هذا الضابط الغريزي بضابط المحبة.

    انتهى إلى نتيجة مفادها أن التصوف أخلاق، والأخلاق إبداع، والإبداع أخلاق، والعلاقة الجدلية قائمة مسترسلة، لأنها في كيان الإنسان بفطرته، وفي كيان ديننا الحنيف.

   وعن النموذج المقترح المتمثل في ابن عربي، والذي يظهر عنده مفهوم رعاية الحقوق من خلال حديثه عن القلب، واستناده إلى النص الشرعي، مع ارتباط الفكرة بالإبداع الروحي، وتمثّل البعد الروحي كسلوك وذوق وممارسة، ليخلص إلى أن الواقع الإبداعي من داخل السياق الصوفي هو عينه السفر الصوفي عند ابن عربي وغيره، فالتجربة الصوفية تجربة إبداعية، والتصوف من أسمى التجارب الإنسانية الربانية في المنهج والسلوك والخطاب.

  وتدخّل الدكتور عبد اللطيف شهبون [10] بموضوع عنونه بـ: "الرعاية لحقوق الله، قراءة في مدونة المحاسبي"، موضحا في بداية عرضه أن الثقافة الصوفية ثقافة حقوقية بامتياز، وعليه شكلت المنظومة الصوفية الباب لمعالجة الكثير من الاختلالات الموجودة في المجال الحقوقي الذي تجتذبه الجوانب المادية. فالثقافة الصوفية لبنة أساسية لبناء المواطنة، كما أن ثقافة الحقوق في بعديها العبودي والربوبي هي أعزّ ما يطلب الآن في واقعنا الذي تكتسحه العولمة.

   فقد رسم المحاسبي حسن الخلق هدفا، وعمل على تحقيقه في نفسه وفي مجتمعه، وهذا ما يفسر استمرار أريج كتبه المتجدد إلى الآن، فكتبه تعد مكونا من مكونات هذه القوة التداولية الهائلة، مردّ ذلك إلى قوة شخصية المحاسبي المتمثلة في القُوّتَين العلمية والمنهجية الظاهرة في مؤلفاته، التي تُجمِّع الرسالة الأخلاقية، بإشراكه لأهل الله تعالى في الدعوة الإصلاحية، مما يدل على تفكير جماعي.

   ويعد كتابه "الرعاية لحقوق الله" من أكبر الكتب التي وصلتنا، بل لعله في نظر القدامى والمحدثين والمعاصرين أهم ما خلفه المحاسبي، فقد حاول من خلاله شرح الطريق الذي يحقق الرعاية لحقوق الله تعالى، باتباع نسق حواري حي في تبليغ الأفكار وتبيين الحقائق، مستندا إلى الكتاب والسنة استنادا كليا، فرعاية حقوق الله تعالى في مُصنّف المحاسبي تحكمها حقوق العبودية وحقوق الربوبية، من هنا كانت الحاجة ماسة إلى مراجعة المنظومة الحقوقية في ظل التراث الصوفي، فإن المحاسبي لم يدرس بعدُ الدراسة التي يستحقها إلى الآن.

   وتتبّع بالدرس والتحليل الدكتور عبد المجيد الصغير[11] موضوع: "رعاية حقوق الإنسان بين التنظير الفقهي والتنزيل الصوفي"، مُبيِّناً نجاح الإسلام في التأسيس للمنظومة الحقوقية، من خلال التكريم الإلهي للإنسان، ومراعاة التكامل بين كل عناصر المجتمع، وتصحيح المفاهيم الخاصة بالدين والتديّن، فالحديث عن منظومة الحقوق يقتضي الحديث عن فلسفة دينية متوحدة  متكاملة.

  فقد نهل علماء الإسلام من القيم القرآنية مع اتخاذها نبراسا في إنشاءاتهم المعرفية، والقرآن الكريم يشدد على النزعة الإنسانية في تقرير حقوق الإنسان، مع تأسيسها على ضوابط كلية، لمنع أي استغلال لتلك المفاهيم.

  ووضح الأستاذ المحاضر أنه في مجال حقوق الإنسان لدى علماء الكلام والأصول يوجد الغنى في التنظير والفقر في التنزيل، بمعنى ترجمة الحقوق على أرض الواقع.

  وقد لعب الصوفية أدوارا طلائعية في مراعاة الحقوق، يظهر ذلك من خلال الدور الإيجابي الذي اضطلع به أبو العباس السبتي في سد حاجات الناس وتوفير حقوقهم الضرورية، بالبذل والسخاء والعطاء والصدقة.

   وانتهى إلى مجموعة نتائج:

• أهم ما يميز الفعل الإنساني عن مرتبة السلوك الحيواني قدرة الإنسان على تحويل الطبيعة إلى ثقافة

• الممارسة الأخلاقية تتويج للعمل

• العلم بداية العمل والعمل تمام العلم

  وتدخل الدكتور عزيز الكبيطي إدريسي [12] بموضوع عنونه بـ: "حقوق المسلم وواجباته في الرؤية الدينية للشيخ أحمد زروق وتأثيرها في المشروع الإصلاحي للشيخ الأمريكي حمزة يوسف هانسن"، مشيرا إلى تأثير الشيخ زروق في الأوساط الغربية وخاصة الأمريكية، ومردّ ذلك أنه صوفي متجدد متبحر في العلوم الشرعية المختلفة، وصاحب مشروع ديني إصلاحي يوازن بين المرجعية الدينية والسلطة الدينية، من خلال الجمع بين الفقه والتصوف وتحديد الصلة بينهما، وهي محاولة لا نجدها عند من سبق زروق، الذي تجاوز عددا من الزعماء الذين نادوا بالإصلاح، من خلال تأثيره في دولة أنجلوساكسونية كالولايات المتحدة الأمريكية، حتى صار نموذجه يحتذى به عند المصلحين الأمريكان.

   ونحا الشيخ حمزة يوسف منحى الشيخ زروق في التوفيق بين الفقه والتصوف، زيادة على مراعاة جملة حقوق، من مثل:

• رعاية حقوق الله

• الدعوة النشيطة إلى الإسلام

• التحلي بالأخلاق الكريمة

• امتثال تعاليم القرآن

• ضرورة الالتزام بقواعد الائتمار بالخير

• العناية بالصحة الجسدية

• الإعراض عن الخلق

• الرضا بالله والقناعة والتفويض

   يظهر أن مشروع حمزة يوسف يردد صدى أفكار الشيخ زروق، وبالتالي فنحن في حاجة إلى إحياء مشروع إصلاحي كذلك الذي نادى به.

  وقارب موضوع: "التربية الروحية ورعاية الحقوق" طارق أبو الوفا،[13] مبينا حاجة البشرية إلى تربية روحية، لأنه في حال غيابها فلا مكان لحقوق الإنسان، فالقوانين الوضعية مجرد حبر على ورق تفتقر إلى تطبيق، أما التربية الروحية فتسمو بالإنسان إلى أعلى المقامات.

  واقترح الأستاذ استبدال مصطلح الحق بالواجب، لأنه في زماننا أصبح الكل يطالب بحقه، ويغيب واجبه نحو الأفراد والجماعات، لكن إذا سمت فينا الروح على المادة لأصبحنا أفضل من الملائكة، لأن التربية الروحية هي الأساس في رعاية حقوق الناس.

   وارتباطا بنفس الموضوع عالج الدكتور محمد ديابطي [14] موضوع: "التربية الصوفية ورعاية الحقوق"، مفضلا استعمال لفظ الالتزام بالحقوق على رعايتها، لأن من يراعي ليس كمن يلتزم.

  فالتربية الصوفية هي بناء الناس وإعدادهم لخير النشأتين، غايتها قيام الإنسان بأداء حقوق الله وحقوق العباد، بمحو الأنانية ورؤية النفس من الإنسان ليكون شهوده في الحق سبحانه وتعالى، وقلبه مؤهلا لمحبة الله، فبالتربية الصوفية يأخذ الإنسان ما له ويعطي ما عليه إعطاؤه.

  ويقدم بعض المقترحات والنتائج، نذكر منها:

• إذا تحققنا بأصول التربية الصوفية فستشرق علينا الأرض والملك والملكوت

• لا يوجد أحد أجدر بمراعاة الحقوق من الصوفية

• يجب إدراج التربية الصوفية في المدارس وفي المؤسسات الحكومية

• ما هو الدور الذي يقوم به الصوفية اليوم لإصلاح ما فسد في المجتمع

   وتناول موضوع: "الحقوق المكفولة للإنسانية بين الضمانات الإسلامية والتهديدات الحضارية المعاصرة، ملامح نقدية في ضوء المنهج التزكوي والسلوك المصطفوي"، الدكتور عبد القدوس بن أسامة السامرائي،[15] متحدثا عن نقطتين رئيستين:

• لمحة في الحقوق المكفولة في الإسلام: وبما أن أغلب المداخلات تقدمت بمناقشة هذه القضية، فضل الأستاذ المحاضر عدم الخوض فيها، والانتقال مباشرة إلى النقطة الثانية

• التهديدات الحضارية المعاصرة لحقوقنا: نموذج الإعلام الهابط؛ مبينا أن الإعلام له مزايا إيجابية كثيرة، وله سيئات أكبر، مشيرا إلى أن الإشكال هو أن الخطر الداهم يحتاج إلى شهمة وتكاثف من أجل إصلاح هذه المنظومة، فقد ظهرت في المجتمع أمراض كثيرة سببها الإعلام الهابط، مما يستدعي أن نحيا حياة تزكوية جديدة منطلقها الزوايا والتلاقح الفكري والائتلاف الروحي، من أجل التصدي لأخطار الإعلام السلبي، مع وضع استراتيجية إعلامية تربوية تتكاثف فيها جهود الزوايا والدعاة، كانبثاق موقع إعلامي يذكر الآباء والأبناء ببعض المواقع الهادفة والبناءة.

    وانتهى إلى أنه على الإعلام الإيجابي أن يتيح المجال أمام المربين، مع ضرورة التنسيق بين الفعاليات  من أجل إحياء روح الشعور الفردي، ومحاربة ظاهرة الهبوط الأخلاقي.

   أما مداخلة الدكتور حكيم فضيل الإدريسي [16] فكانت بعنوان: "رعاية الحقوق ومراعاة الحظوظ: نحو رؤية صوفية للإصلاح"، موضحا في البداية أهمية القيم الأخلاقية لكل الفاعلين سواء كانوا اجتماعيين أو سياسيين، لهذا ربط الصوفية مسألة الحقوق بالإصلاح، نظرا لطهارتهم وصفاء منهجهم، فالله تعالى ما خلق هذا العالم إلا ليكون الصلاح ساريا فيه.

   وللخروج من مأزق الإفساد لا بد من تربية روحية عرفانية، لأن التصوف مشروع وجودي قائم بذاته، كامل وشامل، حمله سيدنا محمد عليه السلام في حديث الإحسان.

   ويتساءل عن دور الصوفية اليوم: هل سيبقى في زواياهم؟ من سيوصل هذه الحقيقة إلى الناس والمجتمع؟ فالناس محتاجون إلى من يريحهم، ولن يريحهم إلا الدلالة على الله، فالتصوف في نظره رحمة، انطلاق، تجاوز، تصالح، تسامح، وليس على المستوى النظري بل على المستوى العملي، والصوفي لا يزاحِم ولا يزاحَم لأنه يستمد من الحضرة الإلهية، وعليه نحتاج اليوم إلى البذل على كافة المستويات وفي جميع المجالات، فلا بد من قيام مصالحة مجتمعية، لأن العصر والواقع محتاج إلى الصوفي وتوجهه الأخلاقي التربوي.

الهوامش:


[1] باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، وجدة.

[2] جامعة محمد الأول، ورئيس مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بوجدة.

[3] مسؤول بوزارة الأوقاف، فلسطين.

[4] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان.

[5] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط.

[6] باحثة بمركز دراس بن إسماعيل، فاس.

[7] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس.

[8] باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، وجدة.

[9] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس.

[10] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان.

[11] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط.

[12] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس.

[13] أزهري وخطيب وأستاذ بمؤسسات علمية بفرنسا.

[14] الجامعة الإسلامية، باماكو.

[15] باحث أول بإدارة البحوث، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، دبي.

[16] كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ابن مسيك، الدار البيضاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق