مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

اليـقيـن ارتفاع الريب في مشهد الغيب

دة. ربيعة سحنون                             

باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

هو من الإيمان بمنـزلة الروح من الجسد. وبه تفاضل العارفون. وفيه تنافس المتنافسون. وإليه شمر العاملون. وعمل القوم إنما كان عليه. وإشاراتهم كلها إليه. وإذا تزوج الصبر باليقين: ولد بينهما حصول الإمامة في الدين. قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾[1].[2]

 ونزّل الحق تبارك وتعالى الموقنين به منـزلة الهدى والفلاح من بين سائر المؤمنين، فقال عز وجل: ﴿والذين يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾[3].

واليقين في جوهره نورٌ يودعه الله تعالى قلب عبده المؤمن، فيشهد الحقيقة كلها، ويشعر بالصدق مما يشهده، ويؤمن الإيمان الكامل بما يراه ويعاينه من فضل الله تعالى وإحسانه، مما يقوده إلى التصديق المتكامل الموصل إلى اليقين الذي لا ريب فيه.

وقد وقف الموقنون بالله عز وجل على حقائق التوحيد لله سبحانه وتعالى دون أدنى شك أو ارتياب، مصدقين بالغيبيات، ملتزمين بالعبادات، واثقين ثقة كاملة ومطلقة بالله عز وجل، ثقة تُورِّث اللجوء إليه وحده في كل أمر، والتصديق القلبي بأن الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار القادر الرزاق الرحمن الرحيم، رب العرش العظيم، بيده ملكوت السماوات والأرضين، وكل الأمور راجعة إليه.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا ترضين أحدا بسخط الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله، جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في السخط)[4].

ومَنْ كرسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما يشتد الكرب، ويعظم البلاء، يبدو يقينه به جلّ وعلا مثالا يحتذى، ولا كرب أشدّ عليه صلى الله عليه وسلم من ساعة الهجرة، حين يقول له الصديق رضي الله عنه: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، والرسول عليه السلام يهدئ من روعه بقوله: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) [5].

وقال عز وجل: ﴿إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾[6].

فالموقنون لا يرجون غير الله تعالى، ولا يخافونه إلا هو، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ولا يغيّر إيمانهم إذا ارتاب الضعفاء، لأنهم عرفوا الله عز وجل، وكانوا معه، فكان الله معهم، عرفوا معرفة اليقين أن النصر مع الصبر، وأن وعد الله حق، والله عز وجل لا يخلف الميعاد.

قال الجنيد رحمه الله: “اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب”[7]. وقال أيضا: “اليقين ألا تهتم لرزقك الذي كفيته، وتقبل على عملك الذي كلفته، فإن اليقين يسوق إليك الرزق سوقا حثيثا”[8].

ومتى تيقن قلب المؤمن بالله عز وجل وبما عنده، صار مطمئنا ساكنا، مرتاحا فرحا، غير مرتاب في فضل الله وكرمه عليه ورحمته به، فإنه “متى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم. فامتلأ محبة لله وخوفا منه، ورضا به وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه، فهو مادة جميع المقامات والحامل لها”[9].

والصوفية في سلوكهم لطريق الله عز وجل جعلوا من اليقين شعارا لهم، ومنزلة رفيعة، ورتبة سامية تنافسوا في بلوغها، وسعوا إلى تحقيقها، إيمانا منهم بأنها أعلى مقامات الدين، وخلة من أعظم خلال العارفين، وغاية المؤمنين الصادقين، وقطب رحى الدين، وعليها مدار الأمر كله، اقتداء واهتداء بالسيرة العطرة لسيِّد الموقنين، عليه أفضل صلاة المصلين وأزكى سلام المسلمين، “فشهدوه في كل شيء، وعرفوه عند كل شيء، ولم يشهدوا معه شيئا”[10].

 


[1] سورة السجدة، الآية 24.

[2] ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، 320/2.

[3] سورة البقرة، الآية 4- 5.

[4] نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي المصري(ت 807هـ): مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1422هـ/2001م، كتاب البيوع، باب الاقتصاد في طلب الرزق والإجمال فيه، رقم 6291.

[5] البخاري: الصحيح، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) ، رقم  4663.

[6] سورة التوبة، الآية 40.

[7] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 222. 

[8] المرجع السابق، ص: 223.

[9] ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، 321/2.

[10] ابن عجيبة: معراج التشوف، ص ص: 42 – 43.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق