وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

بهجة الناظرين، لابن عبد العظيم الزموري

 

 

محمد بنشريفة

تشتمل المكتبة التاريخية في المغرب، على نوع من المؤلفات الإخبارية، يبدو أنه كان يلقى إقبالا في بعض البيئات. ويتمثل هذا النوع في مجموعة وافرة من كتب المناقب التي انتهى إلينا منها عدد كبير.
ولا يعرف بالضبط، متى ظهرت أول حلقة في هذه السلسلة الطويلة، من مؤلفات المناقب والكرامات، التي بدأت قليلا ثم كثرت في القرون المتأخرة كثرة تسترعي الأنظار، وتستثير الانتباه، فقد سرد فقيد التدوين المرحوم عبد السلام ابن سودة في “دليله” عشرات من هذه المؤلفات.
إن سبب كثرة هذه المؤلفات يرجع إلى أنه – كما يقرر ذلك ليفي بروفنسال – ليس في أي بلد إسلامي ما يعدل المغرب الأقصى في عدد الأولياء والصلحاء والشرفاء والمتشرفين المحاطين بالتبجيل والاحترام في الأوساط الحضرية والقروية مهما اختلفت مستوياتهم الفكرية أو المادية، وتباينت مقوماتهم الروحية، وتداخلت أغصان انتسابهم إلى شجرة الشرف النبوية”.
ومن ثم فإننا –  يقول هذا المؤرخ أيضا – “قلما نجد أسرة شريفة أو طائفة صوفية، وقلما نسمع بشيخ اشتهر بالصلاح والعلم لم نسجل أخبارهم في كتاب من كتب التراجم العامة أو الخاصة”.
ويمكن القول بأن هذا النوع من الكتابة التاريخية بدأ بعد ظهور الربط والزوايا والصالحين والصوفيين منذ الفتنة البرغواطية، ثم فضا في العصور التالية لأسباب مختلفة وعوامل متعددة.
إن الموضوع الأول في كتب المناقب هو سير الصلحاء وتراجم الأولياء مع التوسع في ذكر كراماتهم ومناقبهم، والتعرض لسرد أشياخهم، وعد أصحابهم وأتباعهم، ولكن هذه الكتب إلى جانب هذا كله حافلة بالإشارات التاريخية العديدة المفيدة.
ومن أقدم هذه الكتب :
– التشوف، لرجال التصوف للتادلي أبي يعقوب يوسف المعروف بابن الزيات.
– المستفاد لابن الكتاني.
– دعامة اليقين، لأبي العباس العزفي.
– المعزى في أبي يعزى للصومعي التادلي.
– والسلسل العذب للحضرمي.
– وأنس الفقير وعز الحقير لابن قنفذ القسنطيني الذي ولى القضاء بدكالة.
– وإثمد العينين في مناقب الأخوين (الهزميريين) لابن تجلات.
– والمقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف للبادسي.
– وكتاب بهجة الناظرين.
وهو الذي أريد أن أعرف يمحتواه، من حيث إنه يؤرخ لرباط من ربط الصلاح والعلم والجهاد، ويعرف برجال من أهل الفضل والخير والولاية في بلاد دكالة، ألا وهو رباط عين الفطر، الذي كان له دور كبير في بث الإشعاع الروحي والفكري في دكالة طوال القرون المتقدمة من تاريخ المغرب، وذلك خلال دول مغراوة والمرابطين والموحدين والمرينيين.
إن كتاب “بهجة الناظرين” يعد في طليعة المصادر القليلة الباقية التي نجد فيها نبذا تاريخية عن بعض مظاهر الحياة وملامحها العامة في دكالة خلال العصور الأولى من تاريخنا.
وإذا كانت بعض كتب المناقب التي أشرت إليها قد نشرت، فإن كتاب ابن عبد العظيم ظل إلى الآن قليل التناول، محدود التداول.
وقد يخيل – لمن يتصفحه أول مرة – أن أخباره من قبيل الأخبار الواهية، التي يتطرق إليها الشك، ويتلقاها القارئ بالتحفظ، ولكن إمعان النظر في المحتوى العام للكتاب، ومعارضته بما في المصادر الإخبارية والتاريخية المعروفة بنفس ذلك في الجملة.
ذلك أن بعض رواياته موجودة في كتاب “التشوف” ومؤلفه من أهل العلم والضبط، كما أن بعض المؤرخين نقلوا عنه، ومنهم الناصري مؤلف الاستقصا، الذي أخذ منه الخبر المتعلق ببناء سور مدينة مراكش في عهد علي بن يوسف ابن تاشفين، وكذلك الفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوي الذي اعتمد عليه في مواضع من كتابيه : “أسفي وما إليه” و “جواهر الكمال في تراجم الرجال”.
والقاضي العباس بن إبراهيم في كتابه ” الإعلام لمن حل مراكش وأغمات من الأعلام”.
ومع هذا فإن أخبار الكرامات العديدة التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد حجبت ما سواها، ولعلها صرفت الأنظار عما فيه من فوائد تاريخية.
ويضاف إلى ذلك كله أننا لا نكاد نعرف شيئا يذكر عن مؤلفه ابن العظيم مخلا اسمه الكامل الوارد في بعض النسخ المخطوطة من بهجة الناظرين كما يلي : أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد العظيم الزموري.
وقد ذكر الأستاذ عبد السلام ابن سودة في دليله أنه كان حيا بعد التسعمائة (هجرية) موافق سنة 1400 (ميلادية).
ولم يذكر مصدره في ذلك، بينما ذهب الأستاذ فور إلى القول بأنه كان معاصرا للسلطان أبي سعيد عثمان المريني (710-731هـ) وهذا قول باطل، لأن ابن عبد العظيم ورد في كتابه رسما مؤرخا بعام خمسين وثمانمائة.
ويبدو أن ابن عبد العظيم هذا من عائلة كان لها تعلق بالأمغاريين، إذ أن له جدا اسمه أيضا أبو عبد الله محمد بن عبد العظيم ألف كتابا أسماه :
الأخبار في كرامات الشرفاء بني أمغار.
وابن عبد لعظيم الحفيد أو الأصغر ينقل عن ابن عبد العظيم الجد أو الأكبر.
ويوجد في الخزانة العامة بالرباط تقييد في بعض شرفاء المغرب ينسب لعبد العظيم الزموري، وهو يبدأ بالحديث عن الأدارسة ثم الأمغاريين ولكن برواية مقتضبة مغايرة لما في بهجة الناظرين، ثم يعدد البيوتات المنتسبة إلى الشرف، ويبدو أنه تقييد منحول.
وذكر الأستاذ ابن سودة في دليله كتابا آخر قال إن اسمه : نتيجة الناظر في مناقب أهل عيد الفطر.
وقال إن الفقيه الكانوني وقف عليه ونقل منه، والذي يبدو لي أن هذا هو بهجة الناظرين نفسه، تصفحت فيه بهجة إلى نتيجة، والناظرين إلى الناظر.
إننا نجد في كتب التراجم المغربية مثل درة الحجال وجذوة الاقتباس عددا من الزموريين سجلت تراجمهم بسبب انتقالهم أو نشوئهم في فاس، ومثلهم في ذلك مثل أعلام عائلة ابن إبراهيم المشنزائيين، وجميعهم في الأصل ممن هاجروا من دكالة أو أجلوا عنها عندما ابتليت بالبربغاليين.
ولم يكن ابن عبد العظيم الجد وابن عبد العظيم الحفيد كل من ألف في صلحاء عين الفطر، فالأخير ينص في “بهجة الناظرين” على أن العلماء “لهم تصانيف عديدة في كراماتهم وشرف بيتهم” ويذكر منها :
1- الوسائل والزلفى، لأبي عمران موسى الزناتي.
2- مطالع الأنوار في كرامات الأشياخ بني أمغار، لأبي علي عمر بن عيسى الهنائي.
3- تحفة الأصفياء، في تعريف الأولياء. له أيضا.
4- أنس العارفين، في بني أمغار الصالحين، لم يسم مؤلفه.
5- مناقب البدلاء العشرة من بني أمغار، لم يسم مؤلفه أيضا.
كما أن ابن عسكر مؤلف دوحة الناشر ذكر أنه “ألف في مناقبهم – يعني الأمغاريين – صاحب التشوف والتجيبي ومحمد بن عياض وغيرهم”.
وصاحب التشوف هو ابن الزيات المعروف، وقد ترجم لبعض الأمغاريين في كتابه التشوف، ولا يبعد مع ذلك أن يكون خصهم في تأليف مستقل كما فعل مع أبي العباس السبتي، فقد ساق أخباره في التشوف ثم أفرده بالتأليف، أما التجيبي فيصعب القطع بتعيين من هو، فهل يكون القاسم بن يوسف التجيبي السبتي المتوفى 730 هـ مؤلف مستفاد الرحلة والاغتراب، والبرنامج الذين طبعا أخيرا ؟
وأما محمد بن عياض فلا نعرف هل المعني ولد القاضي محمد بن عياض المتوفى سنة 575 هـ أم حفيده محمد بن عياض المتوفى سنة 655 هـ.
وقد يكون الأخير هو المقصود ونحن وإن لم نجد في ترجمته ما يشير إلى ما ذكره ابن عسكر فإننا لا نستبعده، وكذلك فقد كان محمد بن عياض الحفيد ذا نزعة صوفية بحكم أخذه عن أبي الصبر أيوب السبتي الذي تعرف عنايته بتتبع  أخبار الصالحين في المغرب، ثم إن في بهجة الناظرين لابن عبد العظيم نصوصا تشير إلى صلات كانت بين الأمغاريين في تيط، وبين البيتين الكبيرين في سبتة، بيتي العياضيين والعزفيين.
فهو يذكر أن القاضي عياضا أتحف أبا محمد عبد السلام بن أبي عبد الله أمغار بكتابه : الإعلام، بحدود قواعد الإسلام.
وأما العزفيون، فسأشير إلى علاقاتهم بالأمغاريين أصحاب تيط فيما بعد…
إن هذه الكتب المؤلفة في الأمغاريين قد ضاعت – فيما يبدو – ولعلها كانت من محفوظاتهم أيام عزهم القديم في تيط ثم فقدت في ظروف الفتن والغزو البرتغالي وما تلاه من جلاء عن البلد، ولذلك فلم يبق منها إلا النقول التي أوردها ابن عبد العظيم في كتابه الذي سأتناوله بالتحليل الآن :
أريد أن أنبه في البداية إلى أن ابن عبد العظيم الزموري في كتابه : بهجة الناظرين. يركز على موضوعين وهما :
1) شرف الأمغاريين.
2) وكراماتهم.
وما سوى هذين الموضوعين فإنه يرد عرضا في أطواء الحديث عنهما.
أما شرفهم فقد اعترفت به ظهائر عديدة منذ قديم حتى ظهير السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي حصر فيه الأشراف بالمغرب، وقد أحصى الفقيه الكانوني المصادر التي صرحت بنسبهم وشرفهم، وانتقض ابن القاضي الذي طعن في نسبهم(1) وقال في آخر كلامه : “فمن أنكر شرفهم فكأنما أنكر الشمس في رابعة النهار”.
وأما الكرامات فهي غرض التأليف وشرطه.
وسوف أترك الخوض في هذين الموضوعين، وأتناول النص من الناحية الآتية :
أ- الوثائق.
ب- الأشعار.
ج- الأعلام.
د- الأخبار.

أ) الوثائق :
 يحتوي الكتاب على مجموعة من الوثائق الرسمية، وهي تتمثل في عدد من الظهائر والرسائل والأوامر الملكية والرسوم العدلية، وكلها تتعلق بالأمغاريين أصحاب تيط، وتنتمي إلى الدول المتعاقبة في المغرب منذ دولة مغراوة حتى أواخر دولة بني مرين، ويبدو مؤلف الكتاب حريصا على توثيقها وانتساخها من أصولها التي كانت في حوزة أصحابها.
وقد يناقش البعض في مدى صحة هذه الوثائق، ولكن تواريخها مضبوطة وأساليبها معروفة، بالإضافة إلى أنه جرت عادة ملوكنا منذ القديم في إصدار ظهائر التوقير والاحترام للشرفاء والمرابطين، وما يزال أهل هؤلاء يتوارثون هذه الظهائر ويحتفظون به إلى اليوم، وأنا أذكر هنا على سبيل المثال ذخيرة الظهائر التي توارثها آل الشيخ أبي محمد صالح في أسفي جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، وكثير منها يرقى إلى العصر المريني، ولا نعرف هل مازال بعض الأمغاريين يحتفظون بشيء من هذه الظهائر التي انتسخ منها ابن عبد العظيم أم لا.
إن أقدم وثيقة نجدها في هذا الكتاب ترقى إلى عهد بني يفرن وهي عبارة عن ظهير كريم بعث به الملك تميم بن زيري اليفرني إلى أبي جعفر إسحاق والد أبي عبد الله الأمغاري في شأن رفع الكلف والمطالب عنه وعن قرابته وجيرانه وأصهاره وخدامه وكل من تعلق به، واحترام حاشيته، لقد أشار المؤلف في كتابه مرتين إلى هذه الوثيقة ذكر في إحداهما أنها مؤرخة بعام عشرة وأربعمائة وأورد نصها في المرة الثانية وفي آخرها: كتب في ربيع الأول المبارك عام تسعة وأربع مائة.
ولابد أن في هذين التاريخين سقطا لأن تميما بن زيري اليفرني كان أميرا فيما بين عام 424 هـ وعام 446 هـ.
ومهما يكن الأمر فإن الكرامة التي حكاها صاحب القرطاس حول هذا الأمير يتناسب مع روح هذا الظهير ولفظه، وهذه الوثيقة تثير سؤالا وهو موقف الأمغاريين في تيط من برغواطة.
وفي الكتاب وثيقة واحدة ترجع إلى عهد المرابطين، وهي رسالة صادرة من حاضرة مراكش عن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بتاريخ عقب  ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة إلى أبي عبد الله محمد أمغار يعتقده في الأولياء ويسأله الدعاء.
وقد أخطأ تيراس وصاحبه حين ظن أن هذه الوثيقة موجهة إلى يوسف بن تاشفين واعتبرها لذلك مشكوكا في صحتها.
ويروي ابن عبد العظيم أن أبا عبد الخالق الأمغاري ترك لذريته ظهائر موحدية كثيرة في الإعفاء من المغارم والوظائف والكلف المخزنية، وقد أورد نص ظهير أمر به آخر ملوك دولة الموحدين إدريس بن أبي عبد الله محمد بن حفص عمر بن عبد المومن الملقب بأبي دبوس وهو موجه : “إلى السادة الشرفاء الساكنين برباط عين القطر كتب في شهر ربيع الآخر عام خمسة وستين وستمائة”. ولا غبار على هذا التاريخ. كما أثبت نص رسالة بعث بها الناصر الموحدي – حسب قوله – إلى أبي عبد الخالق الأمغاري يلتمس منه الدعاء لما عزم على الجواز إلى الأندلس بقصد الجهاد، ولكن تاريخ هذه الرسالة وهو 625 لا يتوافق مع زمن الناصر.
ولقد بلغت تيط أوجه الشهرة والحظوة في عهد المرينيين الذين كانوا يشملون الأمغاريين كغيرهم من الشرفاء والمرابطين، بكثير من الرعاية والعناية كما يدل على ذلك أمران كريمان.
أولهما من يوسف بن يعقوب بن عبد الحق إلى الأمغاريين كي يختاروا ثلاثة رجل منهم يتوجهون مع الوفد الرسمي للحج برسم حمل كسوة البيت الكريم وفيه تنويه باغ بهم، وانتداب الأشراف والمرابطين لوفد الحج كان معمولا به في الدولة المرينية، فابن الخطيب يخبرنا أن أحمد بن يوسف حفيد أبي محمد صالح قاد ركب الحجاز.
والأمر الثاني من أبي عنان فارس إلى عامله وخديمه محمد بن حسون كي يمنح أولاد أبي الحسن علي الأمغاري مائة دينار من الذهب العين الجارية لهم على قديم الزمن وحديثه في كل عام رعيا لسلفهم الصالح الشريف وعلو منصبهم في العلم والديانة والصلاح.
وهذا غير مستبعد من أبي عنان الذي كان له – كما كان لبني مرين عموما – محبة في أهل الخير والصلاح، ورحلته إلى سلا وتطارحه إلى وليها الأكبر ابن عاشر معروفة.
وأصول الوثائق التي يشتمل عليها الكتاب الرسمان اللذان صدر بهما كتابه لإثبات شرف الأمغاريين وكراماتهم، فقد كتبا بإطناب واضح وذيلا بعدد هائل من أسماء الشهود والمؤدين والموقعين.
والرسم الأول مؤرخ في عام ستة وتسعين وستمائة ويليه رسم بثبوت الأول في نفس التاريخ ثم شهادات بصحة المقابلة مؤرخة بعام 729 وعام 821 وعام 850 عن قضاة من أزمور وعين الفطر.
هذا وإن تحليل هذه الوثائق والوقوف عند الأعلام الواردين فيها يحتاج إلى دراسة خاصة.

ب) الأشعار :
يشتمل كتاب بهجة الناظرين على نصوص شعرية عديدة وهي على ضربين : أشعار زهدية على نحو ما نجد في كتب التصوف والمناقب كالتي نقرأها في التشوف وهي غير منسوبة.
وأشعار في مدح أعلام تيط من الأمغاريين أو تهنئتهم أو تعزيتهم ببعض المناسبات أو التوسل بصلحائهم، وهي من الناحية الفنية من النظم العادي، ودلالتها على المكانة الاجتماعية واضحة.
لقد أصبح أهل التصوف مقصودين بالمديح ومن أشهر النماذج في هذا الباب قصيدة طويلة للإمام البوصيري مطلعها :
قفا بي على الجرعاء من جانب الغـرب  ففيهــا حبيب لي يهيم بـه قلبـي
وفيها يمدح الدكاليين قوم أبي محمد صالح فيقول في أثنائها :
ألـم تـر مدحـي جـاء فيهـم محـررا            وما فيه من ضرب لعيـب ولا شطـب
ومـا أنـا من دكـالـة غـيـر أنـنـي              نسبـت إليهم نسبة الصـدق في الحـب
كـنسـبـة سلـمـان لبيــت نبـيــه                وما كان منهـم في قبـيـل ولا شعـب
جـزى اللــه خيـرا ملـة أخـرجتهـم           إلى الناس إخـراج الحبـوب من اللـب
والشعر الذي قيل في الأمغاريين دون هذا، فمن أبيات نسبت مرتين إلى الصوفي المعروف أبي العباس المرسي دفين الإسكندرية الذي زار تيط وعاش بين أهلها فقال يمدحهم :
بحمـد اللــه مــالـكــم حـــلال                وأنـتـم صـالـحـون كمـا يـقـال
وعيــن الفطــر قـد شهــدت بهـذا            فــلا يلفــى لبيتــكــم مـثـال
وأنـتــم آل رسـول اللــه  حـقــا             وآل رســـول اللـــه نعــم الآل
وكان لأبي العباس العزفي جد العزفيين المعروفين بسبتة تعق بالأولياء والصالحين ومن ثم نجده ينظم أبياتا في صدر كتاب له إلى أبي الحسن علي حفيد أبي عبد الله أمغار منها :
وإنـي لأتـقـاكــم بـصــدق                   مـودة وشـوق إذا لـم ألـقـكـم بـعـيـان
وأدنـو إليـكـم بـالـفــؤاد مـحـبـة             إذا لـم يكـن فـي المثــول تــدان
وفي أبيات أخرى تدل على حسن نيته وصدق مودته لأهل هذا البيت الأمغاري، وله قطعة ثانية فيهم يفتتحها هكذا :
وددت بعيـن الفطـر لـو كنـت ثـاويـا          جـوار بنـي أمغـار في عـز بيتهـم
ونجد في الكتاب قصيدتين طويلتين لشاعر مغربي لم نتمكن من الوقوف على ترجمته اسمه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الكيسي يمدح عموم الأمغاريين ويتوسل إلى الله بهم، مطلع الأولى :
بسـادة عيـن الفطـر قـدس روحـهـم  توسل إلى الرحمن في السـر والجهـر
ويبدو أنه من المتأخرين الذين أدركوا فترة الغزو البرتغالي سواحل دكالة، فهو يقول في هذه القصيدة :
ومـن علـى الغـرب القصـي وأهـلـه              بعافيـة تشفـى القلـوب من الذعــر
و رد الــذي فيــه مـن الفتـن التـي                أقـرت بأهلـيـه إلـى بلــد الكفـر
وثمة قصيدة طويلة لمن اسمه أبو عبد الله الفزازي ولعله الفتزاوي السلاوي مطلعها :
يا عيـن قطـرهـم قـد زدت عمـرانـا             لا أعدم اللـه فيـك الخيـر سكـانـا
وثمة قصائد أخرى في التوسل بالصلحاء الأمغاريين معظمها لناظمين غير مذكورين، وقصائد أخرى لبعض الطلبة الذين كانوا يقرؤون على الشيخ أبي عبد الله أمغار، ولعلها بمناسبة الختمات التقليدية، أما أشعار المناسبات الأخرى فهي مبثوثة في الكتاب كله.

ج) الأعلام :
في هذا الكتاب حشد كبير من أسماء وأعلام دكالة وغيرها في القديم.
كبني يطان الذين كانوا يتوارثون مشيخة صنهاجة وكانت لهم مصاهرة مع الأمغاريين، ولقد نزل ابن الخطيب في تجواله بدكالة عند أحدهم وهو الوالي أبو محمد ابن بطان ممدح الشعراء والزجالين، وهو الوارد ذكره في نونية الفقيه عمر الزجال المالقي :
ومـزدوجـات ينسـبـون نظـامـهـا           إلى ابن شجاع في مديـح ابـن بطـان
وقد مدحه ابن الخطيب وأطنب في وصف جوده.
ومن أعلام دكالة بنو حسون الذين كانوا منهم الولاة والعمال على أزمور وغيرها وقد نزل عندهم ابن الخطيب ومدحهم بشعر يقول فيه :
إحسانكـم يا بنـي يحيـى بـن حسـون         أزرى علـى كـل منثــور ومـوزون
وأعلام هنائيون ينتسبون إلى بني هنا من أحواز أزمور ومنهم محمد بن أبي القاسم الذي كان شيخا واليا عليهم، وأعلام من المشنزائيين وبني عبد العظيم الزموريين وغيرهم، وأكبر نسبة من أعيان دكالة في القديم هم الموقعون على رسم شرف الأمغاريين الذي سبقت الإشارة إليه.

د- الأخبار :
 في بهجة الناظرين مجموعة طيبة من الأخبار التي لها فائدتها ودلالتها، فمن النصوص التي لها صلة بتاريخنا العام ذلك النص الذي نقله صاحب الاستقصا عن ابن عبد العظيم في بناء سور مدينة مراكش وهو “أن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين لما عزم على إدارة السور على مراكش شاور الفقهاء وأهل الخير في ذلك، فمنهم من ثبطه ومنهم من ندبه إليه، وكان من جملة من ندبه القاضي أبو الوليد ابن رشد، ثم شاور أبا عبد الله محمد بن إسحاق المعروف بأمغار صاحب عين الفطر، فأشار ببنائه وبعث له من ماله الحلال وأمره أن يجعله في صندوق صائر البناء ويتولى الإنفاق في ذلك رجل فاضل، فقبل السلطان إشارته وعمل برأيه فسهل الله أمر البناء”.
وفيه دلالة لا تخفى على المساهمة والمشاركة التي عرف بها المغاربة من قديم، وبالنسبة لابن رشد، وهو هنا الجد، فإننا نقف في فتاويه على استفتاء أمير المؤمنين له في مثل ما ذكر.
ومن أهم الأخبار في الكتاب تلك التي يستفاد منها أطوار مدينة تيط منذ تأسيسها على يد الأمغاري الأول إسماعيل إلى عصر المرينيين، والمعلومات المتعلقة بالبلدان القريبة منها مثل أزمور ومازغان وفضالة وأنفا وأيير وإسكاون، وقد استعان تيراس في دراسته الأثرية لرباط تيط بالمعلومات الواردة في كتاب ابن العظيم حول تطور العمارة بها وبناء المساجد والصوامع والأسوار وغيرها، ومنها ما يزال ماثلا إلى الآن، وتجدر الإشارة إلى أن أهم شيء لفت نظر ابن الخطيب عندما زار تيط هو مسجدها الجامع ومنارته فقال : ” ومسجدها تضيق عنه المدائن منارا عاليا وبقلادة الأحكام حاليا”.
وثمة خبر مطول يشير إلى منبرين صنعا في سبتة لفائدة تيط، وتفيد هذه الأخبار أن الأمغاريين كانوا ذوي تعمير وإصلاح بما بنو من أسوار وحفروا من آبار وشيدوا من مساجد.
أما أخبار الحركة العلمية في تيط خصوصا والإقليم عموما فنجد في الكتاب قدرا صالحا منها، فقد تكررت الإشارة إلى إقراء المدونة في الفقه، وصحيح البخاري في الحديث، والتفسير والكلام، وثمة إشارة إلى نازلة كلامية اختلف فيها فقهاء الإقليم فرفع أمرها إلى فاس مما يدل على أن تيط كانت مركزا ثقافيا مثلما كانت رباطا صوفيا.
ومن أطرف الأخبار في هذا الباب هذا الخير الذي يدل دلالة بالغة على نفاق العلم والتأليف عند الأمغاريين.
“ثم إن العلماء رحمهم الله ورضي عنهم بم يزالوا قديما وحديثا يصنفون تصانيف في فنون العلم ويتحفون بها البيتة المذكورة التماسا لبركتهم ورغبة في دعائهم الصالح وحرصا في وضع الحكمة في أهلها عملا منهم بقوله (صلع) : “لا تمنعوا العلم أهله فتظلموا، ولا تضيعوه في غير أهله فتأثموا”
ومن هؤلاء العلماء الذين أتحفوا شيوخ الزاوية بمؤلفاته القاضي عياض وأبو الطيب الصفاقصي وأبو بكر ابن العربي وابن زهر الحفيد وأبو عمران المزياتي وغيرهم.
وفي الأخير هناك إشارات لها دلالتها من الناحية الاقتصادية كالإشارة إلى الفلاحة وانتشار كروم العنب وولجات الخضر على ساحل البحر مما يفيد أن دكالة عرفت بكل ذلك منذ القديم، وثمة ما يدل على حركة الوسق إلى سبتة على وجه الخصوص.
وقد كان “اللسان الغربي” كما وردت العبارة في هذا الكتاب وفي غيره هو اللسان العام برغم الزحف الهلالي على هذه المنطقة منذ عصر الموحدين، ولكن التعريب الشامل في دكالة وقع بالتدريج إلى أن تم بصورة نهائية وفي الكتاب ألفاظ عديدة من هذا اللسان الغربي، ومنها : تيط نفطر أي العين الباردة أو عين الفطر حسب التعبير الذي شاع، وتانوت أبي يعقوب أي بئر أبي يعقوب، وتاسخرت من الكلمة العربية السخرة أو المغرم الباطل كما فسرت في الكتاب.
وأما أسماء الأماكن في الكتاب فمعظمها بهذا اللسان مثل بئر تيمن كبدورت، وكدية تكنى وتاتوريت وغيرها. كما أن فيها ألفاظا مغربية ومصطلحات جغرافية مثل الحراز – حراز عين الفطر، والفحص – اصطلاح أندلسي عمم في المغرب والانصاف ودولة بمعنى صحة، وستوقفني فيه كلمة عريف بني فلان.
هذه جولة سريعة في هذا الكتاب الذي يعد أهم تراث  تاريخي عن مركز كان من مراكز الإشعاع، وكان له دوره في تاريخينا ثم أصبح ذكرى يحييها أهل دكالة في موسم سنوي، ولكن بقايا الأمغاريين لم ينسوا ميراثهم الذي يتوارثونه كما يورث الناس المال، فكانت لهم زواياهم في تامصلوحت وسايس دكالة وأبزو ومولاي إبراهيم، وكان لهم دور بارز في تاريخ الحوز مثلما كان لسلفهم في دكالة.
__________

* عرض ألقي في المهرجان الأول لدكالة المنظم بالجديدة سنة 1980 أي أنه سابق تاريخيا على ما في العدد 256 من هذه المجلة والعدد 33 من مجلة البحث العلمي، وهو منقول عن عمالة الجديدة.
1 يقول ابن القاضي في ترجمة عبد الخالق الأمغاري الصنهاجي : “من بني أمغار أصحاب تيط، وهو يزعم الشرف مع أن التادلي عرف ببعض سلفه وهو أبو عبد الله الأمغاري ولم يذكر لهم نسبا، وذكرهم غيره.
وهو رأس الطائفة الأندلسية الملعونة، ولقد شاهدت بمدينة مكناسة ثلمة عظيمة في الدين : أجلسوه على كرسي بجامعها الأعظم، وهو يتكلم في التصوف بزعمه ويضل العامة بمذهبه الشنيع، أهلكها الله من طائفة مضرة بالسنة السمحة… وهو حي من أهل العصر وله نظم ولم أذكره، بغضا في جانبه وطريقته وغيرة على أهل السنة أهل الله:.
درة الحجال 3 : 167-168، والطائفة الأندلسية المذكورة تنسب إلى محمد الأندلسي، ولقد أثارت فتنة كبيرة في مراكش وغيرها في العهد السعدي، ورد عليها بعض علماء ذلك العصر، راجع درة الحجال 2 : 36، 3 : 288 ودوحة الناشر : 109.

 

العدد 262 جمادى 1 و2 1407- يناير/ فبراير 1987

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق