مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأخبار

تقرير حول مناقشة أطروحة: الأولياء الصلحاء وتحولات المقدس بالمغرب (الريفين الأوسط والشرقي)

    نوقشت يوم الجمعة 21 أكتوبر 2016 ابتداء من الساعة الثالثة زوال بقاعة نداء السلام بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول بوجدة، أطروحة دكتوراه في موضوع: “الأولياء الصلحاء وتحولات المقدس بالمغرب: دراسة في التاريخ السيوسيوثقافي للتدين في الريفين الأوسط والشرقي“، والتي أعدها الباحث مراد جدي بإشراف مزدوج للأستاذين الدكتور محمد استيتو، والدكتور فريد لمريني الوهابي، وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة:

– الأستاذ الدكتور بنيونس بنقدور     رئيسا (كلية الآداب وجدة)

الأستاذ الدكتور أحمد الكامون       مقررا (كلية الآداب وجدة)

– الأستاذ الدكتور محمد جحاح        مقررا (كلية الآداب مكناس)

– الأستاذ الدكتور بلقاسم جطاري      مقررا (كلية الآداب وجدة)

– الأستاذ الدكتور فريد لمريني        مشرفا (كلية الآداب وجدة)

 وبعد المداولة قررت اللجنة العلمية منح الباحث مراد جدي شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع بعد إنجاز التصويبات المطلوبة.

نص التقرير

   بمرور الوقت يتضح أن الانشغال بدراسة ظاهرة الأولياء والصلحاء له ما يبرره واقعيا، فما زال الاعتقاد في بركتهم مترسخا بقوة في المتخيل الجمعي ومؤثرا في بناء استراتيجيات الفاعلين الاجتماعيين الفردية والجماعية، رغم ما يعتمل داخل الحقل الديني والثقافي عموما من خطابات رافضة لهذه التصورات والممارسات ذات العلاقة بالموضوع. لهذا يظهر أن الفهم الجيد لعقلية المجتمع المغربي وثقافته وأنماط تفكيره وسلوكه، سواء على المستوى العام أم على المستويات المحلية، يقتضي الابتعاد عن الأحكام الجاهزة والمسبقة والاتجاه نحو ملامسة التجربة الشعبية في التدين والاعتقاد والمعرفة. وهذه التجربة الإنسانية تتمحور في شموليتها حول فكرة “المقدس”.

  والمقدس كيفما كان محتواه وجنسه وغايته، يتبدى بوصفه نسقا ونظاما رمزيا، ومن هنا ينظر إلى نسق الولاية والصلاح بوصفه نسقا رمزيا يتحدد كتعبير رمزي عن المقدس في الفضاء الاجتماعي، الأمر الذي يطرح مسألة العلاقة بين المقدس والثقافة، هذا بالإضافة إلى أن لنسق الولاية والصلاح وظيفة تواصلية بين المقدس والمجتمع، وبين الناس وهم يتدبرون شؤونهم الخاصة ويتبادلون الرسائل والخطابات. ومن هنا أتت حتمية تناول موضوع “الولاية والصلاح” من منطلق جدلية: المقدس والثقافة والمجتمع، على اعتبار أن الولي الصالح هو تحويل رمزي للمقدس يترجمه إلى كيان سوسيو تاريخي تتأسس حوله تصورات ومفاهيم وعلاقات وممارسات.

    لذلك تسعى هذه الدراسة إلى تحليل بنية المقدس الولائي والصلاحي في الثقافة المغربية تمثلا وحضورا، والكشف عن آليات اشتغال المتخيل الرمزي بوصفه المجال الذي يحيى فيه المقدس حركيته، ويجد فيه سنده المرجعي، بغية الكشف عن دور هذا المقدس في بلورة ثقافة المجتمع الراهنة، وتفاعلاته مع المكونات الأخرى لهذه الثقافة في إطار صيرورة التحول الثقافي. وهذه الدراسة تجعل من منطقة الريفين الأوسط والشرقي بشمال المغرب ميدانا لمقاربة الموضوع.

تتمحور أهداف هذه الأطروحة حول:

– الكشف عن القوانين والأطر المتحكمة في صناعة حقل المقدس من خلال نموذج الأولياء والصلحاء وكيفية اشتغاله.

– إبراز آليات تكون هذا الحقل وبنائه والوظائف التي يؤديها، والقيم التي يعبر عنها من خلال الممارسات، والمعاني التي يأخذها عند الأفراد والجماعات.

– تحديد الأصول وملامح التأسيس والتحول والاستمرارية داخل حقل المقدس من خلال الولاية والصلاح، وتعرف مساراته وطرقه.

   ترتبط أهداف وأهمية الدراسة بالإشكاليات والتساؤلات التي تسعى إلى الإجابة عنها، وتقديم نتائج علمية وموضوعية بصددها، والتساؤل المركزي يركز على تحليل كيفية ظهور وصناعة الولاية والصلاح بالمجتمع المغربي والريفي خاصة، وحيازتها لمكانتها في فضاء الفعل الاجتماعي وبناء سلطتها في هذا الفضاء. وعليه يتساءل الطالب الباحث:

كيف يصنع الأولياء والصلحاء؟ وما هي آليات فعلهم في المجتمع؟ ومن هم الفاعلون في هذه الصناعة وروادها؟ وما علاقتهم بأشكال الفعل الاجتماعي؟

  إن المسألة الأساسية التي تنطلق منها هذه الدراسة أن الأولياء والصلحاء يشتغلون في إطار نسق رمزي، ولكل نسق تكون وتاريخ، ومن هنا فإن البحث حول ظهور الولاية والصلاح وصناعة سلطتها وحظوتها، تنقيب في ماضي الولاية والصلاح، رصدا لمراحل تطورها نحو الحاضر، وعليه يتساءل الطالب الباحث: كيف عاش المغاربة الولاية والصلاح عبر تاريخهم وكيف تمثلوها؟

ونسق الولاية والصلاح، كأي نسق رمزي، ينتمي إلى نسيج الفعل الاجتماعي للبشر في اعتمادهم المتبادل وتفاعلاتهم المستمرة. فمع الولاية والصلاح لم يعد المقدس مقدسا بذاته، بل بامتلاكه لمعان ودلالات يتقاسمها مجموعة أناس. فنسق الولاية والصلاح لا يوجد خارج الاجتماعي بل داخله، لا باعتباره مضامين ومحتويات، بل باعتباره محددا لسمات الاجتماعي وبنيته وشكله، كما يتحدد هو ذاته بأنماط الفعل والعلاقات الاجتماعية. وهنا يطرح الإشكال الأعمق في الدراسة: من يصنع الآخر هل الولي الصالح يصنع ذاته أم المجتمع هو الذي يتولى صناعته؟ أو هما معا وما نصيب ودور كل طرف في هذه الصناعة؟

  ومادام نسق الولاية والصلاح تعبيرا رمزيا عن المقدس بصيفة من الصيغ، فكيف صنع نسق الولاية والصلاح هوية المقدس الخاص به؟ أو بعبارة أخرى: ما هي الهوية الخاصة بمقدس الولاية والصلاح؟ ومن يحدد هذه الهوية؟ هل المقدس ذاته أم الشروط السوسيو-التاريخية؟

  من هذا التساؤل تأتي خاصية التمفصل المزدوج لنسق الولاية والصلاح؛ الولاية والصلاح باعتبارها نسقا رمزيا دينيا، وباعتبارها كذلك مؤسسة سوسيو-تاريخية.

  من خلال هذه التساؤلات والإشكاليات تروم هذه الدراسة النفاذ إلى مقاربة العلاقة بين المعنى والممارسة في الواقع التاريخي للولاية والصلاح، لذا فإن الهدف هو الإحاطة بالسياق الكلي من خلال حالة خاصة بمجال جغرافي محدد، وفي نموذج معين من العلاقة بين ولي صالح والبنية الاجتماعية التي تفاعل معها.

   ترى هذه الدراسة أن ولادة نسق الولاية والصلاح فعل بالغ التعقيد والتركيب، وليس نتاجا لولادة ناجزة أو إفرازا لوضعية تاريخية مشروطة بعوامل ظرفية محددة أو رد فعل على سياق معين مأزوم، بل هو تراث وتقليد عابر للأزمنة بالمفهوم الأنثروبولوجي، وحركة بالمفهوم السوسيولوجي. فالولاية والصلاح موضوع إرث واكتساب واستثمار وتراكم، وبالتالي لها صيرورة تاريخية وليست حالة قد تظهر وتنحصر في مرحلة تاريخية بحد ذاتها، فهي جاءت حصيلة تلاؤم بين بنيات الفضاء الاجتماعي الموضوعية وأشكال الفعل الاجتماعي للأولياء والصلحاء في تمثلهم لأسس الرأسمال الرمزي للولاية والصلاح.

    إن الولاية والصلاح لم تكتسب سلطتها وسطوتها في المجتمع إلا بفضل تمكنها من تحويل المقدس تحويلا رمزيا إلى تصورات ومفاهيم وممارسات ومؤسسات، وأن تحدث التواصل المطلوب بين حقلي المقدس والفعل الاجتماعي. فالرموز هي ذلك الوسيط أو التوسط بين الحقلين، ومن هنا يمكن النظر إلى الولاية والصلاح على أنها نسق رمزي للتواصل بين المقدس وعالم الفعل الاجتماعي – التاريخي.

    إن طبيعة التساؤلات المطروحة والمرتبطة بإشكالية البحث، تفرض علينا دراسة الموضوع وفق مقاربة تركيبية تجمع بين مناهج متعددة وليس منهج واحد، فالمقاربة التحليلية المركبة في تصوري هي الأقدر على الإحاطة بمجمل جوانب الظاهرة المدروسة ذات الأبعاد والمستويات المتعددة.

   يرجع نسق الولاية والصلاح بداية إلى فعل تأسيسي، ينهض على تمثل وجود أصل كمصدر للشرعية، وهذا التأسيس يحدد مصادر المشروعية، ومن ثم يؤسس للاعتراف العام بها. وعليه ترتبط سلطة الأولياء والصلحاء ارتباطا بنيويا وثيقا بالتاريخ بوصفها علاقة معنى، لكنها أيضا علاقة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية مع فاعلين آخرين، هكذا تصاغ عملية صناعة الولاية والصلاح بوصفها علاقة معنى وعلاقة قوة وسلطة في الآن ذاته.

    انطلاقا مما سبق تقوم هذه الدراسة على التوليف بين مناهج الدراسة التاريخية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية؛ ويقتضي المنهج التاريخي دراسة الأصول الثقافية المؤثرة في صناعة نسق الولاية والصلاح بالتنقيب في ماضي هذا النسق ورصد مراحل تطوره ومحطات صيرورته وصولا إلى الشكل الحاضر للنسق. فهذه المقاربة تعتمد على استنطاق التحقيب التاريخي وتداخلاته تبعا لمديات تأثيره في صناعة الصورة الحالية للولاية والصلاح، ما يستدعي باللزوم اعتماد تقنية “الزمن الطويل”، “وهو زمن الحركة على المدى الطويل الذي يمتد على قرون.

    إن المنهج التاريخي غير فعال دون ربطه بأدوات التحليل الأنثروبولوجي، ولعل هذا أهم ما يميز المقاربة التأويلية في الأنثروبولوجيا، لذا فقد حاول صاحب الأطروحة توظيف بشكل أساسي منهج التحليل الأنثروبولوجي الرمزي في طبعته التأويلية سعيا منه إلى فهم طبيعة نسق الولاية والصلاح وضبط آليات اشتغاله وصيرورة تحولاته انطلاقا من تصورات الأفراد وتمثلاتهم الثقافية حول الوجود وعلاقاتهم الاجتماعية أكثر من الاهتمام بالجوانب الوظيفية. ومن هنا فإن العمل الذي قام به الطالب الباحث يرتكز على اعتبار الولي الصالح “وحدة رمزية أساسية في التحليل”، أي تناول الولي الصالح من شتى الجوانب والأداة التقنية المعتمدة في مثل هذا النوع من المقاربة، تتمثل في استخدام تقنية “السيرة / الترجمة”، واعتمدن الباحث على تقنية “الوصف الكثيف” كإحدى الأدوات المنهجية المهمة لتحليل السياقات الثقافية والتاريخية المرتبطة بظاهرة أنثروبولوجية معينة، هي هنا ظاهرة الأولياء والصلحاء.

    كما أن اعتماده لمقاربة المتخيل الرمزي هدفه ضبط الحساب التأويلي للدلالات الرمزية الخاصة بنسق الولاية والصلاح بدل الدخول في لعبة المضمنات أو الافتراضات أو التلميحات التي تؤول بعض الرموز تأويلا بعيدا عن منطق النسق ذاته. ليخلص الطالب أن مناهج “السوسيولوجيا الدينامية” يمكن أن تسند بشكل كبير المقاربة المعتمدة في التحليل عبر رصد مسارات تطور الظاهرة المدروسة وديناميتها دون السقوط المخل في النزعة السوسيولوجية الأداتية “اقتصادية وغير اقتصادية”.

   لا يمكن أن الفصل داخل نسق الولاية والصلاح بين المعنى والسلطة، فهما في تفاعل خلاق ومستمر، وكلاهما يستمد قدرته المشتركة وديناميته التوليدية من وجود الولي الصالح وممارسته الاجتماعية، أي من التاريخ الفردي والجماعي معا.

  كما استخدم الطالب الباحث مجموعة من الأدوات الإجرائية المناسبة في جمع مادة البحث وتصنيفها وتبوبيها واستثمارها لتحقيق أهداف الدراسة والإجابة عن تساؤلاتها. وأهم هذه الأدوات: الملاحظة المشاركة: الملاحظة الميدانية المباشرة: الاستمارة والاستبيان: المقابلة: دراسة الحالة: الإخباريون: تحليل المضمون:

  وبالنظر إلى طبيعة الموضوع، فقد اختلفت المراجع والمصادر بين التاريخية، والإثنوغرافية والإثنولوجية سواء تعلّق الأمر بالمغرب الأقصى أو بمناطق جغرافية أخرى، كما اعتمد البحث المصادر النظرية الابستيمولوجية التي استقى عدّته المفاهيمية منها. وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا الباب، هو المعطيات الإثنوغرافية الغزيرة التي خلّفها الباحثون الأجانب حول المغرب في الفترات التي كانوا فيها يجوبون مناطقة المختلفة. وحتى إن كان هناك ما يقال حول أدواتهم المنهجية والمفاهيمية، إلا أنّ ما لا يمكن الاختلاف حوله هو القيمة التوثيقية لمجهوداتهم، وخاصّة وأنّ العديد منها قد امتدت إليه أيادي النسيان.

   تتكون الأطروحة من جزئين، يتضمنان ثلاث أبواب وملاحق. يتشكل الجزء الأول من مقدمة وبابين والبيبليوغرافيا المعتمدة وفهرس الأطروحة ككل. خصصت المقدمة لتحديد الموضوع ودواعي اختياره، والأهمية والقيمة التي تضيفها الدراسة نظريا وتطبيقيا، ثم تأطير البحث وطرح إشكاليات الدراسة، وبناء الفرضيات، وبعدها إبراز منهج الدراسة ومصادرها ومراجعها، والمنهج أو المناهج المعتمد (ة) في مقاربتها، واستعراض الدراسات السابقة حول الموضوع وخطوطها العريضة، وتحديد خطتها وتصميمها، ثم إبراز الصعوبات والعوائق.

    أما الباب الأول والذي فقد عنون بـ: “جدلية البركة والمجال”، يتشكل من خمسة فصول تبتدئ بمعالجة مفهوم المقدس وماهيته وعلاقته بالديني واستخلاص سماته وخصائصه كما عالجها الدرس العلمي الغربي ومن منطلق التصور الإسلامي، ثم يمر إلى الكشف عن علاقته بمقولة البركة بوصفها تجسيدا لتجربة المقدس في النطاق الديني الإسلامي، ثم تتبع مسار تطور هذه المقولة من مجرد كونها معتقدا دينيا بسيطا إلى اعتبارها ظاهرة سوسيو-ثقافية مؤسسة للولاية والصلاح. ويبحث بعد ذلك في مفهوم التحول الثقافي بوصفه خاصية ثقافية مميزة للمجتمعات الإنسانية على اختلافها، وأثره في تشكيل أنماط التدين، حيث تقارب بداية مفهوم الثقافة في علاقته بمفهوم الدين، ثم توضح كيفية بناء أنماط التدين في خضم صيرورة التحول الثقافي ما يؤدي إلى تعدد وتباين مستوياته وأشكاله. لتقف على أحد هذه الأشكال المندرجة ضمن ما يطلق عليه وصف التدين الشعبي ألا وهو نمط الولاية والصلاح، ساعية إلى رصد دلالاته المختلفة من خلال المصادر اللغوية والدينية والصوفية، واستقصاء تعابيره وتجلياته في نطاق الثقافة الشعبية المغربية للوقوف عند أشكاله وأنماطه المتعددة والممتدة. وفي الأخير قدم الباحث المجال المدروس “الريفان الأوسط والشرقي”، بإبراز التطور التاريخي لدلالات هذا المجال التاريخية والجيوسياسية – الإدارية، والوقوف عند مقومات إطاره الطبيعي وسمات بنيته البشرية وأشكال تنظيماته الاقتصادية والسوسيو-سياسية ذات العلاقة بهذه الظاهرة، والتي ساهمت بطريقة أو أخرى في تشكيلها أو توجيه مسارها.

    والباب الثاني وعنوانه: “دورة وآليات صناعة البركة وأسس سلطة الأولياء والصلحاء”، فيتكون أيضا من خمسة فصول تقوم على تحليل كيفية قيام نسق الولاية والصلاح، وصناعة القواعد والقوانين الضابطة لحركته وآليات اشتغاله، ورسم مسار تكونه وتشكله، وكشف الوظائف التي يؤديها والقيم التي يبثها من خلال الممارسات والأداء، وتحديد المعاني التي يبنيها عند الفاعلين الاجتماعيين. افتتحها الفصل الأول بإبراز معالم الولاية والصلاح في المرحلة الممهدة للتصوف، واشتغل على نموذج آل صالح بنكور، من حيث إبراز السياقات التي أطرت هذه التجربة، وتفكيك رموز تجربة الولاية والصلاح من خلال مثال بنو صالح بنكور، للكشف عن الصيغة الرمزية المتفاعلة المحددة للمعايير والمقاييس التي تحكم عملية صناعة الولاية والصلاح في هذه المرحلة. وتناول الفصل الثاني تدخلات ومداخل التصوف في ضبط صيرورة نسق الولاية والصلاح عبر إفراز نهجي المجاهدة والرياضة، والصحبة والاقتداء كمسلكين لحيازة مشروعية الولاية والصلاح، وتطرق لمسلك الجذب والملامة أو ما يمكن تسميته “الجنون المقدس” كمدخل للولاية والصلاح، ثم أبرز الحضور النسوي في نسق الولاية والصلاح تمثلا وفعلا. وانصب الفصل الثالث على تحديد دور براديغم الشرف في صناعة سلطة وصورة الولاية والصلاح، حيث استعرض تطور هذا البراديغم داخل الحقل الديني والسياسي دلاليا ومؤسسيا، ليتوصل إلى تحديد أوجه علاقته بالتصوف وفرض الشرف الصلاحي كضرورة سوسيو-ثقافية وأدلجة لنسق الولاية والصلاح بصناعة نبالة دينية. واشتغل الفصل الرابع على تحديد ماهية سلطة الأولياء والصلحاء والأسس التي تقوم عليها، وتمنحها أدوارها ووظائفها في الفضاء الاجتماعي، مبرزا المفاعيل الرمزية لهذه السلطة التي تضفي عليها قيمة ووجاهة. في حين تطرق الفصل الخامس لموقع الأولياء والصلحاء في الفضاء الاجتماعي ونوعية العلاقات التي جمعتهم بالفاعلين الاجتماعيين الآخرين، وتم تحديدهم في ثلاث مكونات أساسية: الفقهاء، السلطة السياسية، القبيلة، هذه العلاقات التي ظلت تتأرجح بين التعاون والتنافس، بين الولاء والثورة والانقباض، بين التمثيل والخدمة.

   في حين تمت هندسة الجزء الثاني بتضمنه الباب الثالث وملاحق الدراسة والخاتمة العامة وفهارس الأطروحة. وتشكل الباب الثالث من خمسة فصول على غرار البابين السابقين، وتمحور حول طريقة ترسيم نسق الولاية والصلاح لذاته في الفضاء الاجتماعي واستدامة سلطة البركة. خصص الفصل الأول منها التطور الحاصل في نسق الولاية والصلاح من التجارب الفردية إلى الانتظام في شبكات تسمح للصلحاء بالتعاون فيما بينهم وتعديل مناهجهم، قبل أن تتخذ بوادر تنظيمية جنينية في شكل رابطات وزوايا. واهتم الفصل الثاني بتحليل عملية المأسسة الهيكلية لنسق الولاية والصلاح وتحوله إلى أدوات وتقنيات، واستعرض في هذا الصدد خاصية نظيمة الزوايا وهيكليتها وتشكيلتها، ليقدم بعده عرضا مفصلا حول أهم هذه المؤسسات بمنطقة الريف ما بعد القرن 16م. واتجه الفصل الثالث نحو مؤسسة الضريح ودورها بالنسبة لنسق الولاية والصلاح، مبزرا تطورها وملامح تاريخها السوسيو-ثقافي، وما أدته من وظائف عديدة للفرد والجماعة. ليتوصل الفصل الرابع إلى الكشف عن الدلالات السوسيو-ثقافية التي تحملها جغرافية المقدس الضريحي، مع الوقوف عند وضعية فضاءات الأضرحة في الراهن المجالي لتحديد مكانة النسق في البناء الثقافي والاجتماعي للمجتمع المغربي المعاصر. ومن خلال الفصل الخامس تم الكشف عن قدرات الاستمرارية والتجذر التي فعلها نسق الولاية والصلاح من خلال ابتداع مجموعة من الممارسات والطقوس والتقاليد، ساهمت في إبقاء سلطته حية متكيفة مع متغيرات الواقع، وتم التركيز أساسا على طقوس الزيارة وتقاليد المواسم مع تحليل بنيتهما والكشف عن أنساقهما الرمزية. وانتهى البحث بخاتمة عامة تحدد أهم النتائج المتوصل إليها من هذه الدراسة والآفاق التي تفتحها في مجال البحث العلمي لإغناء الموضوع.

    وجاء هذا الجزء متضمنا لملاحق تتضمن المعطيات التي تأسس عليها التحليل، وتتكون هذه الملاحق من قوائم بالأولياء والصلحاء والمتصوفة الذين تم جردهم من خلال الدراسة، ثم قائمة خاصة بالأضرحة المدروسة، وأخرى بالزوايا. كما تم تضمين هذا الملحق مجموعة من الخرائط والصور ونسخ المخطوطات والوثائق والظهائر التي تم الاشتغال عليها. إضافة إلى فهارس مختلفة تشمل الجداول والرسوم والمبيانات والخطاطات والأشكال الواردة في متن هذه الدراسة. علاوة على البيبليوغرافيا والفهرس العام.

    ويمكن القول ختاما بأن نسق الولاية والصلاح كنمط من التدين وكنسق رمزي، هو نموذج لتفاعل المقدس مع كل الظواهر والعمليات السوسيو-ثقافية تأثيرا وتأثرا. ويتميز هذا النسق بطابع دينامي واضح يساعده على البقاء والاستمرار والتوازن والانتشار خارج حدود المكان والزمان والثقافة، فله قدرة فائقة على التغير والتحول في التفاصيل والمظاهر دون المقومات الأساسية والتكيف مع الأوضاع والظروف المتغيرة المحيطة بالمجتمع. وفي هذا السياق يأتي اعتماده على استراتيجية بناء المشهد المستدام “الضريح” وابتداع جهاز طقوسي وشعائري خاص يمتح من كل أساليب الثقافة الشعبية المتسمة بالسرعة والتلقائية والانسيابية، ويركز على الأداء الجسدي للطقوس. ومن هنا يشكل نسق الولاية والصلاح مكونا أساسيا من التراث الشعبي، ما يجعله يتسم بخاصية الثبات والتحول في نفس الآن، إذ أن الثقافة الشعبية هي البوتقة التي تتم فيها عمليات التغير. ولهذا يظل هذا النسق مفتوحا على عمليات التغير الاجتماعي والتحول الثقافي، مع ما يصاحبها من تفاعلات وصراعات، ما يقتضي منا النظر إليه على أساس الثبات في الحركة والحركة في الثبات. أي التركيز على دراسة العمليات السوسيو-ثقافية التي تعمل للحفاظ عليه وضمان استمراره وتلك التي تعمل على تبديله وتغييره، وإبراز القوى الفاعلة على كل واجهة. ويبقى الموضوع دائما منفتحا أمام مقاربات مختلفة، وقراءات متجدّدة بتجدد الأدوات المفاهيمية والمناهج التحليلية التي تبدعها العلوم الإنسانية. لذلك، يرى الطالب الباحث أنّ ما قدمه هو مجرد محاولة بسيطة لاستثمار أدوات العلوم الإنسانية التي توفّرت له من أجل دراسة هذا المجال الذي يتّصف بالأهمية الكبيرة، لكنه يتّصف في الوقت نفسه بأّنّه شديد التركيب والتعقيد، ما يجعل الأخطاء الكبيرة جدّ واردة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق