مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

الوجد والتواجد

د. طارق العلمي

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

     الوجد[1] والوجود مصدران: فالأول معناه الحزن، والثاني معناه الوجدان، واسم فاعلهما واحد، ولا يمكن التفريق بينهما إلا بالمصدر، فيقال: وجد يجد وجودا ووجدانا، ووجد يجد وجدا؛ بمعنى أن يحزن، وأيضا وجد يجد جدة؛ بمعنى الغنى، ووجد يجد موجدة؛ بمعنى الغضب، والفرق بينها كلها بالمصادر لا بالأفعال وهذان المصطلحان يستعملهما الصوفية للدلالة على حالتين تجليان لهم في السمع.

    فالحالة الأولى متصلة بالحزن، والثانية بنيل المراد، وحقيقة معنى الحزن هو فقد المحبوب، والعجز عن نيل المطلوب، وحقيقة الوجود حصول المراد، والفرق بين الحزن والوجد، هو أن الحزن ينطبق على الأسف النفسي، وأما الوجد فينطبق على الأسف لوجود الغير في طريق المحبة، مع أن نسبة الغير لا تصح إلا لمريد الحق لأن الله سبحانه وتعالى لا يتغير عما كان قبل، وأنه ليستحيل أن نعبر عن حقيقة معنى الوجد، لأن الوجد هو الألم في المعاينة، والألم لا يصفه القلم، فالوجد إذا سر بين الطالب والمطلوب، ولا يظهر إلا بالانكشاف كما أنه لا يمكن أن نوضح حقيقة معنى الوجود لأن الوجود هو نشوة الطلب في مشاهدة الله تعالى، والطرب لا يمكن نيله بالطلب، فالوجود هو نعمة يكرم بها المحبوب الحبيب، نعمة لا يمكن أن تلحقها إشارة، أو تبينها عبارة، ورأيي أن الوجد هو ألم قلبي شديد ناتج إما عن حزن أو فرح، أو وجد ، والوجود هو إزالة الحزن عن القلب، والوقوف على الأمر الذي كان سببا لذلك، فمن شعر بالوجد فإما أن يكون مضطربا بالشوق المحرق في حال الحجاب، أو مستكينا بالمشاهدة في حال الكشف إما زفير وإما نفير، إما حنين وإما أنين، إما عيش وإما طيش، إما كرب وإما طرب، وللمشايخ آراء مختلفة في الوجود أيهما أكمل، فبعضهم يقول: أن الوجود هو صفة المريدين، والوجد صفة العارفين، والعارفون أرقى مرتبة من المريدين، وعلى ذلك يكون الوجد أرقى وأكمل من الوجود، لأنهم يقولون أن كل شيء قابل للوجود يدرك، والمدرك مجانس للمدرك في احتمال التحديد، والله سبحانه وتعالى منزه عن التحديد، وعلى ذلك فإن ما يجده الإنسان لا شيء اللهم إلا إذا كان مشربا، لكن الذي لم يجده، وعجز عن طلبه هو الحق، وواجده هو الله، وبعضهم يقول: أن الوجد هو نار الشوق للطالبين، أما الوجود فهو ما يكرم به العاشقون، وحيث إن العاشقين هم أرقى درجة من المريدين، فالتمتع بالعطية مع السكينة يلزم أن يكون أكمل من نار الطلب، ولا يمكن أن تحل هذه المسألة إلا بالحكاية الآتية: وهي؛ أتى الشبلي مرة إلى الجنيد وهو في حالة تواجد، فلما رأى الجنيد حزينا، سأله عما يؤلمه، فأجابه الجنيد: من طلب وجد، فقال له الشبلي: إنما من وجد  طلب، وقد شرح المشايخ هذه الحكاية بقولهم: أن الجنيد كان يشير إلى الوجد، والشبلي إلى الوجود، وإني أقول أن رأي الجنيد هو الحجة، لأن الإنسان متى علم أن مطلوبه الذي يعبده ليس مجانسا له لم يكن لحزنه نهاية، وقد شرحت هذا الموضوع في كتابي هذا.

    وقد أجمع المشايخ أن قوة المعرفة أكبر من قوة الوجد، لأنه لو كانت قوة الوجد أقوى لكان الإنسان المتأثر بها في مقام خطير، بينما أن من رجحت فيه كفة المعرفة فهو آمن، وعلى ذلك فالواجب على الطالب في جميع أحواله أن يكون متابعا للمعرفة والشرع الشريف، لأنه إذا غلب عليه الوجد حرم الخطاب، ولا يستحق الثواب على عمل صالح، أو العقاب على شر، ويكون بذلك مستثنى من الكرامة والإهانة على السواء، وعلى ذلك فإنه يكون في زمرة المجانين لا في مقام الأولياء والمقربين، فمن تغلب علمه على حاله بقي في دائرة الحفظ الإلهي ممدوحا على الدوام، ومثابا في قصور البهجة،ولكن من تغلب حاله على علمه فهو خارج عن الأوامر محروم من الخطاب، ويصير في محل نقضه إما معذور وإما مغرور. ومن كلام الجنيد يستفاد أنه يوجد طريقان طريق علم وطريق عمل، فالعمل بغير علم جهل ونقص ولو كان صالحا، والعلم عز وشرف ولو لم يصحبه العمل، ولذلك فقد قال أبو يزيد:  كفر أهل الهمة أشرف من إسلام أهل الأمنية. والكفر لا يتأتى لأهل الهمة، ولكن إذا جرى التقدير به فهم أكمل أيضا عن أمن أهل المنية بالإيمان، وقد قال الجنيد: إن الشبلي سكران، ولو أفاق من سكره لجاء منه إمام ينتفع به.

     ومن الحكايات المشهورة أن الجنيد ومحمد بن مسروق وأبا العباس بن عطاء كانوا مرة مجتمعين، وكان القوال يغني أبياتا، فيقي الجنيد ساكنا أما صاحباه فتواجدا، فلما سألاه لماذا لم يشترك معهما في السماع، تلا الآية: «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب» [سورة النمل، الآية 88] ، والتواجد هو تكلف الوجد بملاحظة نعم الله وآياته بالقلب والفكر في الاتصال والرغبة في أعمال الصالحين، وبعضهم يتواجد على حسب الرسم، ويقلدونهم بحركاتهم الظاهرة مثل هذا التواجد حرام، والبعض يفعلونه بمعنى روحاني رغبة في الوصول إلى حال ومقام كبار المتصوفة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم. وقال أيضا: إذا قرأتم القرآن فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وإن هذا الحديث يدل على جواز التواجد، ومن ذلك ما قاله ذلك المرشد: إني لأمشي ألف ميل في الباطل رغبة في أن تكون خطوة منها على حق.   



[1] الهجويري: كشف المحجوب، ضبط وتحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، وتوفيق علي هبة، مكتبة الثقافة الدينية، ط. الأولى: 1428هـ-2007م، 460-462. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق