مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

بين الشريعة والحقيقة

حورية بن قادة باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

مما يتردد كثيرا في الحقل الإسلامي: مصطلحا الشريعة والحقيقة، أو علم الظاهر وعلم الباطن، ولتأكيد المعنى الذي أُريدَ بهذين العلمين، وحتى نضع أنفسنا في الإطار الصحيح بعيدا عن كل تحريف وتخريف، وعن كل زيغ وتدليس، نورد هذه الحقيقة مما هو صريح في حديث جبريل عليه السلام، الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث ورد فيه تقسيم الدين إلى ثلاثة أركان، حيث قال: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلا”، فقال له: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان: قال: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره”. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك…”، فقال صلى الله عليه وسلم: “يا عمر أتدري من السائل؟” قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”.[1]

فركن الإسلام: هو الجانب العملي؛ من عبادات ومعاملات وأمور تعبدية، ومحله الأعضاء الظاهرة الجسمانية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالشريعة، واختص بدراسته السادة الفقهاء.

وركن الإيمان: وهو الجانب الاعتقادي القلبي، من إيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر…، وقد اختص بدراسته السادة علماء التوحيد.

وركن الإحسان: وهو الجانب الروحي القلبي؛ وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وما ينتج عن ذلك من أحوال وأذواق وجدانية، ومقامات عرفانية، وعلوم وهبية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالحقيقة، واختص ببحثه السّادة الصوفية”.[2]

فالإتيان بالأعمال الظاهرة في الصلاة، والتزام أركانها وشروطها، وغير ذلك مما فصّل فيه الفقهاء يمثل جانب الشريعة، وهو جسد الصلاة.

وحضور القلب مع الله تعالى في الصلاة يمثل جانب الحقيقة، وهو روح الصلاة.

فأعمال الصلاة البدنية هي جسدها، والخشوع روحها، وما فائدة الجسد بلا روح؟ وكما أن الروح تحتاج إلى جسد تقوم فيه، فكذلك الجسد يحتاج إلى روح يقوم بها. ولهذا قال الله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾.[3]

قال الإمام القشيري في ذلك: “الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكل حقيقة غير مقيَّدة بالشريعة فأمرها غير محصول، والشريعة جاءت بتكليف من الخالق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدّر، وأخفى وأظهر”.[4]

ومن هنا ندرك التلازم الوثيق بين الشريعة والحقيقة كتلازم الروح والجسد، والمؤمن المتحقق هو الذي يجمع بين الشريعة والحقيقة، وهذا ما يصبوا إليه الصوفية، مقتفين بذلك أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.

ولذا يقول الصوفية في قواعدهم المشهورة: “كل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة”.[5] فالشريعة شجرة تثمر الحقائق، ولا حقيقة بدون شريعة، كما لا ثمار بدون أشجار.

وفي ذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: “من تصوف ولم يتفقه، فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف، فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”.[6]

وقد علق الشيخ أحمد زروق على كلام الإمام مالك قائلا:

“تزندق الأول: لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام.

وتفسّق الثاني: لخلو عمله من التوجه الحاجب منهما عن معصية الله، ومن الإخلاص المشترط في العمل لله.

وتحقّق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك”.[7]

ورمى ابن تيمية من أنكر علم الباطن بالكفر، وبأن منكِر هذا العلم شرّ من اليهود والنصارى؛ فالمرء في قوله إذا قال: “أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى. وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بُعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض، فهو كافر وهو أكفر من أولئك، لأن علم الباطن، الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها، هو علم بحقائق الإيمان الباطنة. وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة”.[8]

وذكر الإمام الشاطبي في “الاعتصام” أن أبا علي الدقاق- وكان من أقران الجنيد- قال: “كنت مارّا في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر”.[9]

وقال حاجي خليفة متحدثا عن علم التصوف: “ويقال له علم الحقيقة أيضا، وهو علم الطريقة؛ أي تزكية النفس عن الأخلاق الردية وتصفية القلب عن الأغراض الدنية، وعلم الشريعة بلا علم الحقيقة عاطل، وعلم الحقيقة بلا علم الشريعة باطل، فعلم الشريعة وما يتعلق بإصلاح الظاهر بمنزلة العلم بلوازم الحج، وعلم الطريقة وما يتعلق بإصلاح الباطن بمنزلة العلم بالمنازل وعقبات الطريق، فكما أن مجرد علم اللوازم ومجرد علم النوازل لا يكفيان في الحج الصوري، بدون إعداد اللوازم وسلوك المنازل، كذلك مجرد العلم بأحكام الشريعة وآداب الطريقة لا يكفيان في الحج المعنوي بدون العمل بموجبيهما”.[10]

فهذه العلوم متلازمة تلازم الأرواح للأجساد، ولا يصح أحدها من دون الآخر، وقد أشار إلى ذلك أيضا، الشيخ أحمد زروق، حيث قال: “صِدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه، ولا يصح مشروط بدون شرطه، ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾.[11] فلزم تحقيق الإيمان، ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾.[12] فلزم العمل بالإسلام. فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه لله تعالى، ولا هما [الفقه والتصوف] إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلا فيها، كما لا كمال له إلا بها. فافهم”.[13]

وقال ابن قيم الجوزية في معرض حديثه عن مصطلحي الفناء والبقاء: “… من فنى فقد تأهل للبقاء بالحق، وهذا البقاء هو بَعْدَ الفناء، فإنه إذا تحقق بالفناء رفع له علم الحقيقة، فشمّر إليه سالكا في طريق البقاء، وهي القيام بالأوراد، وحفظ الواردات، فحينئذ يُرجى له الوصول”.[14]

وقال ابن عربي: “لما رأى القوم أنهم عاملون بالشريعة خصوصا وعموما، ورأوا أن الحقيقة لا يعلمها إلا الخصوص، فرّقوا بين الشريعة والحقيقة، فجعلوا الشريعة لما ظهر من أحكام الحقيقة، وجعلوا الحقيقة لما بطن من أحكامها”.[15]

وقال أيضا: “اعلم أن الله خاطب الإنسان بجملته وما خصّ ظاهره من باطنه، ولا باطنه من ظاهره، فتوفرت دواعي الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم، وغفلوا عن الأحكام المشروعة في بواطنهم، إلا القليل فإنهم بحثوا في ذلك ظاهرا وباطنا فما من حكم قرّروه شرعا في ظواهرهم إلا ورأوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم، أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرائع، فعبدوا الله بما شرع لهم ظاهرا وباطنا، ففازوا حين خسر الأكثرون. ونبغت طائفة ثالثة ضلّت وأضلّت، فأخذت الأحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم وما تركت من حكم الشريعة في الظواهر شيئا، تسمى الباطنية، وهم في ذلك على مذاهب مختلفة، وقد ذكر الإمام أبو حامد في كتاب “المستظهر” له في الرد عليهم شيئا من مذاهبهم وبيّن خطأهم فيها، والسعادة إنما هي مع أهل الظاهر وهم في الطرف والنقيض من أهل الباطن، والسعادة كل السعادة مع الطائفة التي جمعت بين الظاهر والباطن وهم العلماء بالله وبأحكامه”.[16]

فالدين الإسلامي إذن، عُني بالظاهر والباطن، وعنايته بالباطن أكثر، لأن الباطن هو الأساس وهو المقصود، ولقد تحقق السلف الصالح، من الصوفية بالعبودية الحقّة، والإسلام الصحيح، إذ جمعوا بين الشريعة والحقيقة، وبين الظاهر والباطن، فشكّلوا بذلك نماذج في الكمال الخلقي.

فالدين إن خلا من حقيقته جفّت أصوله، وذوت أغصانه، وفسدت ثمرته.

  

الهوامش

 

[1]– صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، رقم الحديث: 1.

[2]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص: 303.

[3]– سورة البقرة، الآية: 110.

[4]– الرسالة القشيرية في علم التصوف، أبو القاسم القشيري (ت465ﮪ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، ط: 1426ھ- 2005م، ص: 82-83.

[5]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 304.

[6]– المصدر السابق، ص: 361-362.

[7]– قواعد التصوف، أحمد زروق، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ-2007م، ص: قاعدة: 4، ص: 24.

[8]– الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ابن تيمية، دار البعث، قسنطينة، ص: 104.

[9]– الاعتصام، الشاطبي (790)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الدار الأثرية، عمان، الأردن، ط2، 1428-2007م، 1/151-152.

[10]– كشف الظنون، حاجي خليفة، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط:1428ھ- 2007م، 1/344.

[11]– سورة الزمر، الآية: 7.

[12]– سورة الزمر، الآية: 7، قوله تعالى: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى… الآية﴾.

[13]– قواعد التصوف، أحمد زروق، قاعدة: 4، ص: 22.

[14]– مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار الحديث، القاهرة، ط: 2005م، 3/297.

[15]– الفتوحات المكية، ابن عربي، المطبعة الميمنية بمصر التابعة لدار الكتب العربية الكبرى، 1329ھ، 2/563.

[16]– المصدر السابق، 1/334.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق