مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثقراءة في كتاب

تعليقة الوَانُّوغِي على تهذيب المدونة

  يندرج كتاب التعليقة على المدونة للفقيه القاضي المحقق أبي مهدي عيسى بن صالح ‏الوَانُّوغِي التونسي ضمن الحواشي التي وضعت على كتاب «تهذيب المدونة» لخلف بن أبي ‏القاسم البراذعي، وهو من أحسنها وأكثرها فائدة، اهتم فيه مؤلفه بشرح معاني الألفاظ ‏والعبارات الغامضة الواقعة في كتاب التهذيب، وتتجلى قيمة الكتاب في كون مؤلفه من ‏العلماء الكبار المرجوع إليهم في زمانه.‏

  وإن كان المؤلف، رحمه الله، لم يُفصح عن أسباب تأليفه لهذا الكتاب، إلا أنه صرّح ببعض ‏ملامح منهجه فيه، وفي ذلك يقول: «وغرضي فيه التنقير على مباحث شريفة ولطائف ‏ظريفة، وتجافَيْتُ فيه عن الكلام الضعيف أو المشهور في كتب أصحابنا»، ومعنى هذا ‏الكلام أنه اقتصر فيه على شرح العبارات والألفاظ التي تحتاج إلى بيان، وعلى تحرير الأقوال، ‏وبتقليب صفحات هذه التعليقة يتبين أنه التزم، إلى حدٍّ ما، بما رسمه في هذه المقدمة، ‏ويتباين شرحه من عبارة إلى أخرى، فبعضها اقتصر فيه على الشرح اللغوي فقط، وبعضها ‏على الجانب الفقهي، وأحياناً يتوسع في إيراد نصوص وأقوال أئمة المذهب، وقد يخرج عنه ‏فيورد أقوال المذاهب الأخرى خصوصاً المذهب الشافعي، كما أنه قد يلجأ إلى ترجيح أحد ‏القولين على الآخر، وإن تطلب ذلك مخالفةَ شيوخه وتضعيفَ قولهم كما فعل مع ابن عرفة ‏مثلا في غير ما مسألة، وفي أخرى رجح فيها قول شيخه سراج الدين البُلقيني الشافعي، ‏وهذا يُظهر أنه كان من الأئمة النُّظَار والفُحول الكبار.‏

‏   وأيضا فقد استفاد من رحلته المشرقية، وبدا ذلك جلياً في الكتاب حيث ينقل عن عدد ‏من كبار علماء الشافعية، ويشير في بعض إحدى المسائل إلى أنه تباحث فيها مع بعض قضاة ‏الديار المصرية، وفي أخرى أنه سأل عنها شيخه سراج الدين البُلقيني الشافعي.‏

  وأسلوبه في الكتاب أسلوب الفقيه الـمُتمرِّس، فهو يتَّسم بالقوة في العبارات، وانتقاء ‏المصطلحات الفقهية الدقيقة، وفي بعض المواطن يلجأ إلى أسلوب المحاججة والإقناع، ‏فيستعمل بعض المصطلحات المنطقية، فيبدأ بطرح الإشكال ليرتب عليه النتيجة، وقد ‏يوظف قواعد ومصطلحات فقهيةً للوصول إلى المطلوب، وكأنه قصد بكتابه هذا فئة معينة ‏من طلبة العلم، وليس من عامتهم.‏

  ومما يزيد من قيمة الكتاب كثرة المصادر التي رجع إليها المؤلف في تعليقاته، ويمكن ‏تقسيمها قسمين: أولهما مصادر الفقه المالكي وأغلبها من المصادر المتأخرة، فينقل مثلا عن ‏أبي بكر بن اللَّبَّاد(ت333هـ)، وأبي الحسن القابسي(ت403هـ)، وأبي عمران ‏الفاسي(ت430هـ)، وأبي الوليد الباجي(ت474هـ) في «الإيماء»، وعبد الحق بن محمد ‏الصِّقِلي(ت466هـ) في «النكت والفروق»، وابن رشد الجد(ت520هـ) في «البيان ‏والتحصيل» و«النوازل»، وسَنَد بن عنان البصري(ت541هـ) صاحب «الطراز»، والقاضي ‏عياض(ت544هـ)، ومكي بن عوف العوفي(ت581هـ) صاحب «العوفية»، وقد أكثر ‏عنه، وإبراهيم بن عبد الصمد بن بشير(ت536هـ)، صاحب «التنبيه على مبادئ التوجيه»، ‏وابن الحاجب(ت646هـ) في مختصره، وابن عرفة(ت803هـ)، وغيرهم.‏

  وثاني القسمين: مصادر الفقه الشافعي، ومنها: كتاب «الروضة» للإمام ‏النووي(ت676هـ)، و«الرقم في الفقه» لعلي بن محمد العبادي(ت495هـ)، و«دلائل ‏الأحكام» ليوسف بن رافع المعروف بابن شدّاد(ت632هـ)، و«القواعد الصغرى» لعز ‏الدين ابن عبد السلام(ت660هـ)، وغيرها كذلك. ‏

‏  ولحُسْن صنيع الوَانُّوغِي في كتابه نوه به العلماء من بعده، من هؤلاء العلامة أحمد بابا ‏التنبكتي الذي يقول في وصف هذه التعليقة: «وحاشيته المذكورة في غاية الحسن ‏والتحقيق»، ويشهد لما قاله نقول العلماء عنه، أمثال: العلامة أحمد زروق في «شرح ‏الرسالة»، والحطاب في «مواهب الجليل»، والزقاني في «شرح مختصر خليل»، وغيرهم، كما ‏وضع عليه أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم المشدَّالي(ت866هـ) حاشية بمثابة الشرح له.‏

‏   طُبع الكتاب بتحقيق الدكتورين أحمد بن عبد الكريم نجيب، وحافظ عبد الرحمن محمد ‏خير، ونسباه لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عمر الوانُّوغي(ت819هـ)، وبهامشها تكملة ‏التعليقة، لأبي عبد الله محمد بن أبي القاسم الـمَشَدَّالي(ت866هـ)، لكنهما لم يثبتا تكملة ‏المشدالي كاملة وإنما اختارا بعض التعليقات منها وأثبتاها في الهامش فقط.‏

  وفيما يتعلق بنسبة التعليقة فقد رجح الدكتور الباحث سعيد بلعزي، وهو يشتغل بتحقيق ‏الكتاب، أن تكون التعليقة لأبي مهدي عيسى بن صالح الوانوغي(ت نحو 810هـ)، وليس ‏لأبي عبد الله محمد بن أحمد المتقدم الذكر، كما أن المحققين فاتهما الاعتماد على نسخة أخرى ‏من الكتاب محفوظة بخزانة الأسكوريال برقم(1334). ‏

  الكتاب: تعليقة الوَانُّوغِي على تهذيب المدونة.‏

  المؤلف: أبو مهدي عيسى بن صالح الوَانُّوغِي(ت في حدود 810هـ)‏

  مصادر ترجمته: كفاية المحتاج(ص223)، وشجرة النور(1/350)، ‏ومقال بعنوان: أبو مهدي عيسى الوانُّوغي(ت810هـ) صاحب ‏التعليقة على تهذيب البراذعي. إنجاز: د.سعيد بلعزي، مرآة التراث ع3 ‏ربيع الأول 1435هـ/يناير 2015م. ‏

  الناشر: طبع بتحقيق د. أحمد بن عبد الكريم نجيب، ود. حافظ بن عبد ‏الرحمن خير، وصدر بدولة الإمارات العربية المتحدة سنة ‏‏1435هـ/2014م

  إنجاز: د. جمال القديم

Science

الدكتور جمال القديم

باحث مؤهل بمركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء،

ومساعد رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بملحقة الدار البيضاء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق