مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

المنهج النبوي في الجمع بين الترغيب والترهيب من خلال سيرته العطرة

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

بقلم: الباحث د. محمد بن علي اليولو الجزولي

      لقد دعت الأديان السماوية، والمناهج الصائبة إلى مخاطبة وجدان الإنسان وفق ركيزتين أساسيتين، هما: الترغيب والترهيب ، وذلك لأجل إصلاح شأنه ليكون إنسانا فاعلا له دور في الحياة؛  بحيث أنه من الحكمة والتبصر الجمع والموازنة بينهما، ليستطيع الإنسان العيش بين الرجاء والخوف؛ فإذا عاش الإنسان وفق هذا المنهج لم ييأس من سعة رحمة الله تبارك وتعالى، فيصلح حاله، ويصبح إنسانا إيجابيا منتجا مستقيما له بصمة في الحياة.

      وقد  ظهرت مناهج وفرق عدة على مرِّ التاريخ البشري حاولت إعتماد منهج الترغيب دون منهج الترهيب، أو العكس، فظهرت فرقتان،  الأولى: تسمى : بالخوارج، والثانية : بالمرجئة، فالأولى ركزت على الترهيب، والآخرى على الترغيب؛ فكانت نتائج منهجهما وخيمة على البشرية، لذا جاء الإسلام دين الفطرة والعقل والوسطية ليصلح ذلك من خلال منهج الجمع بينهما، بحيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أروع الأمثلة من خلال سيرته مع أهله وأصحابه رضوان الله عليهم.

شرح مفاتيح العنوان:

أولاـ تعريف المنهج لغةً، واصطلاحًا:

1 ـ المنهج لغة: “من: نَهج الأمر: وضَح، يقال: اعمل على ما نَهَجْتُه لك، ونَهج فلان الطريق: سلكه. واسْتَنهج الطريقُ: صار نَهجًا واضحًا بينًا. والنَّهْجُ: بفتح فسكون: الطريق الواضح، كالمنهج والمنهاج قال تعالى: ﴿ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾[1].

2 ـ المنهاج اصطلاحا: المنهج هو: “الطريق المؤدي إلى التعرف على الحقيقة في العلوم ؛ بواسطة طائفة من القواعد العامة ؛ والتي تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ؛ حتى يصل إلى نتيجة معلومة ، وبعبارة أوجز : هو القانون ، أو القاعدة التي تحكم أي محاولة للدراسة العلمية ، وفي أي مجال …وهو ما يسمى عند المحدثين من العلماء بفلسفة العلوم[2].

     ولذا يمكن أن يقال : إن المنهج يحفظ للعلم نظامه واتساقه ، كما أنه يضبط العقل البشري ، والأعمال الذهنية ، بقواعد ثابتة ، بحيث تعينه على الوصول إلى الحقيقة فيما يبحثه من موضوعات[3].

ثانيا ـ تعريف الترغيب لغةً، واصطلاحًا: 

1 ـ الترغيب لغة : ” الرَّغْبُ، والرُّغَبُ، والرَّغَبُ، والرَّغْبَةُ والرَّغَبُوتُ والرُّغْبَى والرَّغْبَى والرَّغْبَاءُ: الضَّراعة والمسألة وفي حديث الدعاء” رغبة ورهبة إليك… ورغب يرغب رغبة: إذا حرص على الشيء وطمع فيه والرغبة: السؤال والطمع وأرغبني في الشيء ورغبني بمعنى… ورغبه: أعطاه ما رغب قال ساعدة بن جؤية:

 لقلت لدهري إنه هو غزوتي … وإني وإن رغبتني غير فاعل”[4].

2 ـ الترغيب اصطلاحًا : ” تحبيب الإنسان في عبادة الله تعالى، وفعل الخير، وعمل الصالحات، ومكارم الأخلاق، والقيام بكل ما أمر الله به في كتابه وعلى لسان نبيه وقيادته إلى ذلك بزمام الرغبة فيما رتب الله تعالى على ذلك من حسن الجزاء وجزيل المثوبة في الدنيا والآخرة”[5].

ثانيا ـ تعريف الترهيب لغةً، واصطلاحًا:

1 ـ الترهيب لغة :” رَهِبَ خاف وبابه طرب و رَهْبةً أيضا بالفتح و رُهبا بالضم ورجل رَهَبُوتٌ بفتح الهاء أي مرهوب يقال رهبوت خير من رحموت أي لأن تُرهب خير من أن تُرحم و أرْهَبَهُ و اسْتَرْهَبَهُ أخافه و الرَّاهِبُ المتعبد ومصدره الرَّهْبَةُ و الرَّهبَانِيَّةُ بفتح الراء فيهما و التَّرَهُّبُ التعبد”[6]. 

2 ـ الترهيب اصطلاحًا:” وعيد وتهديد من الله سبحانه وتعالى بعقوبة عاجلة، أو آجلة لتخويف العباد من اقتراف الذنوب والمعاصي، أو التهاون في أداء الفرائض التي أمر الله بها”[7]. 

نماذج من المنهج النبوي في الجمع بين الترغيب والترهيب من خلال سيرته

      لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الجمع بين أسلوب الترغيب والترهيب في سيرته مع أهل بيته، ومع أصحابه رضوان الله عليهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:” عُرضت علي الجنة والنار آنفا في عُرض هذا الحائط، وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر[8].

    وأسوق هنا بعضا من النماذج التي وظف فيها النبي صلى الله عليه وسلم  أسلوب الترغيب والترهيب، من خلال محطات مختلفة من سيرته العطرة منها:

1 ـ مرحلة الدعوة المكية:

      وهي فترة مفصلية في تاريخ المسلمين، حيث عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المستضعفون ظروفا قاسية لا تطاق، وحملوا هموما تنوء عنها شمُّ الجبال، فكانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم بلسما شافيا لهم، يرغبهم ويمنيهم بالجزاء الأوفى يوم لقائه إذا صبروا على لأواء الطريق، قال خباب بن الأرت رضي الله عنه:” أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال:” لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الركاب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله “[9].

      ولما نزلت ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) [10] صعد النبي صلى الله عليه و سلم على الصفا فجعل ينادي: “يا بني فهر، يا بني عدي”، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء، أبو لهب وقريش فقال:” أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي”، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا قال: ” فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد[11].

      ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بعمار بن ياسر وأهله يعذبون في الله عز وجل قال مواسيا ومرغبا لهم:” أبشروا آل ياسر، موعدكم الجنة[12].

2 ـ في الهجرة:

رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا ترغب الصحابة في الهجرة إلى المدينة المنورة قال:” رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب[13].

3 ـ في غزوة بدر:

      لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار والمهاجرين في قتال مشركي قريش ببدر، وكلهم طمع في قتالهم سُرّ النبي  صلى الله عليه وسلم، فبشرهم ورغبهم في اللقاء  فقال:”سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم[14].

      ولما دنا المشركون من المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض “، فقال عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه:” يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟!! قال:” نعم “. قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما يحملك على قولك بخ بخ؟ “قال لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال « فإنك من أهلها ». فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، – قال – فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل[15].

      وأكتفي بهذه الأمثلة التي تغني عن غيرها لأن المقام مقام إشارة وتنبيه لا مقام استقصاء وحصر؛ وإلا فإن السيرة النبوية العطرة غنية في هذا الباب.

فأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا هذا العمل، ويتجاوز عنا بموفور عفوه وغفرانه.

****************

لائحة المصادر والمراجع:

 

1.أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية: لأحمد علي الملا، دار الفكر، دمشق، ط2، 1401هـ/1981م.

2.أصول الدعوة: د. عبد الكريم زيدان ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط3، 1414هـ/1993م.

3.تاج العروس من جواهر القاموس: لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني ، أبو الفيض ، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية، ب.ت.

4.الجامع الصحيح المختصر: لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3 ، 1407هـ/ 1987م.

5.العلم والبحث العلمي: دراسة في مناهج العلوم: لحسين عبد الحميد رشوان، المكتب الجامعي الحديث، القاهرة، 2004م.

6.مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الفكر، بيروت،  1412 هـ.

7.مختار الصحاح: لمحمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، ت : محمود خاطر ، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415هـ/ 1995م.

8.المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت،  ط1، 1411هـ/1990م.

9.المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، درا طيبة،الرياض، ط1،  1427هـ/2006م.

10.المفردات في غريب القرآن: لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، ت: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق، بيروت، ط1، 1412 هـ.

11.المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري: د. يوسف القرضاوي

12.منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية: لجلال موسى، الشركة العالمية للكتاب، 1988.

هوامش المقال:

****************

([1])  ـ سورة المائدة : (48) ينظر: المفردات في غريب القرآن للأصفهاني (ص: 506)،  وتاج العروس باب: الجيم، فصل: النون، مادة (ن. هـ. ج)، (6 / 251).

([2])  ـ انظر : العلم والبحث العلمي: لحسين عبد الحميد رشوان (ص :143- 145)

([3])  ـ انظر : منهج البحث العلمي عند العرب: لجلال موسى (ص: 273) ، وانظر : أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية: لأحمد علي الملا (ص: 115).

([4])  ـ لسان العرب (1 /422) مادة: (رغب).

[5] – المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري (1 /9).

[6] – مختار الصحاح للجوهري (1 /267)، مادة: (رهب).

[7] – أصول الدعوة: د. عبد الكريم زيدان (ص: 6).

[8] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: وجوب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يُكره من كثرة السؤال (9 /95) (7294).

[9] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل الصحابة، باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (3 /1398) (3639).

[10] – الشعراء: 214.

[11] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الشعراء  (4 /1787) (4492).

[12] – أخرجه الحاكم في المستدرك (3 /388)، وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (9 /293): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقدم، وهو ثقة.

[13] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3 /1326) (3425).

[14] – أخرجه الحاكم في المستدرك (3 /388)، وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (9 /293): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقدم، وهو ثقة.

[15] – أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد (2 /917) (1901).

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق