مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

تجليات السلوك الصوفي عند المرأة بفاس قراءة في نصوص مناقبية

د. محمد الهاطي، باحث بمركز الأمام الجنيد  

       يُجمع جل أصحاب كتب التراجم والمناقب، ممن أرخوا لمدينة فاس ورجالاتها -قديما وحديثا- على ضياع أخبار العديد من الفضلاء والفاضلات الموصوفين بالعلم والصلاح والولاية، فهذا صاحب “التنبيه على من لم يقع به من فاضلات فاس تنويه” يقول في مطلع كتابه: “ومعلوم من شأن أهل هذه  البلاد (يقصد المغربية) عدم الاعتناء بالتعريف والتصدي لذلك بتأليف أو تصنيف، فكم من إمام به اعتناء واحتفال، بل ألقي في زوايا الإغفال والإهمال”[1]، وفي كتاب “سلسلة الذهب المنقود في ذكر الأعلام من الأسلاف والجدود” للفقيه محمد الخياط الدكالي المنشزائي يقول: “كم من عالم كبير وولي شهير، في القطر المغربي أهمل التعريف به المغاربة المتقدمون منهم والمتأخرون حتى التحق عند المتأخرين بمن جهل حاله وزمانه”[2].

    يضاف إلى هذا السبب المتمثل في الإهمال وقلة الاعتناء، عوامل أخرى أساهمت في ضياع أخبار ومناقب العديد من فضلاء وفاضلات مدينة فاس وغيرهم؛ منها طبيعة السلوك الصوفي  لهؤلاء الرجال والنساء، فقد كانوا رضوان الله عليهم -مع علو قدرهم وجلالة علومهم- كثيرا ما يتهمون أنفسهم بالعجز والتقصير، بل يعتقدون أنهم ليسوا أهلا للتأليف والتصدير، وهي شيم وأخلاق حاول العلامة محمد بن جعفر الكتاني رصدها من خلال تحفته الموسومة بـ :”سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس“؛ سلوة ضمت أنفاس خاصة الناس وعامتهم، رجالهم ونسائهم، بل شملت حتى الشهيرات بأحوال الجذب من المُولهات بجلال القرب، الهائمات في جمال الأنس، الغائبات عن جميع الرسوم والأكوان، فكان له الفضل -رحمه الله- في إماطة اللثام عن تراجم هؤلاء الصلحاء والصالحات، معتمدا في ذلك كله أسلوب الحكي والسرد تارة، والتلويح والإشارة تارة أخرى، قاصدا بذلك إيقاظ الهمم وشحذ العزائم، وكيف لا والقوم تحيى القلوب بذكرهم، وتتنزل الرحمات عند سرد سيرهم، حتى قيل:

         ما مات من كان مذكورا روايته
         وعاش قوم ولم تذكر مآثـــرهم

 

قد مات قوم وهم في الناس أحياء
فمــــــــــات ذكرهم والقوم أحياء

    سنحاول في هذا المقال الموجز تسليط الأضواء على تراجم خمس صالحات ممن أقبرن بمدينة فاس، والوارد ذكرهن في كتاب “سلوة الأنفاس”؛ منهن العالمة والمتعلمة والمرشدة والمنقطعة وربة البيت، كلهن شموس للاقتدا ونجوم للاهتدا، نضعها بين يدي القارئ الكريم عسى الله أن ينفعنا بها جميعا:

1- السيدة فاطمة بنت عبد الله: امرأة صالحة طاهرة عفيفة، اشتهرت بالصلاح والولاية، وكثرة البرور ببعلها، والقيام بشؤون أسرتها، وإكرام ضيفها، واحترام جارها، وبسبب هذه الخصال نالت من الفضل العظيم ما نالت. وقد عاصرت الشيخ العارف بالله سيدي إبراهيم الزواري، الذي كان يكن لها احتراما وتقديرا كبيرين، فقرر زيارتها في بيتها الكائن بزنقة “حجامة” بفاس القرويين، فطرق الباب وفتحت له واستضافته، فتأمل أحوالها  في العادات والعبادات فوجدها لا تزيد على أداء الفرائض وما يتعلق بها الكثير، سوى أنها كانت كثيرة البرور بزوجها، فعلم الشيخ أن هذه السيدة نالت ما نالت من الفضل بقيامها بحقوق الله تعالى فيما أمرها به من حق اتجاه زوجها.[3]

 2- السيدة آمنة بنت سيدي عبد الرحمن الفاسي:  هي أخت العلامة سيدي محمد بن عبد الرحمن الفاسي، المرأة  المقعدة الصالحة القانتة، جمعت مكارم الأخلاق كلها؛ من حلم وهيبة وسكينة ووقار ولين، وكان لسانها لا يفتر عن ذكر الله، تلازم الصمت في كل وقت وحين، لها سبحة لا تفارق أناملها في الصحة والمرض، و لها من الناس أتباع يلازمونها، فإذا اجتمع إليها النساء وأكثرن الكلام في مجلسها بغير ذكر الله، زجرتهن وأمرت بخروجهن عنها.

 توفيت رحمها الله أوائل ذي الحجة الحرام متم سنة تسع وثلاثين ومائة وألف للهجرة، ودفنت بزاوية جدها عند الباب بروضة الحاج الشعير بفاس.[4]

3- المجذوبة السيدة آمنة الساكمة: امرأة غائبة منقطعة عما سوى الله، كانت تعتريها أحوال الجذب فتلزم الصمت والسكون، وتغضب إذا انتهكت حرمات الله، وكانت ذات هيبة ووقار، ولا تطلب من أحد شيئا، ومن أعطاها شيئا أخذته، وفي بعض الأحيان تمتنع عن أخذه، أو تعطيه للغير. ولها مكان تجلس فيه بجانب حوانيت الشطَاطَبِيين بسوق الغزل من فاس القرويين، وكان الناس ينسبونها إلى الخير والصلاح. توفيت رحمها الله حوالي سنة خمسين ومائة وألف، ودفنت قرب باب الساكمة، وضريحها هناك إلى يوم الناس هذا.[5]

 4- العارفة بالله السيدة رقية بنت محمد بن عبد الله معن: امرأة صادقة منقطعة عن الدنيا وزخرفها. ورثت عن والدتها السيدة عائشة بنت شقرون الفخار أحوالا سنية وأخلاقا كريمة، وكان أخوها الأصغر كثير التعظيم لها والثناء عليها، فقد شهد لها بالمعرفة والرسوخ في طريق القوم، ومما يؤثر عنها أنها كانت زاهدة في الدنيا رافعة همتها متعففة عما في أيدي الناس.

   وفي يوم وفاتها فرحت فرحا شديدا، وقبل لحظات من وفاتها سألت عن دخول وقت صلاة الظهر؟ فقيل لها أن مؤذن الزوال قد أذن، فصلت الظهر والتحقت بالرفيق الأعلى. وقد حضر جنازتها ثلة من العلماء الأفاضل، ووري جثمانها الثرى بعد زوال يوم السبت حادي عشر ذي القعدة سنة سبع وثمانين وألف.[6]

5- العالمة السيدة عائشة بنت علي بونافع: حفيدة سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي من بنته السيدة آمنة، كانت -رحمها الله-  لينة الكلام، كريمة المعاشرة خصوصا مع بعلها، ذات أخلاق عالية وخاصة الصبر، فقد توفي زوجها وأولادها منه والكثير من أفراد عائلتها ولم تبك على أحد منهم بكاء الصياح والنحيب، وإنما صدر منها بكاء خفيف بالدمع لا غير.[7]

   وكانت كثيرة الذكر والمواظبة على قراءة الأوراد وزيارة الصالحين والصالحات، ومحبة أهل العلم والخير من المنتسبين، كما يروى عنها ملازمة مجالس العلم، وخاصة “مجلس البخاري” على أبي العباس بن مبارك الذي يُقَام بعد صلاة الصبح بضريح المولى إدريس الأزهر، وتحضر أيضا مجالس وَلَدها سيدي عبد المجيد في “النصيحة الكافية” و”رسالة بن أبي زيد” و”شمائل الترمذي” التي كانت تقام مابين العشائين وبعد صلاة الصبح بالضريح الإدريسي. توفيت رحمة الله عليها سنة سبعة وسبعين ومائة وألف.

      مما سبق يمكن القول أن الكتاني استطاع  من خلال مؤلفه “سلوة الأنفاس”، أن يسلط الضوء على مجموعة من النساء الشهيرات بالعلم والصلاح والولاية باعتبارهن فاعلات بسلوكهن الصوفي والأخلاقي في المجتمع، ولعل الباعث والقصد الخفي والغير المعلن الذي جعل الكتاني يخصص صفحات من كتابه “السلوة” لسرد سير وأخبار  هذه الطائفة من صالحات فاس اللائي استطعن بثقافتهن وسلوكهن الصوفي المتفاعل مع المجتمع ترسيخ مجموعة من القيم الإنسانية السامية، يتمثل أساسا في رغبة المؤلف الأكيدة في إحياء وبعث قيم أخلاقية راقية منتشرة في المجتمع المغربي الأصيل.

الهوامش


[1]– مخطوط خاص اللوحة 5 . 

[2] – مخطوط ضمن مجموع اللوحة 82.

[3]–  سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، لمحمد بن جعفر الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء ، ط 1، 2004، ج: 1 ص: 153

[4]–  نفسه، 1 ص: 364

[5]– نفسه، ج: 3 ص: 259

[6]–  نفسه، ج : 2 ص: 330

[7]– نفسه، ج : 1 ص: 212

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق