مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

تحقيق الكلام في الاحتفال بمولد الرسول محمد عليه السلام

عبد الله هيتوت                                                                                                                                   عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء بإقليم الجديدة

     تتفيأ الأمة الإسلامية ذكرى المولد النبوي الشريف على صاحبها سيدنا محمد عليه أزكى الصلوات والسلام متضرعة إلى الله أن تكون ذكرى إحياء البعث المحمدي لإرادتها الإيمانية لمواجهة التحديات التي تستهدف دينها وأوطانها وشعوبها، مستحضرة قيم الرسالة التي حررت الإنسان من عبوديته للجهل، ومؤهلة أن تكون منطلق الوحدة والتضامن.

     بالنسبة لبلدنا المغرب فإنه منذ أن بزغت الدعوة المحمدية وسطعت شمس الأنوار النبوية ارتضى المغاربة طرا الإسلام دينا والعربية لغة، وأشرب المغاربة بحب الدين وتفانوا في الدفاع عنه وأصبحوا من دعاته، وما احتفال المغاربة بعيد المولد النبوي إلا دليل على تعلقهم بالدعوة المحمدية وتشبثهم بأهداب الشريعة الإسلامية عقيدة وعملا وسلوكا.

     ولقد كان سن إحياء ذكرى المولد النبوي على غير مثال سابق مثار نقاش وجدل وأخذ ورد بين العلماء المسلمين وذلك خشية أن يكون من باب إحداث أمر ليس من السنة، ويصدق عليه قوله عليه السلام: “من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد”، ولقد كان إحياء الذكرى في البداية من بين الذكريات التي اعتاد الفاطميون إحياءها في الشرق.

     ثم اقتبس الفكرة الأيوبيون بعدهم فألغوا ما عداها من أعياد ميلاد الأئمة الشيعيين، وقد كان ذلك في نظرهم ونظر من ساندهم من العلماء والمفكرين ضروريا للذود عن العقيدة ورفع الهجمات التي كانت توجه للإسلام ولنبيه عليه السلام من طرف أرباب الديانات الأخرى من صليبيين، فهي ذكرى وفي نفس الوقت تمثل خَطا دفاعيا على الإسلام ورسول الله.

     وقد انتقلت الفكرة إلى المغرب في القرن السابع الهجري حيث تم الاحتفال به بصفة رسمية واتخذته الدولة المرينية عيدا دينيا رسميا.

      يقول الباحث المرحوم الأستاذ محمد المنوني: ” كان أول من احتفل بالمولد النبوي من بني مرين هو ماهد هذه الدولة يعقوب بن عبد الحق، فأقام ليلة المولد بفاس واستمع إلى قصائد الشعراء وكلمات الخطباء، ثم أحدث ابنه يوسف تعميم هذا الاحتفال في جميع جهات المغرب. صدر هذا عنه لما كان في قلعة صبرة من إقليم الريف. آخر صفر عام 691/1292 ميلادية حسب روض القرطاس، وكان هذا الاحتفال بإشارة من الفقيه أبو طالب عبد الله بن أبي القاسم العزفي الذي كان أمير سبتة، وقد كان الذي أنابه في الإشراف على إقامة رسم الاحتفال بفاس هو خطيب القرويين أبو يحيى محمد أبي الصبر أيوب بن يكنول الجاناتي، وبهذا صار يوم الثاني عشر من ربيع الأول عيدا مولديا عاما بالمغرب.

     وقد أورد الأستاذ الحسن العبادي في كتابه” النوازل” معزوا إلى فتوى للمرحوم التمنارتي يرى أن إقليم سوس لم يعرف الاحتفال بهذا العيد إلا في القرن العاشر، وكان أول من أظهر ذلك وأحيى ليلة المولد خطيب الجامع الكبير بتارودانت الفقيه محمد بن أحمد التلمساني المعروف بابن الوقاد، ومما جاء في فتوى سيدي عبد الرحمان بن محمد الجزولي التمنارتي عن الاحتفال بعيد المولد النبوي: فقد سألتني أيدك الله عن اجتماع القبائل برابطة “آسا” من اجتماعهم بليلة عيد المولد النبوي للذكر والتلاوة وتشريفه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من أنواع البر وأن بعض الطلبة قدح في ذلك وأنه بدعة لا يجوز، فاعلم أيدك الله أن سلف هذه الأمة وخلفها أجمعوا على تعظيم مولده الشريف وذكر معاهدة ونشر ذلك للخاص والعام ولعاجز الأمة وصبيانها حتى يستقر بذلك حبه في قلوبهم ويصم حاضرهم وبواديهم.

     وقد جرى عمل الناس من ملوكهم وفضلائهم شرقا وغربا حاضرة وبادية بتعظيم مولده الشريف ثم يقول: والذي انتهى إليه عملنا وفاض على ألسنة الأقاليم أن المولد النبوي الشريف من تونس وسائر أمصار إفريقية وأمصار المغرب الأقصى من تلمسان ومدينة فاس ومراكش ومدينة تارودانت أن ملوك هذه الأقطار ووزرائها يقومون بما يجب لأبهته وزينته ولم تعلم لذلك منكرا ولا سمعنا به.

      ويقول العلامة المرحوم علال الفاسي في إحدى مقالاته: “ومن عجيب الأمر أن يهمل أمر المولد النبوي في بعض الأوساط بينما تحيى ليالي عيد الميلاد المسيحي بصفة دائمة في جميع العائلات في البلاد العربية مجاراة للمسيحيين وما ذلك إلا لأن هذه الليلة يحييها الأوروبيون على الطريقة المعروفة الممزوجة من الرقص والخمور والتلهي الأمر الذي كان يجب أن تطهر منه ليلة ولد فيها، ثم يقول: والمولد النبوي مع بداية عصر النهضة المغربية ومبعث الحركة الوطنية الممزوجة بالحركة السلفية كانت تقام التجمعات الكثيرة ليتحدث الناس عما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من تضحيات في سبيل تبليغ الدعوة وخدمة قضية الإسلام وكان مفعول ذلك يعظم كل سنة فيدفع الناس للتملي بالمعاني السامية وتوطيد العزم على البذل والكفاح في سبيل التحرر ثم يذكر أنه غالبا ما كان يعتقل العلماء الوطنيون من طرف الإدارة الاستعمارية عقب خروجهم من المساجد بعد إحياء ليلة عيد المولد النبوي.

     وجاء في المعيار (ج11 ص:278) للإمام الونشريسي بصدد فتوى ابن عباد بإباحة عمل المولد النبوي ما نصه “وسئل الولي العارف بالطريقة والحقيقة أبو عبد الله بن عباد رحمه الله ونفع به عما في مولد النبي صلى الله عليه وسلم من وقود الشمع وغير ذلك لأجل الفرح والسرور بمولده عليه السلام فأجاب: “الذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشموع وإمتاع البصر وتتره السمع والنظر والتزين بما حسن من الثياب وركوب فاره الدواب أمر يباح لا ينكر قياسا على غيره من أوقات الفرح والحكم بأن هذه الأشياء لا تسلم من بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم العهود وتقشع به ظلام الكفر والجحود ينكر على قائله لأنه مقت وجحود وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة وترده الآراء المستقيمة”.

     قال بعض الفضلاء:” فكلام هذا الولي يدل على كمال محبته وحسن طريقه وما أنكر من أنكر ما يقع في هذا الزمان من الاجتماع في المكاتب للأطفال إلا خيفة المناكر واختلاط النساء والرجال فإذا أمن ذلك فلا شك في حسن ما يفعل من الاجتماع وذكر محاسنه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في سائر البقاع… واختار جماعة من العلماء رضي الله عنهم الفطر في يوم المولد لأنه يوم سرور والتوسيع على العيال بما أمكن من الميسور وذكر ابن عباد رحمه الله ونفع به خرج في يوم ميلاده عليه السلام إلى خارج البلاد فوجد الولي الصالح الحاج ابن عاشر رحمة الله عليه مع جماعة من أصحابه فاستدعوه لأكل الطعام قال: فاعتذرت بأني صائم فنظر إلي الشيخ نظرة منكرة، وقال لي إن هذا اليوم يوم فرح وسرور فلا يستقيم فيه الصيام لأنه يوم عيد.

     قال ابن مرزوق في “جنا الجنتين في شرف الليلتين”: “سمعت شيخنا الإمام موسى بن الإمام رحمه الله وغيره من مشيخة المغرب يحدثون فيما أحدث في ليالي المولد في المغرب، وما وضعه العزفي في ذلك واختاره وتبعه في ذلك ولده الفقيه أبو القاسم وهما عن الأئمة فاستصوبوه واستحسنوا ما قصده فيها في والقيام به” ثم قال بعد كلام ولا شك أن المسلك الذي سلكه العزفي مسلك حسن إلا أن المستعمل في هذه الليلة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام والقيام بإحياء سنته ومعونة آله ومساهمتهم وتعظيم حرمتهم والاستكثار من الصدقة وأعمال البر وإغاثة الملهوف وفك العاني ونصر المظلوم هو الأفضل”.

الاحتفال بمولد النبي تطبيق عملي لصدق محبته:

     ثم إن الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام تطبيق عملي لصدق محبته ولكونه أعظم محبة تستغرق قلب الإنسان المؤمن والتي تقتضي تعظيمه وتوقيره فلا غلو في الحب وإنما الغلو في اتخاذ معبود من دون الله.

فالحب والتعظيم لمن هو عين الإيمان يقول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون”.

     والفرح برسول الله عليه الصلاة والسلام مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى:” قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل أ الله أذن لكم أم على الله تفترون”(يونس 58 و 59) فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي أعظم رحمة” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”(الأنبياء107)، ومعرفة شمائل الرسول ومعجزاته وإرهاصاته تستدعي كمال الإيمان به وزيادة المحبة إذ الإنسان مطبع على حب الجميل خَلقا وخُلقا.

     علما وعملا حالا واعتقادا ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل من أخلاقه وشمائله عليه الصلاة والسلام وزيادة المحبة لإيمان مطلوبان شرعا، فما كان يستدعيهما مطلوب كذلك.

     والاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام تطبيق عملي لإظهار التحدث بنعمة الله التي أمرنا الله بها “وأما بنعمة ربك فحدث” وإظهار الفرح بمولده عليه الصلاة والسلام ووضع الولائم وإطعام الطعام وإكرام الفقراء والاجتماع للذكر هو الشكر العملي الذي يرضي الله، وبه يتحقق المسلم بالاستجابة لأمر مولاه ” اعملوا آل داوود شكرا”.

     ومن هنا يتضح أن إحياء ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام بشروطها نوع من شكر النعمة وهو واجب قرآني صريح وكل خير تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة ولم يشتمل منكر فهو من الدين.

     وقول القائل إن هذا لم يفعله السلف ليس هو دليلا له بل هو من عدم الدليل فقد سمى الشارع بدعة الهدى سنة حسنة ووعد فاعلها أجرا فقال عليه الصلاة والسلام” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” والله تعالى يقول” وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك”.

     وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين”(هود) يتضح منه أن الحكمة في قص أنباء الرسل عليهم السلام تثبيت فؤاده الشريف بذلك ولا شك أننا اليوم نحتاج إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره صلى الله عليه وسلم إذ فيها الذكر والذكرى والتذكر للمؤمنين.

        ويخلص مما تقدم أن الاجتماع لأجل المولد النبوي هو عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم والاستكثار من الصدقة وأعمال البر وهو من العادات الخيرة الصالحة التي تشتمل على منافع كثيرة وفوائد جمة تعود على الناس.

     وذكر النبي صلى الله عليه وسلم والتعلق به يجب أن يكون في كل حين ويجب أن تملأ به النفوس، نعم إنه في شهر ولادته يكون الداعي أقوى لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض فيتذكرون الماضي بالحاضر وينتقلون من الشاهد إلى الغائب وأن هذه الاجتماعات هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله وهي فرصة ذهبية ينبغي أن لا تفوت بل وجب على العلماء أن يذكروا الأمة بأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته ومعاملته وعباداته وأن ينصحوهم ويرشدوهم إلى الخير والفلاح ويحذروهم من البلاء والبدع والشر والفتن.

المنكرون لعيد المولد مخالفون لسبيل المؤمنين:

     لقد تبين أن عيد المولد هو عيد لجماعة المسلمين المؤمنين ويشمله قوله صلى الله عليه وسلم: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” أي أن من سن في الإسلام سنة حسنة فله ثواب فعله ولا يفرق الحديث بين عمل مجتهد وغير مجتهد فمن سن معنى يصبح به الناس في الارتباط والاتحاد بدرجة لا تقبل الانحلال أو سن أي معنى من المعاني التي لا تخالف لا كتابا ولا سنة سواء في العادات أو العبادات فهو مثاب بلا شك وإن لم يكن من المجتهدين.

     وقد توعد الله من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان فإذا اتفق المؤمنون على إيجاب شيء أو استحبابه أو تحريمه أو كراهته أو إباحته فهذا سبيلهم ويدل عليه قوله تعالى:”كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” ووجه الدلالة منها أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، وقوله تعالى” ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا”.

     فمن مقاصد الإسلام العظيمة توحيد كلمة المسلمين وجمع قلوبهم ولم شملهم ورص صفوفهم ولذا استفاضت نصوص الكتاب والسنة بأمر العباد بالاجتماع والألفة ونهيهم عن الاختلاف والفرقة ومن ذلك قوله تعالى:” واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” وقوله سبحانه:” وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون” وقوله تعالى:” ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا على كل حزب بما لديهم فرحون” وقوله صلى الله عليه وسلم:” يد الله مع الجماعة” ونهيه صلى الله عليه وسلم عما يسبب الفرقة ويؤدي إلى الفتنة في المجتمع المسلم:” لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض” حقا، صلى الله عليه وسلم تسليما.

* نقلا عن منبر الرابطة، العدد:14، ص: 9-8/الأربعاء 12 ربيع الأول 1432هـ الموافق 16 فبراير 2011م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق